الليبراليّون الدوليّون، على الجانب الآخر من الطيف، لطالما اغتنموا فرصة الأزمات العالميّة الحادة ليعيدوا طرح السؤال الذي يمكن لأي باحث مطّلع على إسهاماتهم أن يتنبأ به؛ هل سينجو النظام العالمي الليبرالي من جائحة كوفيد-19؟
ولكن قبل الإجابة عن هذا السؤال، تجدر بنا الإشارة إلى التعديلات النظريّة التي أحدثها الليبراليّون لحظة ولوجهم مجال العلاقات الدوليّة، خاصة إسهامات الليبراليّون الجُدد الذين فضّلوا مناكفة تشاؤم الواقعيين بلغتهم؛ أي بترجيح افتراضاتهم من حيث مركزيّة الدولة في التحليل والتسليم بفوضويّة النظام الدولي، لكنهم تسلّحوا هذه المرة بالإرث الكبير والممتد لليبراليّة بوصفها عقيدة سياسيّة شكّلت التيار الرئيس للسياسة الحديثة في الدول الغربيّة، والتي تفترض إيمانًا بالفَرْدانِيَّة، وإقرارا بالِمُسَاواةِ بَيْنَ البَشَر وتأكيدا على الوحدة الأخلاقيّة بين جميع البشر وبقابليّة تحسّن جميع المؤسسات السياسيّة والاجتماعية.
حسب الليبراليّون الجدد، الفوضويّة ليست ظرفًا دوليًا ثابتًا يخضع لها جميع البشر غير قابل للتغيير، ولكنّها “هوّة” مَلآ بالمؤسّسات والعمليّات التي بادرت الدول والأفراد والجماعات الخاصة بتأسيسها. لقد استخدام الواقعيّونفرضية الحروب والمنافسات العسكريّة والتجاريّة المستمرة بين الدول، من أجل التأكيد على الطبيعة غير المتغيّرة للفوضويّة، لا يمكن إنكار ذلك حسب الليبراليّين الجُدد بل أنّ حقائق القرن العشرين توافقت كثيرًا وهذه التوقعات، لكن القرن الواحد والعشرين ليس مشابهًا لسابقه، ظهرت تطورات تاريخيّة جديدة لم تعد افتراضات الواقعية تصلح كثيرًا لتوصيفها ولا لتفسيرها. إنّها “الاعتمادية المتبادلة” و”فترة الاستقرار التي فرضتها الولايات المتحدة باعتبارها الدولة المهيمنة بعد الحرب العالميّة الثانيّة أو ما اصطلح عليه لاحقًا نظريّة “الاستقرار بالهيمنة”.
تشير “الاعتمادية المتبادلة” في السياسة الدوليّة إلى شبكة العلاقات المكثّفة والمعقّدة التي أصبحت تربط بين مختلف الفاعلين الدوليين، أقوياء كانوا أم ضعفاء، في مختلف المجالات السياسيّة والاقتصاديّة والماليّة والصحيّة وغيرها، التي لم يعد من السهل الفِكاك منها، وأيّ محاولة للقيام بذلك ستكون مكلّفة بنسب متفاوتة. فلا ينبغي النظر إلى القيود التي تفرضها الفوضويّة لمنع التعاون بين الدول فقط وجعله أمرًا صعبًا وفي أحسن الأحوال انتهازيًا، ولكن أيضا للفرص التي تقدّمها لتحفيز التعاون، وفي ذلك جادل “روبرت كيوهان” Robert Keohane وزميله “جوزيف ناي” Joseph Nye بأنّه حتى وإن كنا أمام اعتماديّة متبادلة بين أطراف غير متماثلة من حيث القوة، لا يمكن للطرف القويّ، الذي يحوز موارد سياسيّة أكبر كالقدرة على المبادرة بإنشاء المؤسسات والعلاقات أو التهديد بالانسحاب منها، أن يتحكّم في مخرجات هذا النوع من الاعتمادية ولا في مآلاتها على المدى القصير(Sensitivity Interdependence) أو الطويل (Vulnerability Interdependence).
أما فكرة “الاستقرار بالهيمنة”، تشير إلى أن نجاح الولايات المتحدة المتجسدة في قيادة أحد أكثر الأنظمة الدوليّة تميّزًا، لم تشنّ فيه أي حروب بين دوله الكبرى، يُعزى إلى اعتمادها على الآليات الليبراليّة كمنظومة الأمم المتحدة ومنظومة بريتون وودز المدعومة بالموارد الاقتصادية الأمريكيّة. هذين التطورين التاريخيين، الذين انطلق منهما الليبراليون الجُدد عمومًا، جعلهم يفترضون بأنّ الاعتمادية المتبادلة التي تأسّست بين الدول لا يمكنها أن تنتهي بسهولة، بمجرد أفول أو صعود دولة ما، بل ستكون بمثابة حافزٍ استراتيجيّ وعقلانيّ للدول لتواصل تعاونها. ذلك أنّ الدول التي نجحت في الرفع من معدلات نموها وفي مُراكمة ثروتها لم تكن لتفعل لولا خاصية الولوج إلى باقي الأسواق الدوليّة التي وفرتها لها منظومة بريتون وودز، ولم تكن لتحوز سلطة معياريّة قِيَميّةلولا الفرص التي قدمتها لها المنظومة الأمميّة التي أصبحت تلعب دورالمورّد للشرعيّة الدوليّة.
في مجال الصحة، لم يبتعد الليبراليّون الدوليّون عمومًا، الجُدد والمدافعون عن أطروحة السلام الديمقراطي، عن هاته التطورات التاريخيّة التي ذكروها. فلا تزال المؤسسات الدوليّة والعولمة والديمقراطيّة-في تقديرهم- الآليات الرئيسةالتي من شأنها تحسين قطاع الصحة على المستويين الوطنيوالدولي/العالمي، ويمكن الاستشهاد -على المستوى الوطني-بأعمال اندرو برايس سميث Andrew T. Price-Smit “صحة الأمم” و”العدوى والفوضى”، والانتباه إلى الطريقة التي درس بها العلاقة المحتملة بين الأمراض وقدرة الدولة والحرمان المجتمعي، وكيف يمكنها أن تساهم في التنبؤ بفشل الدولة واندلاع أعمال عنف مستقبلًا، وكذلك يمكن استحضار “حازم آدم غباره” Hazem Adam Ghobarah وزملاءه الذين لاحظوا من خلال نمذجة النفقات الصحيّة، كمتغير يفسّر حجم الإنجاز في مجال الرعاية الصحيّة، بأنّ درجة تحقّق الديمقراطيّة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمستويات التخصيص العاليّة للموارد (الإنفاق على قطاع الصحية العامة)، وأنّ الدول متعدّدة الأعراق التي تعاني من مستويات دخل متفاوتة بشكل كبير، مستوى إنفاقها على قطاع الصحة العامة منخفض جدًا، وكذلك الدول التي أقحمت نفسها في منافسات دوليّة مستديمة مع أخرى. كما حاولت “زارياب إقبال” Zaryab Iqbal إثبات العلاقة الإيجابيّة بين الإنفاق الكبير في مجال الصحة (مقارنة بالإنفاق العسكري)، والأنظمة الديمقراطية والتحسينات الكبيرة في قطاع الصحة العامة، من خلال إجراءها مقارنة عالميّة للعلاقة بين الصراعات العنيفة، الإنفاق على الصحة العامة، الإنفاق العسكري وطبيعة الأنظمة السياسيّة على مدى أربع سنوات (2000-2004).
وفي المجال الدولي/العالمي، أصبحت ‘حوكمة الصحة العالميّة’ القاعدة التي تؤكّد مزاعم الليبراليين الدوليين وليس الاستثناء، وكذلك توجه الدول نحو تبني المقاربة متعدّدة الأطراف لمعالجة قضايا الصحة العالميّة. بل أنّ الليبراليّة الجديدة قدّمت أفضل التفسيرات للأساس الذي ارتكزت عليه’أنظمة الصحة العالميّة’. فقد ذكّرنا الليبراليّون الجدد، بأنّ المؤسسات الدوليّة، بما فيها العاملة في قطاع الصحة، وإن حكم عليها الواقعيّون بالفشل بسبب سياسات القوة، وإن اعتبرها النقديّون أدوات لإدامة عدم المساواة الاقتصادية بين الدولة المتقدمة والناميّة، إلا أنّ بقاءها مهم، وتحسّن أداءها لن يحدث فجأة ولكن على درجات بعبارة كيوهان.
إن الليبراليين الجدد لا يركزون على الفشل المحتمل لمنظمة الصحة العالميّة في مواجهة كوفيد-19، ولكن على الجهود الإصلاحيّة التي أعلنت عنها المنظمة منذ تأسيسها؛ كإصلاحات (1989–1998)، إصلاحات برونتلاند (1998-2003)، والإصلاحات التي انطلقت منذ سنة 2010، والتي يمكن أن تظهر مستقبلًا. هي ستبقى المنتدى الرئيسي الذي تلجأ إليه الدول في ظل الاعتمادية المتبادلة فيما بينها، وما دام النظام العالمي الحالي القائم على أسس ليبراليّة فرض نوعًا من الترابطيّة بين مؤسّساته. لا يمكن النظّر لمنظمة الصحة العالميّة ومختلف الوكالات العاملة في قطاع الصحة، بشكل معزول ومنفصل، لأنها مندمجة في شبكة العلاقات والمؤسّسات والمصالح التي بٌنيَ عليها ‘النظام العالمي الليبرالي’.
إن الخلفيات التي أطّرت العقل الليبرالي في العلاقات الدوليّة ستكون كفيلةلتفسير الإجابات التي قدموها عن سؤالهم أعلاه. فالتعاون الدولي في مجال الصحة العالميّة، وفي إطار مكافحة كوفيد-19، لم يعد خيارًا هامشيًا ولا ثانويًا في حسابات الدول بل إلزاميًا، ‘لأنّ الالتزام بمكافحة جائحة كوفيد-19هو حماية للاقتصاد العالمي ومعالجة لاضطرابات التجارة الدوليّة’ كما صرّح رئيس منظمة الصحة العالميّة أدهانوم غيبريسوس أثناء اجتماع قمة العشرين الذي أقيم افتراضيًا في 26 مارس 2020.
الأزمات الناتجة عن جائحة كوفيد-19، حسب جوزيف ناي ، أعطتنا درسًا آخر في قيمة العمل الجماعي لمواجهة التهديدات العابرة للحدود. فلا يكفي أمريكا كونها قوّة كبرى، ولا سلوكها الأحادي لتحقيق أمنها القومي، ولكن مفتاح النجاح أن نتعلّم ممارسة القوة مع الآخرين، فتقنيات القرن الواحد والعشرين -كما ذكر ريتشارد دانزيج- أصبحت عالميّة ليس من حيث طبيعة توزيعهافقط، ولكن أيضًا من حيث العواقب والآثار الناتجة عنها، ومسبِّبات الأمراض الفيروسيّة، الفيروسات الحاسوبيّة، والإشعاعات التي قد يصدرها الآخرون عن طريق الخطأ، يمكنها أن تصبح مشكلتنا كما مشكلتهم. ويجب أن تتحول أنظمة إعداد التقارير المتفق عليها، الضوابط المشتركة، خطط الطوارئ المشتركة، المعايير والمعاهدات التي وضعناها إلى أدوات إدارة المخاطر المتعدّدة التي تواجهنا.
أما جون اكنبيري John Ikenberry، أشد المدافعين عن نظرية الاستقرار بالهيمنة، أكد بأنّ ‘الأزمات الناتجة عن الجائحة ستكون الفرصة المناسبة إما لترسيخ أركان ‘الأمميّة الليبراليّة الثالثة 0.3، أو لظهور الرابعة 0.4 إذا اتبعنا منطقه العددي،فالرجل لا يزال يؤمن بأنّ هذه الأزمات، ستكون على المدى القصير الوقود المحرّك لجميع المعسكرات الإيديولوجيّة، لتنخرط في أكبر جدل يمكن أن تشهده الدول الغربيّة بشأن استراتيجياتها المستقبليّة، القوميّون المعادون للعولمة، وكذا الصقور المناهضون للصين، وحتى الأمميون الليبراليون ليجمعوا أدلّة جديدة تُفيد أحقيّة ادّعاءاتهم. لكن، وعلى المدى الطويل، كما كان الحال في ثلاثينيات وأربعينيات القرن المنصرم، وببطء سيظهر تيّار معاكس، وربما نوع من الأمميّة المتشددة كالتي نادى بها قبل الحرب وبعدها فرانكلين روزفلت، فمهما طال الأمر لا يمكن للولايات المتحدّة أن تختبئ داخل قوقعتها، ستعثر على نوع جديد من ‘الأمميّة البراغماتيّة والحِمائيّة’، لأن الأمر كلّه يتعلّق باستدامة النظام العالمي الليبرالي، وإدامة الهيمنة الأمريكيّة فيه.
للاستفاضة فيما طرح أعلاه، يُرجى الإطلاع على المراجع التاليّة:
آمنة مصطفى دلة، ‘نهاية التاريخ بطبعته الأمريكيّة، مراجعة في كتابي ‘نهاية النظام العالمي الأمريكي والليفياتان الليبرالي: أصول النظام العالمي الأمريكي وأزمته وتحوّله’، سياسات عربيّة، العدد 36 (كانون الثاني/ يناير 2019)
Tim Dunne et al., International Relations Theories : Discipline and Diversity (Oxford : Oxford UniversityPress 2013).
Robert Keohane and Joseph Nye, Power and Interdependence (New York, NY: Longman, 1977).
Sara E. Davies, ‘Healthy populations, politicalstability, and regimetype:Southeast Asia as a case study’, Review of International Studies, Vol. 40, Issue 5 (2014), pp. 859–876.
John Allen, Nicholas Burns, Laurie Garrett, Richard N. Haass, G. John Ikenberry, KishoreMahbubani, Shivshankar Menon, Robin Niblett, Joseph S. Nye Jr., Shannon K. O’Neil, KoriSchake, Stephen M. Walt, ‘How the World Will Look After the Coronavirus Pandemic’, Foreign Policy (March 20, 2020) ; https://cutt.us/EdYwM