بعد أن اجتاح العالم وباء كوفيد-19، طرح ستيف سيدمان سؤالًا نال استهجان كثيرين: لماذا تجاهلت الدوريّات الرئيسيّة في مجال العلاقات الدوليّة الجوائح والأوبئة؟ الإجابة حسب ستيف، أنّ باحثي العلاقات الدوليّة معروفُ عليهم إطّلاعهم الدائم على ما تنتجه العلوم الإنسانيّة التي تُشاركهم همومهم المعرفيّة، لكنّهم نادرًا ما التفتوا إلى العلوم المعنيّة بدراسة الأوبئة والأمراض، حتى وإن قاموا بذلك،خصوصا الذين اعتمدوا مقاربات عابرة للتخصصات، إلا أنّ عقبات عديدة ستواجههم لا تقتصر على أساليب الكتابة والتأليف المختلفة عما ألفوه، ولكنّهم المُراجعون في كبرى المجلات في أوروبا وأمريكا الشماليّة من يركنون إلى كل ما هو تقليديّ أو ما اصطلح عليه ‘مناطق الراحة’، بسبب وفرة النماذج المفسّرة والمرشدين والمؤطرين لقضايا الحرب والتجارة والسياسة الخارجيّة.
ستيف، وإن كان محقًا فيما ذهب إليه، إلا أنّ تركيزه على ما نُشر في هذا النوع من المجلات، حجب عنه حقيقة أنّ ‘الصحة العالميّة’ ‘Global Health’ أصبحت مجالًا فرعيًا من مجالات العلاقات الدوليّة منذ قرابة عقدين من الزمن، والفضل في ذلك يعود للمراجعات التي قدّمها من أسماهم روبرت كيوهين ‘التأمليّون’،المنضوون تحت العلامة الكبرى ‘الدراسات الأمنيّة النقديّة’ (CSS)،الذين قدّموا بتعبير جواو نونيس João Nunes أفضل المقاربات والأدوات التحليليّة لدراسة ‘الصحة العالميّة’. في الحقيقة، لباحثي الأمن النقديين الكثير ليقولوه عن وباء كوفيد-19، لا عن جينوم فيروس كورونا ولكن عن حقيقة تقديمه تهديدًا أمنيًا، وعن عالم ما بعد كوفيد-19، لا بوصفه عالما أقل انفتاحًا كما زعم وولت ولا أكثر ليبراليّة حسب ناي، ولكن عن عالم ستتجاذبه رؤيتان، بين من سيطالب الدول لتضفي المزيد من الطابع الأمني على قضايا الصحة، ومن سيدعو لوقف استخدام الصحة أداةً لإطالة الهيمنة مهما كانت طبيعتها سياسيّة، اقتصاديّة أو اجتماعية. هاتان الرؤيتان ليستا حكرًا على عالم ما بعد كوفيد-19، ولا على أيّ عالم مستقبلي قد يشهد جوائح مماثلة، ولكنّ ظهورهما سيبقى مرتبطًا بالطريقة التي ستقارب بها الدول ومختلف الفاعلين ‘صحّة البشر’. ولعلّها الإضافة التي قدّمها لنا باحثو الأمن النقديين، دعوتهم لأخذ قضايا الصحة في العلاقات الدوليّة على محمل الجِد، من خلال الإجابة-كلٌ على طريقته- على السؤال التالي؛ هل سيكون الأفراد أكثر أمنًا في حال لجأت الدول والمنظمات الدوليّة إلى أمننة بعض الأمراض والأوبئة؟
ولأننّا لا نزال نعايش جائحة كوفيد-19 لم يباشر باحثو الأمن النقديين دراساتهم بعد، لكننا سنحاول من خلال عرض الطريقة التي قاربوا بها ‘الصحة’ في مجال العلاقات الدوليّة سابقًا، أن نضع خريطتهم المفهوميّة والتحليليّة التي يمكن أن يستخدموها مستقبلًا ليجيبوا عن سؤالهم القديم المتجدّد.
لقد كانت بداية تأسيس منظور المدرسة الأمنية النقدية برفضها للوظائف التي تؤديها نظريات العلاقات الدولية، كالتفسير والاستنباط العقلانيّ المُحايد، لأنّها بزعمهم أفقرت وأضعفت فهمنا لطبيعة العلاقات المعقّدة الموجودة بين الدول وبقيّة الفاعلين، كالتفسير والاستنباط العقلانيّ المُحايد، لأنّها بزعمهم أفقرت وأضعفت فهمنا لطبيعة العلاقات المعقّدة الموجودة بين الدول وبقيّة الفاعلين، وقاموا بمساءلة أغلب التعريفات المقدّمة لمفاهيم العلاقات الدوليّة المركزيّة، خاصة مفهوميّ ‘الدولة’ و’الأمن’، كباري بيوزان الذي وضع نوعًا من المُحاكاة بين ‘الأمن القومي’ و’أمن الأفراد’ بقوله: لقد واجهنا صعوبة كبيرة في وضع قائمة بالأمور التي يجب تأمينها للفرد، هل هي حياته، ثروته، مكانته الاجتماعية أم حريّته، إنّ الأمر معقّدٌ فما بالك بباحثي الدراسات الإستراتيجيّة الذي وضعوا الدولة مرجعًا رئيسيًا للأمن القومي، أمن من يقصدون؟ هل يمكن للدول أن تموت كما الأفراد؟ وإن كان كذلك، ما معايير الحُكم على موتها؟ أسئلة بيوزان وآخرون مثله، كانت كفيلة بظهور ‘مساحة تفكير جديدة’و’مسارات بحثيّة’استندت كل منها على تراث فلسفيّ معيّن؛ تراث النظريّة النقديّة ما بعد الماركسيّة (الألمانيّة)، تراث البِنائيّة في العلاقات الدوليّة وتراث النظريّة الاجتماعية الفرنسيّة (ما بعد البِنيويين).
فكانت النتيجة أن أصبحنا أمام فُهومٍ جديدة للأمن، مواضيع مرجعيّة جديدة للأمن تتجاوز الدولة، وتهديدات جديدة لا تقتصر على المجال العسكري. والأهم من ذلك، أن اعتلت الصحة هرم الأولويّات البحثيّة للعلاقات الدوليّة بسبب ظهور ثلاثة من أكثر المنظورات شهرة في تناول العلاقة بين ‘الصحة’ و’العلاقات الدوليّة’، منظورات لا تزال تثير جدلًا أخلاقيًا في كل مرة يصيب العالم أمراض وأوبئة مستجّدة؛
والحديث هنا عن منظور ‘الأمن القومي’، ‘منظور الأمن الإنساني’،و’المنظورات المناهضة لأمننة الصحة’.
أول إسهام للمدافعين عن ‘منظور الأمن القومي’ للصحة أنّهم رافعوا، لصالح تقديم الأمراض والأوبئة الجائحة تهديدات أمنيّةيضاهي خطرها خطر الحرب والصراعات المسلّحة، وعن تقديم ‘الأمن الصحي’ للدول باعتباره بعدًا رئيساً يُضاف إلى باقي أبعاد أمنها العسكري والسياسي والاقتصادي والبيئي. وللقيام بذلك، بذلوا جهودًا مضاعفة ليثبتوا، وبالدلائل الإمبريقيّة التي استمدوها من أكثر الدول ضُعفًا في المنظومة الدوليّة كبعض دول إفريقيا وآسيا، أنّ فيروس نقص المناعة (HIV)، داء السل، الملاريا، السارس، الإيبولا، المارس وغيرها من الأوبئة، تشّكل تهديدًا حقيقيًا لاستقرار الدول وجاهزيّة جيوشها استنادًا إلى الحقائق التاليّة؛ ذلك أنّ نسبة الوفيات جراء الإصابة بهذا النوع من الأوبئة تُضاهي وربما تتجاوز نسبة الوفيات جرّاء الحروب والصراعات التقليديّة؛ أي أنّها تقوّض القدرات الإنتاجيّة والماليّة للدول وتساهم بشكل غير مباشر في زيادة حدّة الاستقطاب السياسي والمنافسة بين النخب المحليّة؛ خصوصا وأنّها تساهم وعلى المدى الطويل في إضعاف القدرات العسكريّة للدول في حال انتقال العدوى إلى الأفراد العسكريين، أصحاب الرُتب العليا أو الدنيا، المنتمون للجيوش المحليّة أو المتواجدون على أراضي الدول الموبوءة، فكم من مرة ثبت إصابة الجنود الأمريكيين بالملاريــا وبحمّى الضنك بسبب مشاركتهم في عمليات عسكرية خارج الحدود الأمريكية في الصومال وهاييتي وشبه الجزيرة الكورية، وبنقلهم هذه الأمراض إلى الداخل الأمريكي؛ ومن ثم يمكن أن تتفاقم معضلة الأمن الإقليمي بسبب خاصية الانتشار وعدم احترام الحدود التي تتميّز بها، فقد تستغل الدول المجاورة للدول الموبوءة الفرصة لتغلق حدودها لمنع انتشار المرض، وأخرى لملء فراغ القوة والاستيلاء على المزيد من الأراضي ذات القيمة الإستراتيجيّة العاليّة .
لقد اعتبر المدافعون عن ‘منظور الأمن القومي’أنّ ‘أمننة الصحة’ Securitization of Health أمرٌ إيجابيٌّ لأنّ ‘الأمننة’، كما هو معروف عنها، ليست مجرد أداة لغويّة تقوم بإضفاء الطابع الأمني على قضايا لم تكن أمنيّة من قبل، لكنها عمليّة ومسار بأكمله تنتقل بقضايا ‘الصحة العامة’ من مكانها التقليدي كأحد قضايا السياسة الدنيا إلى قضايا السياسة العليا، ومن محاسن ذلك أنّنا سنكون أمام منسوب وعي وطني وعالمي كبير بخطورة الأمراض والأوبئة الجائحة على صحة الإنسان وحياته، وأمام تعبئة كبيرة للموارد الوطنيّة والدوليّة لبناء وتعزيز قدرات الدول والشبكات والأنظمة الدوليّة في قطاع ‘الصحة العامة’ و’الصحة العالميّة’، كما ورد في تقرير منظمة الصحة العالمية الصادر سنة 2007؛وملخص حجج هذا المنظور ترتكز أساسا، على أنّ قضايا الصحة لن تُأخذ على محمل الجد إلا إذا اعتبرتها الدول والمنظمات الدوليّة، كمجلس الأمن ومنظمة الصحة العالميّة ومنظمة التجارة العالميّة، تهديدات أمنيّة. لذلك، فهم عادة ما يُدافعون عن السياسات الميكروبيّة ‘Microbialpolitik’ التي تُقدم عليها الدول فرادى أو المجتمع الدولي، وعن الاستعانة بالقطاع الخاص لتطوير ‘الدفاعات الصَيْدَلانِيّة’ ‘Pharmaceutical Defenses’، كالمضادات الحيويّة والفيروسيّة، لقاحات الجيل التالي والجسيمات المضادة، باعتبارها أحسن إستراتيجية استباقيّة يمكن اللجوء إليها قبل وبعد وقوع الكوارث الوبائيّة.
لم ينكر دُعاة ‘منظور الأمن الإنساني’الأهميّة الكبرى التي منحها أصحاب المنظور السابق للأمن الصحي ولأمننة الصحة، لكنّهم جعلوا من المفهوم الجديد ‘للأمن الإنساني’ الذي استحدثه البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في تقريره الصادر سنة 1994بوصلتهم البحثيّة. وبدل تضمينه في أجندة الأمن القومي للدول، نادوا باستقلاليته ووضعوا خصائص جديدة له؛ أنّه مفهومٌ عالميّ، لا يتعلّق فقط بالدول الغنيّة ولكن بالفقيرة أيضًا، فالتهديدات التي قد تواجه الإنسان كالبطالة والمخدرات والجريمة والتلوث وانتهاكات حقوق الإنسان، وإن اختلفت حدّتها من دولة إلى أخرى لكنها تبقى حقيقيّة ومتناميّة؛ لأنّ مكوناته مترابطة.إنّ هذه التهديدات العابرة للأقطار لم تعد محصورة ولا معزولة داخل الحدود الوطنيّة لكنها تجاوزتها وأصبحت مشتركة بين الدول؛ ومن ثم تكون الوقاية المبكّرة هي أهم إستراتيجية وأقلها تكلفة لصيانة الأمن الإنساني بدل التدخلات العسكريّة؛ إذ يبقى الإنسان هو محور العمليّة بمجملها.
إنّ مفهوم الأمن الإنساني يتعلّق بحياة البشر، وبحريّة ممارسة خياراتهم المتعدّدة، وبإمكانيّة نفاذهم إلى الأسواق وحصولهم على فرص اجتماعيّة متكافئة في أوقات السلم والحرب. هذه الخصائص الأربع، جعلتهم يفترضون بأنّ الفرد، صحته وإنسانيّته ما يجب أن نوليّه اهتمامنا الأكبر، وبأنّه المعنيّ الأول بالأمن الصحيّ وليست الدول التي ثبت وفي الكثير من الحالات أنّها قد تكون أكبر مصدر للتهديد. والأمر الثاني أنّهم جعلوا الهدف من دراسة ‘الصحة’ في العلاقات الدوليّة معياريًّا أكثر، عليه أن يساهم في تعزيز ‘الإنصاف الصحيّ’ ‘Health Equity’؛ أي تمتّع جميع البشريّة بموارد وخدمات صحيّة مماثلة.
دافع دُعاة ‘منظور الأمن الإنساني’ أو العولميّون عن حوكمة جديدة ‘للصحة العالميّة’، لأنّ الخيارات السابقة التي كانت تقودها الدول عبر وكالات الإغاثة، في ثمانينات وتسعينيات القرن المنصرم، فشلتفي معالجة أمراض مزمنة وأوبئة خطيرة كالملاريا وفيروس نقص المناعة، ويُعزى السبب كما أوضح جيفري ساشس وزملاءه، إلى وكالات الإغاثة، التي وإن كانت معنيّة بتقديم المساعدات للدول الناميّة المعروف تضررها من هذا النوع من الأمراض والأوبئة، إلا أنّها لم تضع الصحة يومًا ضمن قائمة أولويّاتها، ولم تهتم بحجم ما كانت تنفقه الدول الناميّة على قطاعها الصحّي، وما خصّصته سنويًا لمواجهة هذا النوع من الأمراض والأوبئة لم يتعدىمئات الملايين من الدولارات فقط، في الوقت الذي ينفق فيه حاليًا ما قيمته 8 مليار دولار أمريكي لمواجهة فيروس نقض المناعة لوحده.
تتميز ‘الحوكمة الجديدة للصحة العالميّة’ بتعدديّة الفاعلين، وبتنوع المبادرات وبتعبئة كبيرة للموارد. لقد أصبحت المؤسسات الدوليّة، المؤسسات الخاصة التي تقودها شخصيات دولية معروفة والشراكات بين القطاعين العام والخاص في مجال الصحة، المعنيّ الأول بتقديم مبادرات عالميّة لمواجهة مرض معين أو مجموعة من الأوبئة، بتمويلها وبوضع المبادئ التوجيهيّة لتشجيع تطوير المشاريع الصحيّة، منها لا على سبيل الحصر؛ الشراكة من أجل دحر السل (2000)، دحر الملاريا (2000)، الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا (2001)، مبادرة مؤسسة كلينتون لمكافحة الإيدز (2001)، مبادرة 3 في 5 لمنظمة الصحة العالميّة (2003)، مبادرة التحديات الكبرى في مجال الصحة العالمية لمؤسسة بيل وميلندا غيتس (2003).
هذه الابتكارات الجديدة في مجال الصحة العالميّة، وإن اعترف العولميّون بأنّ استجابتها كانت مباشرة وسريعة وأكثر فعاليّة من السابق، لكنّهم طالبوا بإصلاحات جذريّة لهياكلها ولطريقة عملها، فلا تزال اللا-مساواة الصحيّة حقيقة قائمة، ولا تزال الأمراض والأوبئة تفتك بالبشرية وتضعف من قدرات الدول، والأهم أنّها لا تزال عرضة لسياسات القوّة بين الدول، وما توجه الدول نحو أمننة أمراض وأوبئة بعينها دون أخرى إلا أحد أعراض ذلك، ولعلّها النقطة التي يشتركون فيها مع ‘مناهضي أمننة الصحة’، التوجه الحديث لأبحاث الصحة في العلاقات الدوليّة.
إن المناهضين لخيار أمننة الصحة بسبب توجّسهم الدائم من الدولة، ومن خطابها الأمني وسلطتها الظاهرة وغير الظاهرة، قاموا بتحويل النّقاش من ضرورة إضفاء الطابع الأمني على الأمراض والأوبئة، إلى البحث في الأسباب التي تدفع الدول والمنظمات الدوليّة للقيام بذلك. وفي خضم بحثهم، انقسموا إلى فريقين؛ ركّز الفريق الأول على الآثار السلبيّة لأمننة الأمراض والأوبئة، معتبرًا أنّ خطابات الدول والفاعلين العالميين عن ‘الصحة العالميّة’ ليست سوى مدخلًا لفهم العمليّات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة الجاريّ تشكلها من وراء خطاباتهم، وأنّ نهاية خطاباتهم تعزّز جِذوة الدولة وهيمنتها. يمكن القول أنّ ترسانة الحجج التي وضعوها ليست سوى أدلة جديدة تدمغ إدّعاء ميشال فوكو السابق بالبعد السياسيّ للصحة، بأنّ كل الأدوات التي سخرتها الدولة تحقيقًا ‘للأمن الصحي’، وإن تعددّت أشكالها وهندستها، إلا أنّها ظلّت محكومة بنفس قواعد اللعب التي وضعتها الدولة لتعزيز رقابتها وبالتالي هيمنتها. الفريق الآخر، ورغم إقراره بذلك، إلا أنّه دعا للتركيز أكثر على الآثار الإيجابيّة لأمننة الصحة، ولإعادة التفكير في الأمن الصحي من خارج الإطار الضيّق للأمننة.
بالنّسبة للفريق الأول، يعتبر توجه الدول والعالم أجمع نحو إضفاء المزيد من الطابع الأمني على قضايا الصحة أمرًا سلبيًا وليس إيجابيًا، والمزيد من الأمننة لا يعني لزامًا المزيد من الأمن. إنّ الأمن كما ادّعى النّقديّون مرتبط تاريخيًا بدلالات معيّنة لا يمكن التخلّص منها مهما أدعيَ بعكس ذلك، كاستدعائه الدولة وتكليفها بالقيام بمهمتها التقليديّة ألا وهي الدفاع. تِبَعًا لذلك، إضفاء الطابع الأمني على قضيّة ما من شأنه أن:
*يعطي الشرعيّة للدولة لتعلن حالة الطوارئ، وستمكّنها من التزوّد بأكبر قدر ممكن من الموارد، من إسكات الأصوات المعارضة، ومن إيجاد مبرّر شرعي لتعليق آليات الرقابة الديمقراطيّة التي نجحت الشعوب في وضعها للحد من تغوّل الدولة في شؤونهم الاجتماعية.
* يكرّس ثنائيّة ‘التهديد-الدفاع’؛ أيّ أنّ الحديث عن قضيّة ما بلغة أمنيّة، يستدعي وجود تهديد ما، وجود تمييز بين مجال داخلي وجب تأمينه ومجال خارجي يقتضي استبعاده ومواجهته.
لقد قدّم النقديّون أمثلة عديدة ليثبتوا الآثار السيّئة لأمننة قضايا الصحة، إذ لاحظ بعضهم بأنّ تقديم فيروس نقص المناعة وداء السل في أمريكا وبريطانيا على أنّها تهديدات أمنيّة، تزامن وإصدار حكومات الدولتين استجابات إقصائيّة وغير إنسانيّة بحق المصابين والمهاجرين الراغبين بالإقامة والعمل، وخاصة الوافدين من الدول المعروف عنها الانتشار الواسع بهذه الأمراض، فيما تنبه آخرون إلى الطريقة التي أُخرِجَت قضايا الصحة من طابعها العالمي-الإيثاري الذي يمكن حلّه باللجوء إلى الأطر التنمويّة، وأدخلت في الإطار الضيّق للدولة التي تهتم أساسًا بتعظيم قوّتها وأمنها. إنّ القيام بذلك من شأنه، حسب سوزان بيترسون، أن يخلق انطباعًا بأنّ قضايا الصحة العالمية لا تستحق المعالجة إلا بالقدر الذي تمس فيه المصالح الأمنيّة للدول، ما قد يعني على المدى الطويل أنّ الدول ستتوقف عن القلق بشأن الصحة العالميّة في المجالات التي لا تتعرّض فيها مصالح أمنها القومي للتهديد.
وإذا أردنا التوقف عند مثال آخر تم تقديمه من البلدان منخفضة الدخل، حيث لا يزال الجدل قائمًا حول من له الأولويّة ليحصل على الأدويّة التي غالبًا ما تكون نادرة، هل هم الأفراد العسكريّون أم المدنيّون. حيث جادلت راديكا سارين، بأنّ عددًا قليلًا من الجيوش الإفريقيّة ملتزم بتوفير العلاج لجميع الجنود، كقوات الدفاع الشعبية الأوغندية والقوات المسلحة النيجيرية، فالأمر لا يزال حكرًا على بعض النُخب العسكريّة وليس عامة الناس، والذين كان بالإمكان أن يحصلوا على مضادات الفيروسات بطريقة ديمقراطيّة ومستدامة لو لم يتم أمننة الإيدز في بلدانهم. إنّ أخطر حجة قدّمها المناهضون لأمننة الصحة، تجلت في نقدهم للطريقة التي أمننت بها الصحة وتنامي خطاب الأمن الصحي مما أدى إلى إضفاء الطابع الصحي على التهديدات الأمنيّة Medicalization Of Insecurity ، لقد أصبحنا نتحدث عن التهديدات الصحيّة بنفس المنطق الذي تحدثنا فيه قديمًا عن التهديدات العسكريّة، وللأمر أبعاد رئيسيّة ثلاث، هي؛
أولًا، أنّ خطابات الأمن الصحي التي أصبح ينطق بها مختلف الفاعلون غيّرت فهمنا لما نعنيه بكوننا آمنين أو غير آمنين. فلئن كنا نعتبر في السابق انعدام الأمن مشكلة سياسيّة أو عسكريّة، مع التقديم التدريجي للأمراض والأوبئة الجائحة بوصفها تهديدات أمنيّة أصبح انعدام الأمن مشكلة طبيّة، وللأطباء سلطة تحديد متى يكون وجودنا آمنًا أو غير آمن.
ثانيًا، أن تغيّرت هويّة ممارسي الأمن-أو من نسميهم عادة مهنيّو الأمن- لقد أصبح العاملون في مجال الطب والقطاع الصحي عمومًا أكثر انخراطًا في تحليل وصياغة السياسات الأمنية للدول؛ ففي الولايات المتحدة في عهد إدارة كلينتون مثلًا، تم استحداث منصب جديد في مجلس الأمن القومي يدعى صاحبه ‘المستشار الأول للصحة الدولية’، كما تم تعيين ‘المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالإيدز’، مهمته تقديم الاستشارة لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في حال صياغته للقرارات المتعلّقة بشأن التهديد المحتمل لفيروس نقص المناعة على السلم والأمن الدوليين.
ثالثًا، أنّ تغيّرت طريقة ممارسة الأمن بعد أن أصبحت المواد الصيدلانيّة أداة من الأدوات المستخدمة لرسم السياسات الأمنيّة للدول وللمنظمات الدوليّة. ففي دراسته للطريقة التي تعاطت بها الحكومة البريطانيّة مع جائحة انفلونزا H1N1 سنتي 2009-2010، ذكر الباحث ستيفان البي كيف أنّه ولأول مرة في التاريخ تقوم دولة بتأسيس ‘الخدمة الوطنيّة لمكافحة جائحة إنفلونزا H1N1’ـ التي أشرفت على إطلاق أكثر من مليون دورة علاجيّة لعقار تاميفلو، وبعبارة أخرى أجبرت مواطنيها على الابتلاع الجماعي لعقار تاميفلو. كذلك الولايات المتحدة فعلت نفس الأمر مع مشروع BioShield، الذي طوّرت بموجبه مجموعة من الإجراءات الطبيّة المضادة، وقامت بتجميعها في شكل مخزون وطني استراتيجيّ ليتم استخدامه في حال وقوع هجوم إرهابي بيولوجيّ، وهكذا ‘أصبحت الحكومات تمارس الأمن من داخل أجساد مواطنيها،
لقد أصبحت أجسادنا بتعبير البي ساحة المعركة الرئيسة التي تتصارع عليها الدول والمؤسسات الطبيّة لإثبات نجاعة سياساتها الأمنيّة’.
أما الفريق الثاني، الذي سنختم به هذا المقال، لم ينكر المخاوف المشروعة لزملائه، ولا الخلل الذي يعتري ‘نظام الصحة العالمي’، ولا الصمت العالمي المُريب عن أمراض وأوبئة أخرى أشد فتكًا من المُعلن عنها، لكنّهم قاربوا الأمر لا بمنظور المتوجّسين من الدولة، ولكن بمنظور المتوجسين من غيابها، هناك في المناطق التي لا يهم الحديث فيها عن الديمقراطيّة بقدر السعي للبقاء على قيد الحياة، هناك حيث لم تترسّخ أركان الدولة-القوميّة بعدُ، فما بالك بالحديث عن سطوتها، وحيث لم تعتلي مواضيع الصحة الأجندة السياسيّة للدول بعدُ فما بالك أجندتها الأمنيّة. إنّ هذه الحقائق كفيلة بأن تجعلنا نتريّث أثناء تقييمنا لأمننة الأمراض والأوبئة، لأن قاطني هذا الكوكب لا يقفون على نفس الأرضيّة، وستجعلنا نطرحُ سؤالا آخرا، سيكون ربما الشغل الشاغل لباحثي الأمن النقديين مستقبلًا؛ ما ذا لو لم تقم الصين ودول العالم بأمننة جائحة كوفيد-19 وتركت الأمر للتداول السياسيّ العادي؟ كيف كان سيكون الوضع؟
للاستفاضة فيما طُرح أعلاه يرجي الإطلاع على المراجع التاليّة؛
- Andrew F. Cooper, Innovation in Global Health Governance : Critical Cases (England : Ashgate, 2009)
- Barry Buzan, People, States and Fear : The National Seeurity Problem in International Relations (London: Wheatsheaf Books, 1983)
- João Nunes, ‘Critical Security Studies and Global Health’. In Colin McInnes, Kelley Lee, and Jeremy Youde (eds), The Oxford Handbook of Global Health Politics (Oxford : Oxford UniversityPress, 2018)
- João Nunes, ‘Questioning health security: Insecurity and dominationin world politics’, Review of International Studies, Vol. 40, Issue 05 (December 2014), pp 939 – 960
- SARA E. DAVIES, ‘What contribution can International Relations make to the evolving global health agenda?’ International Affairs, Vol. 86, No.5 (September 2010), pp. 1167-1190
- Solomon R. Benatar, ‘The HIV/AIDS Pandemic: A Sign of Instability in a Complex Global System’, Journal of Medicine and Philosophy , Vol. 27, No. 2 (2002), pp. 163–177
- Stefan Elbe , Pandemics, Pills, and Politics Governing Global Health Security (Baltimore, Johns Hopkins University Press, 2018)
- Stefan Elbe, ‘Should HIV/AIDS Be Securitized? The EthicalDilemmas of Linking HIV/AIDS and Security, International Studies Quarterly, Vol. 50, No. 1 (Mar., 2006), pp. 119-144