وباء كورونا بين الهلع الفردي والهلع الجماعي:
يقرر القرآن الكريم في كثير من آياته حقيقة علمية نفسية هي خلق الانسان “هلوعا”، منها قوله تعالى:” إن الانسان خلق هلوعا”[1]، ومعناه أن الهلع مكون من مكوناته، وتركيب من تركيباته، لا ينفك عنه كباقي الغرائز، تتلخص مظاهره في صفتين مركزيتين: الجزع عند مس الشر، والمنع عند مس الخير، فهاتان الصفتان تعود جذورها إلى أن الإنسان في أصل خلقه فُطر على حب ذاته، وحب الذات تفرع عنه حب سلامته، الذي تفرع عنه بدوره حب كمال سلامته وبقائه وحياته، ما يعني أنه يعيش بين تطرفين: تطرف في الخوف على نفسه من الموت والفقر والمرض والألم بصفة عامة “جزوعا”، وتطرف في حبها “منوعا”، بحرصه على ما في يده ألا يصل إلى غيره، فلا يرى نفسه إلا في مرآة حب الذات، وهذا التطرف لا علاج له سوى الاسترشاد بتعاليم الخالق حتى يعيش الانسان وسطية واعتدالا بينهما.
فربما لم تعش البشرية هلعا جماعيا من قبل مثل ما تعيشه الآن، جزع في كل تجلياته: روحي ونفسي وعاطفي واجتماعي وثقافي وسياسي واقتصادي، ومنع بكل تجلياته: منع المساعدات الطبية، ومصادرتها أحيانا أخرى، وغلق الحدود، وغلبة النزعة الفردية، والبحث عن الخلاص الفردي لكل دولة بمفردها، إنه الهلع في شكله الجماعي والدولي.
كورونا وفتنة العلم المزيف:
وربما لم تعش البشرية حالة من الدعاء الجماعي والضعف والعجز العالمي من قبل مثلما تعيشه الآن، فقد قرر القرآن حقيقة أخرى في ارتباطها بهلع الانسان، هي أنه حين يمر بمرحلة “مس الضر” تتوارى عنده كل أسباب القوة المادية التي ظن أنه استغنى بها عن الخالق، فطغى عليه وعلى نفسه وغيره، وتستفيق فيه تلك الفطرة والغريزة الايمانية التي تنبهه من غفلته، ويتبرأ من حوله وقوته “دعا ربه منيبا إليه”[2]، فما أن ينكشف عنه ضره حتى يعود سيرته الأولى،” ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ”[3]، متناسيا ضعفه وعجزه وربه الذي جأر إليه عن قريب، ومر مرور الناسين لخالقهم، الناسين لعجزهم ودعائهم وضرهم.
هو ذا الانسان الظلوم الجهول، ما أسرفه على خالقه؛ فما قدره حق قده، و ما أسرفه على الكون والعباد، إذ استغنى بعقله؛ فما لبث أن جعل لله أندادا، أكبرها “العلم المزيف” الذي جعله يظن أنه قادر على الدنيا، فلا سلطان فيها إلا للعلم المستند على التجربة والعقل، فقد “مات الإله والحياة مادة”، وأنكر ما دون ذلك من حقائق الايمان والغيب، فجادل فيها،” وكان الانسان أكثر شيء جدلا”[4]، وبلغ به الغرور أن ظن أنه سيد الطبيعة، المالك لها والمسيطر عليها، تتويجا لمسيرته العلمية الحافلة باكتشافه بعض قوانين الطبيعة، قائلا ” إنما أوتيه على علم”.
فتلك فتنة “العلم” المزيف التي جعلت قارون يبغي على قومه، فينبه قومه، فيقول “إنما أوتيته على علم عندي”، فما أجهل قارون بقراءة سنن الله الكونية، وما أشبه جهل الانسان المعاصر به أو أشد، إذ نصب نفسه حاكما على الطبيعة، كافرا بخالقهما.
القراءة القرآنية وشروط العلم:
لا عجب أن كان أول أمر الله للإنسان في كتابه “اقرأ”[5]، فالقراءة مفتاح الوصول إلى معرفة الخالق والكون والنفس، فلم يتركه من غير تحديد لمفهوم القراءة المقصودة؛ بل علمه منهج القراءة ببيان أسسها وغاياتها ومجالها وحدودها.
فالمتدبر للقرآن الكريم يجد أنها قراءة قصدية غائية تستحضر الخالق ابتداء بالاستعانة به في تحقيق أمر القراءة التي لا يخرج مجالها عن العلوم الانسانية والعلوم الطبيعية، أي الطبيعة والانسان بكونهما خلقا من مخلوقات الله، وتستحضر معيته، وكرمه المطلق في الحال والحاضر، لضبط مسار العلم والمعرفة بغية تحقيق الغاية من الخلق، حتى لا ينحرف عنها، استخلافا وتسخيرا، وذلك بضبط العلم بالأخلاق، وتحقيقا لمعنى قول الخالق سبحانه” سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق”[6]، فما يزال الأكرم يكرم الانسان بإراءته آياته في الكون ونفسه، ليتبين له “أنه الحق”، وتستحضره نهاية “إنك إلى ربك الرجعى”[7] لإعطاء معنى للقراءة والوجود، فهي قراءة ثلاثية الأبعاد في الزمان والمكان، تجيبنا عن الأسئلة الوجودية الكبرى: سؤال الأصل والغاية والمصير.
كما حدد حدودها، وجعلها قراءة نسبية محددة بحدود العقل والتجربة،” وما أوتيتم من العلم إلا قليلا”[8]، فلا مطمع لها في أن تدرك عالم الغيب، وتحاكمه بأحكام عالم الشهادة؛ بل تصل به إلى أبواب الايمان، فتفتحها له، ليلج عالم الايمان والغيب، فيخلص إلى أن يقول: “ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار”[9]، فقد أدى العقل غايته، ولا معنى لاستصحابه بعدها، إذ استصحاب الدليل بعد الوصول ذهول وعناء، “وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه، بل العقل ميزان صحيح فأحكامه يقينية، لا كذب فيها؛ غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوءة وحقائق الصفات الإلهية، وكل ما وراء طوره؛ فإن ذلك طمع في محال”، كمن أراد أن يزن الجبال بميزان الذهب، على حد تعبير ابن خلدون، فالعقل يسبك التجربة وينظمها في إطار الزمان والمكان وينظمها وفق ما تمده به الحواس، لكنه لا يستطيع تجاوز الظواهر والمحسوسات، فإن تجاوزها وقع في التناقض، ولم يحصل معرفة يقينية، كما يرى كانط.
فما أوتيت العلوم الغربية إلا من جهة تغييبها لشروط القراءة القرآنية، واستغنائها بالعقل والتجربة عن الايمان، فترتب عنها موت الإله، وموت الانسان، بكل ما نتج عن ذلك من نتائج كارثية عالمية على حياة الانسان في كل أبعادها، فما الإلحاد والرأسمالية المتوحشة إلا ابني سفاح أنجبهما العقل الغربي بزواجه بالمادة.
فما أشقى الانسان بعلم اكتسبه دون أن يستحضر شروط القراءة القرآنية، فكل قراءة لا تكشف للإنسان جهله، وتربيه ليتواضع للعليم الحكيم، وتقربه منه إنما يطغى بها، ولا يستحق صاحبها اسم القارئ، فلا بد أن يصحح له العليم مسار القراءة، ويعيدها من جديد.
فلعل هذا الوباء يكون فرصة لتلبية الدعوة الإلهية للإنسان مرة أخرى أن “اقرأ باسم ربك الذي خلق”[10]، ثم أن “اقرأ وربك الأكرم”[11]، باستحضار شروط القراءة القرآنية، ولعلها وقفة ليصحح الانسان القارئ للكون المنظور أخطاءه، باستبعاده للكتاب المسطور الذي لن يتحقق فهم الأول على الحقيقة إلا به، فكل قراءة لن تبلغ المراد؛ مالم تلتزم بشروط الكاتب في القراءة، فلا أعلم بالكتاب من الكاتب، فمن ادعى علما بالكتاب المسطور دون علم بشروط خالقه طغى بعقله، فرأى الحق باطلا والباطل حقا.
“قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ”[12]، فيالها من دعوة كريمة من الرب الأكرم للإنسان العبد قهرا واختيارا، المسرف على نفسه، ألا يقنط من رحمته ومغفرته، وما أعظمها من منة أن يرحمه بنور العلم؛ ليكفر عن خطيئة الجهل بخالقه ونفسه وغيره والكون من حوله، دعوة لاستئناف القراءة: قراءة النفس والكون على ضوء شروط خالق الكتاب المنظور ومنزل الكتاب المسطور، قراءة غايتها الكبرى الرجعى إلى رب الانسان.
ولعلها كذلك فرصة لتوبة علمية تعرف الانسان خالقه ونفسه والكون من حوله، وقراءة تستحضر معنى الحياة من خلال مرآة الموت، وتحيي الانسان الذي جعل ميشيل فوكو بموته من الحياة والوجود عبثا بلا معنى، وتحيي الإله الذي قتله نيتشه، فنصب الانسان الخارق إلها مكانه.
[2] سورة الزمر، الآية8
[3] سورة الزمر، الآية 8
[4] سورة الكهف، الآية 54.
[5] سورة العلق، الآية 1
[6] سورة فصلت، الآية 53.
[7] سورة العلق، الآية،
[8] سورة الإسراء، الآية 85
[9] سورة آل عمران، الآية 191.
[11] سورة العلق، الآية، الآية 3