شكلت قضية فلسطين إحدى أكبر القضايا الهامة التي تم نقاشها والتفكير فيها، ومحاولة بلورة خطاب لها ضمن الخطاب العربي المعاصر. وكان محمد عابد الجابري من أهم الأعلام المفكرة في خارطة الفكر العربي المعاصر، ومن أبرز المثقفين المغاربة، الذين حملوا لواء التنوير والنقد بهدف البناء، والتخلص من إرثٍ استعماري أثقل كاهله، وبذلك انفتحت إسهاماته الفكرية على أسئلة السياسة والوطنية والقومية. وكانت القضية الفلسطينية من أهم المواضيع التي شغلت الجابري، وأعطاها مساحة كبيرة في التفكير والنضال السياسي. فهذا طبيعي لأن الجابري كان مثقفاً ملتزما بقضايا أمته، وكان يعتبر المثقف هو ذلك الشخص الذي لا يكتفي بممارسة النشاط الفكري النابع من الوعي والفهم وسعة الأفق فقط، بل هو صاحب رسالة يبحث عن كشف الحقيقة، ويكون شجاعاً في الدفاع عنها. وهو بهذا المعنى ظل يدافع عن القضية الفلسطينية ويمارس النضال من خلالها؛ إذ يعتبر أن تحرير فلسطين لن يتأتى إلاّ بتحرير البلدان العربية من الاستبداد وإقرار الديمقراطية. وأنه لا يمكن أن نركز أنظارنا فقط على مؤشرات الهزيمة في الصراع الفلسطيني الصهيوني، ونهمل مؤشرات النصر، وإلا سقطنا في النموذج الإدراكي الإنهزامي الذي يفقدنا الأمل في حل ّآخر قضية استعمارية في المنطقة.
دعم فلسطين هو دعم للقضية الديمقراطية في بلداننا
سُئِلَ ذات مرة المرحوم الجابري في حوار تلفزي، حول سبب ضعف التظاهرات الشعبية المساندة لفلسطين في الدول العربية، وهل يمكن أن يرتبط ذلك بمدى توسيع الفضاء الديمقراطي؟ وكانت إجابة الأستاذ الجابري على ذلك، أن مظاهر التضامن في الأقطار العربية مع فلسطين تتفاوت حسب هامش الحرية الموجود، وأيضاً حسب الوعي السياسي في كل بلد. إلاّ أن الجابري كانت له رؤية فريدة مغايرة للرؤية التي تقول “كلما كانت الديمقراطية متوفرة كان من الممكن قيام تضامن”. بل قد يحدث العكس، أن التضامن مع فلسطين يمكن أن يكون وسيلة لممارسة مظهر من مظاهر الديمقراطية أو القيام بشكل من أشكال النضال من أجل الديمقراطية. ويعطي الجابري مثالاً على ذلك من التاريخ السياسي والنضالي الذي عاشه مع حزبه في المغرب، حيث أنه في أواخر الستينات وأوائل السبعينات، كان حزب الاتحاد الاشتراكي يعاني التضييق والمنع، وكل صحفه موقوفة، ولتجاوز هذه المشكلة أنشأ الحزب جريدة “فلسطين”. ومن خلال هذه الجريدة تمت ممارسة السياسة ومواصلة النضال من أجل الديمقراطية في المغرب باسم فلسطين. وكانت هذه الجريدة المختصة فقط بفلسطين، وبأخبار فلسطين ومساندة الكفاح الفلسطيني، مركزاً للقاء وتبادل الأخبار إلخ. ولم تكن هناك أيّة مضايقة من طرف السلطة في المغرب الذي له تقاليد خاصة، فهو يترك عملاً من هذا النوع يمضي، وهل من المعقول أن يقمع جريدة “فلسطين”؟
ومن خلال هذا يؤكد محمد عابد الجابري على أنه من خلال القضية الفلسطينية تمت ممارسة السياسة والحرية السياسية في المغرب زمن القمع. وأن العمل النضالي من أجل الديمقراطية، أو من أجل فلسطين، أو من أجل الاستقلال، أو من أجل التضامن مع قضايا التحرر هو عمل مترابط. حيث يمكن للإنسان، من خلال النضال مع فلسطين في بلد عربي، أن يدعم القضية الديمقراطية.
الرؤية الانهزامية وإهمال مؤشرات النصر
يرى الجابري رحمه الله، أن الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى سنة 200) كانت مرحلة فارقة في تاريخ القضية الفلسطينية، وأنها فتحت أعيننا على عدّة أمور؛ إذ اعتدنا أن نرى الأمور من زاوية هزائمنا نحن. في حين أن النظرة الموضوعية تقتضي النظر إلى الموضوع أيضاً من خلال خسارات الخصم. فماذا خسر الخصم الصهيوني؟ لقد مرت أزيد من مائة سنة على قيام الفكرة الصهيونية كمطلب لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، ومنذ ذلك الوقت والحركة الصهيونية تبني عملها على المسكنة، وعلى أنها مظلومة، وعلى أن اليهود مشردون إلخ. إلاّ أنهم خسروا مناصرة الرأي العام لهم في أوربا وأمريكا، التي كانت مبنية على تقديم الصهاينة لأنفسهم بذلك الشكل. مع انتفاضة الأقصى التي وقف الرأي العام العالمي فيها ولأول مرة مع فلسطين. حيث انطلقت مظاهرات في أوربا نفسها تأييداً لانتفاضة الأقصى. ويعتبر الجابري ما وقع آنذاك تطور تاريخي، لأنه يفتح أمامنا آفاق التفكير الجدي في كون المشروع الصهيوني من النيل إلى الفرات ما عاد ممكناً أن يكون موضوعاً للتفكير حتى في إسرائيل ذاتها.
ويمكن أن نقيس ذلك على ما يقع اليوم في “معركة طوفان الأقصى” التي على إثرها شاهدنا تظاهرات واسعة تدعم فلسطين حتى في عواصم غربية كبرى. ناهيك عن التقدم الذي أحرزته المقاومة الفلسطينية في الميدان، وفي مواجهة برية لأول مرة منذ سنة 1973، وجعلت العدو الصهيوني في مأزق أبان عنه بهمجيته ورده عبر قصف المدنيين والأطفال، وما تعيشه إسرائيل اليوم هو وضع محيّر لخصه كاتب إسرائيلي في صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية بقوله إن كل ما تفعله إسرائيل الآن “لا معنى له”، حتى لو نجحت في القبض على قائد كتائب القسام، محمد الضيف، لأن مفاجأة السبت أحرقت كل شيء.