رغم كونه مجالا بحثياّ يافعا، وبعيدًا عن الجدل القائم بين باحثيه حول جدوى النظريّة Theoryness وجدوى نقاشاته الكبرى Debatism، وفي حال الاعتراف بالطبيعة المتعدّدة ‘للمعرفة’، بتعبير اولي ويفر، يمكن للعلاقات الدوليّة (IR) أن تخبرنا الكثير عن التفشّي العالمي لجائحة ‘كوفيد-19’. الأمر الذي سنقوم بتوضيحه عبر سلسلة من المقالات المختصرة، آملين أن تُساهم كل النظريّات والمفاهيم والمقاربات التي جاد بها هذا المجال منذ لحظته التأسيسيّة الثانيّة (1945-1989) في توسيع فهمنا ونقاشاتنا الحاليّة حول الآثار السياسيّة والاقتصادية وحتى الأخلاقيّة المحتملة لجائحة كوفيد-19.
وإن بدا للوهلة الأولى بأنّ الواقعيّة، لا تملك شيئًا تقوله حول قضايا الصحة العالميّة، لأنّها جعلت من ‘السياسة الدوليّة مرادفًا لسياسة القوة’؛ أي أنّ تركيزها مُنصبٌ على اقتفاء أثر القوّة من دولة إلى أخرى، وعلى التفاعلات الحاصلة بين الدول الكبرى باعتبارهم الفاعلين الرئيسيين. لكنّ لما سُأل الواقعيّون عما يمكن أن يقولوه عن عالم ما بعد كوفيد-19، أجابونا بتشاؤمٍ من عدسة فهمهم المأساويّ للحياة: كعادتهم ألم نفترض ذلك مسبقًا؟ بأنّه سيكون عالمًا أقل انفتاحًا وازدهارًا وحريّة. يبدو أنّهم اعترفوا بأنّ قضايا الصحة العامة هي عنصر مهم من عناصر قوّة أي دولة، بل أنّ السيطرة على الأوبئة الجائحة يجب أن يكون مركز اهتمامهم، بسبب ثبوت تأثيرها وقدرتها على إضعاف أغلب قطاعات الدولة الصلبة (الاقتصادية والعسكريّة)، وفي ذلك ذكر استشهد ستيفن وولت بالطاعون الذي ضرب أثينا عام 430 ق. م والذي استمر لأكثر من ثلاث سنوات، هذا الطاعون كما اعتقد المؤرّخون قتل ربما حوالي ثلث سكان أثينا- بما في ذلك القادة البارزون مثل بريكليز- وكان له آثار سلبية واضحة على إمكانات القوة طويلة الأمد في أثينا، وبالتالي على صيرورة ‘الحرب البيلوبونيزية’، الحرب التي استمد أغلب الواقعيين افتراضاتهم منها.
لقد كانت جائحة كوفيد-19، فرصة للواقعيين لينفضوا الغُبار مجددًا عن الدولة، عن سيادتها والمكاسب النسبيّة التي تسعى دائمًا لنيلها، فقد أثبتت الأحداث أنّه في حال الخطر الداهم لا ينظر المواطنون إلا لحكوماتهم الوطنيّة لتحميهم، ويدافعون عن أيّ إجراء استثنائيّ يمكن أن تقدم عليه وإن قيّد كليًا حريّتهم وحركتهم. فالدولة دائمًا ما تحسن الظهور في الأزمنة التي يبلغ فيها الركود الاقتصادي والتفكّك المحتمل للعولمة Deglobalization أعلى مستوياته، ولعلّ صعود التيارات اليمينيّة المتطرفة في أوروبا وخروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي هي عِلاَوَة أخرى تدمغ ادعاءهم، بأنّ هذه الشعوب لا ترغب بالمزيد من العولمة ولكن باستعادة دولها كفّة القيادة، إنه التوجه الغالب الذي سيسود مستقبلًا حسبهم.
لا تزال الأسئلة التي انقسم حولها الواقعيون بين كلاسيك وبِنيويين مطروحة؛ لماذا ترغب الدول بتحصيل القوة؟ وأيضا بين واقعيين بنيويين دفاعيين وواقعيين بنيويين هجوميين: ما مقدار القوة الكافِ؟حاضرة في قلب نقاشاتهم التي بدؤوها منذ تسعينيات القرن الماضي، حول صعود وأفول الصين ومستقبل القوة الأمريكيّة. إنّ الآثار الرئيسيّة لجائحة كوفيد-19لن تساعد إلا في تسريع انتقال القوة من الغرب إلى الشرق، أو بأفول العصر الأطلسي كما يحلو لوولت تسميته، بسبب الأداء الجيّد لدول الشرق ككوريا الجنوبيّة وسنغافورة مقارنة بالأداء السيّئ للغرب، الدول الأوروبيّة وأمريكا والذي ستضيفه إلى قائمة إخفاقاتها السابقة.
رفض الصين الاعتراف المبكّر بمدى خطورة الفيروس، يقع في صلب الاعتبارات الواقعيّة التي اهتم بها القادة الصينيّون أكثر، لأنّهم يدركون الآثار الاقتصاديّة والسياسيّة وحتى المعياريّة في حال إعلانهم بأنّهم ‘المصدر المُصدّر’ للجائحة. الواقعيّون هنا تداركوا الخطأ الذي وقعوا فيه جميعًا بعدم منحهم قوّة تفسيريّة كافيّة للعوامل الداخليّة وطبيعة الأنظمة السياسيّة، باعتمادهم افتراضات الواقعيّة الكلاسيكيّة الجديدة ليجادلوا بأنّ الحكومات الديمقراطيّة أحسن استجابة للأزمات الصحيّة على عكس الاستبدادية. حيث تنزع الأولى، وبسبب حريّة الإعلام السائدة وحريّة تدفق المعلومات فيها إلى تمكين المسئولين المحليين من أن يطلقوا إنذارات مبكّرة دون أن يعاقبوا أو يلاحقوا قضائيًا، وبالتالي هي الأحسن من حيث تحديد التوقيت الذي تحدث فيه المشكلة. أما الثانيّة، فتكون أكثر عرضة للمجاعات والأوبئة والكوارث، لأنّها أكثر قمعًا لانتشار المعلومات، وحتى وإن كانت جيدة من حيث تعبئة الموارد وتقديمها استجابات فعالة للقضاء على الجوائح، إلا أنّ قادتها دائمًا ما يستجيبون بطريقة متأخرة.
وبالنّظر إلى الصين، ففي الوقت الذي أطلق فيه الأطباء والصحفيون العاملون في ووهان الإنذارات حول حقيقة الوضع، شنّت الصين حملة اعتقال واسعة ضد هؤلاء، بل أنّ رئيس منظمة الصحة العالميّة كان يُشيد بالأداء الصيني في التعامل مع الوباء المستجد الذي كانت توحي كل الدلائل بأنّه سيصبح جائحًا في ظرف زمنيّ قصير. التحيّز الذي أظهره رئيس المنظمة تيدروس أدهانوم غيبريسوس كان الواقعيّون قد حذرونا منه، لأنّهم اعتبروا بأنّ ‘المنظمات الدوليّة’ ليست سوى آليات للتوفيق المؤقت بين الدول، وبأنّها لن تغيّر جذريًا من ديناميكا العلاقات الدولية، فالدول لا يهمها سوى المكاسب النسبيّة التي يمكن أن تحقّقها منها، ولا يمكنها إجبار أو إقناع بقيّة الدول بمساعدتها لمحاربة المشاكل الوبائيّة، لذلك يتوقعون عمومًا بأن التعاون الدولي لمواجهة جائحة كوفيد-19 سيكون هشًا وغير فعال. فكم من مرة ثَبُتَ عدم انصياع الدول لتعليمات منظمة الصحة العالميّة، باعتبارها أهم منظمة دوليّة تُعنى بمجال الصحة العامة العالميّة، واستخدامهم لها بما يتناسب وأجنداتهم الخاصة. الصين مثلًا في هذا السياق، وظّفت المنظمة في كلتا الحالتين. فقامت خلال تفشي جائحة إنفلونزا H1N1 عام 2009 بحظر استيراد لحم الخنزير ومنتجاته من المكسيك والولايات المتحدة، وعزل 70 مواطنًا مكسيكيًا لم تظهر عليهم علامات المرض، متجاوزة بذلك توصيّات منظمة الصحة العالمية واللوائح الصحية الدولية المتفق عليها. وفي سنة 2019 مع تفشي جائحة كوفيد-19 مارست الصين ضغطًا كبيرًا على المنظمة وعلى على رئيسها الحالي تيدروس أدهانوم غيبريسوس لتأخير الإعلان عن أنّ وباء ‘كوفيد-19’ أصبح جائحة. فمنذ وباء السارس أصبحت المنظمة أكثر اعتمادًا على المساهمات الطوعيّة التي تقدّمها البلدان الأعضاء لمعالجة عجز ميزانيتها، حيث ارتفعت المساهمات الطوعية من خارج الميزانية بنسبة 18٪ (من 3.9 مليار دولار في 2014-2015 إلى ما يقرب من 4.7 مليار دولار في 2018-2019) .
إن الاعتماد الكبير للمنظمة على المساهمات الطوعيّة جعلها أكثر عرضة لتأثير للدول وللمنظمات المتبرعة. وفي نفس الوقت، زادت مساهمات الصين بنسبة 52٪ منذ عام 2014 إلى حوالي 86 مليون دولار، كما زادت أيضًا من التبرعات بشكل طفيف من 8.7 مليون دولار في عام 2014 إلى حوالي 10.2 مليون دولار في عام 2019، مقارنة بالولايات المتحدة التي تضاءلت حصتها ( 893 مليون دولار عام 2018-2019). لذلك كثيرًا ما تبدو الصين لهذه المنظمات شريكًا موثوقًا به أكثر من البقيّة. الصين كانت كذلك حليفًا مهمًا ل”غيبريسوس”، الرئيس الحالي، في انتخابات المديرية العامة للمنظمة التي أجريت عام 2017، الذي أكّد لوسائل الإعلام الصينيّة مباشرة بعد فوزه بأنّ منظمة الصحة العالميّة ستواصل دعمها لوحدة الصين، كإشارة إلى اصطفاف المنظمة إلى الصين في إطار صراعها مع تايوان.
باختصار، يبدو أن الواقعيّة ليست غريبة تمامًا عن قضايا الصحة العامة العالمية، فقد استخدمها براه روجر بجداله يومًا بأنّ ‘العلاقات الدوليّة’ في مجال الصحة سارت إلى حد كبير على أسس واقعية لأنها كانت مدفوعة في المقام الأول ‘بالتفاعلات الإستراتيجية بين الدول القومية المركّزة على مصلحتها الخاصة’، وكذلك فعل أندرو برايس سميث لأنّها في نظره أهم نظريّة آلت اهتمامًا كبيرًا للعوامل الماديّة-السياقيّة، ولا شك أن آخرين سيستخدمونها مستقبلًا مادام الفهم المأساوي للسياسة والحياة دائم الظهور؛ أو لم يُجب فيرنانت وناكيت عن السؤال الذي وجه إليهما: ‘ إن كانت التراجيديا مرتبط ظهورها بسياقها التاريخي، فكيف يمكننا أن نُفسّر الأهميّة الدائمة والمعاصرة لهذا النوع من الخيال السياسي؟ بأنّ ‘التراجيديا الأثينيّة نجحت في إبراز شبكة القوى المتناقضة التي تهاجم جميع البشر، والمنطق غير المنطقي للنظام الحاكم للأنشطة البشرية..‘
للاستفاضة فيما طرح أعلاه الإطلاع يُرجى الإطلاع على المراجع التالية:
Tim Dunne et al., International Relations Theories : Discipline and Diversity (Oxford : Oxford University Press 2013)
Alister Wedderburn, ‘Tragedy, genealogy and theories of International Relations’, European Journal of International Relations, Vol 24, Issue 1 (2018)
Nathan Paxton and Jeremy Youde, ‘Engagement or dismissiveness? Intersecting international theory and global health’, Global Public Health, Vol. 14, Issue 4 (2019)
David P. Fidler, ‘The Globalization of Public Health: Emerging Infectious Diseases and International Relations’, Indiana Journal of Global Legal Studies, Vol. 5, No. 1 (Fall, 1997)
Michael Collins, ‘The WHO and China: Dereliction of Duty’, Council on Foreign Relations (February 27, 2020); https://cutt.us/uTAWe
Stephen M. Walt, ‘The Realist’s Guide to the Coronavirus Outbreak’, Foreign Policy, March 9, 2020 ; https://cutt.us/bObK7