لقد بدأت الحرب العالمية الثالثة[1]
حوار مع إيمانويل تود
أجرى المقابلة: ألكسندر ديفكيو
الحوارات الكبرى
إلى جانب المواجهة العسكرية بين روسيا وأوكرانيا، يصّر “تود” كأنثروبولوجي على البعد الأيديولوجي والثقافي لهذه الحرب وعلى التقابل بين الغرب الليبرالي وبقية العالم الذي استحوذت عليه رؤية محافظة وسلطوية. الأكثر عزلة -حسب قوله- ليسوا هم من نعتقد.
إيمانويل تود عالم أنثروبولوجيا ومؤرخ وكاتب مقالات ومستقبلي ومؤلف العديد من الكتب. منها ما أصبح من كلاسيكيات العلوم الاجتماعية، مثل “السقوط النهائي” أو “الوهم الاقتصادي” أو “ما بعد الإمبراطورية”. صدر كتابه الأخير “الحرب العالمية الثالثة قد بدأت بالفعل” عام 2022 في اليابان وبيع منه 100 ألف نسخة.
المفكر المثير للفضائح بالنسبة للبعض، والمثقف البصير بالنسبة للآخرين، “المتمرد المدمر” على حد تعبيره، “إيمانويل تود” لا يترك أي شخص غير مبال. فقد كان مؤلف كتاب “السقوط النهائي”، الذي تنبأ بانهيار الاتحاد السوفيتي عام 1976، متحفظًا في فرنسا بشأن مسألة الحرب في أوكرانيا. احتفظ عالم الأنثروبولوجيا حتى الآن بمعظم مداخلاته حول هذا الموضوع للجمهور الياباني، حتى أنه نشر ضمن دار النشر الأرخبيل دراسة بعنوان استفزازي: “لقد بدأت الحرب العالمية الثالثة بالفعل”. في هذا الحوار لجريدة الفيغارو الفرنسية قام بتفصيل أطروحته المتمردة، حيث يُذكّر بأنه إذا قاومت أوكرانيا عسكريًا، فلن يتم سحق روسيا اقتصاديًا. وهذه مفاجأة مزدوجة تجعل نتيجة الصراع، حسب قوله، غير مؤكدة.
لوفيجارو. – لماذا تنشر كتابا عن الحرب في أوكرانيا في اليابان وليس في فرنسا؟
إيمانويل تود: اليابانيون هم معادون لروسيا مثلهم مثل الأوروبيين. لكنهم بعيدون جغرافيًا عن الصراع، لذلك لا يوجد هناك شعور حقيقي بإلحاحية المسألة، وليس لديهم ارتباط عاطفي بأوكرانيا كما هو لدينا. وهناك، ليس لدي على الإطلاق نفس الوضعية التي لدي هنا. فهنا، لدي سمعة سخيفة بأنني “متمرد مدمر”، بينما أنا في اليابان عالم أنثروبولوجيا ومؤرخ وجيوسياسي محترم، يتحدث في جميع الصحف والمجلات الكبرى، وحيث تنشر كل كتبي. هناك أستطيع أن أعبر عن نفسي في جو هادئ، وهو ما فعلته أولاً في المجلات، ثم بنشري هذا الكتاب، وهو عبارة عن مجموعة من المقابلات. هذا الكتاب يسمى “الحرب العالمية الثالثة قد بدأت بالفعل”، وبيعت منه إلى حد اليوم مائة ألف نسخة.
لماذا هذا العنوان؟
لأن هذا هو الواقع، فقد بدأت الحرب العالمية الثالثة. صحيح أنها بدأت “محدودة جدا” ومعها مفاجأتين. ذهبنا إلى هذه الحرب بفكرة أن الجيش الروسي كان قويًا جدًا وأن اقتصاده كان ضعيفًا جدًا. وكان الاعتقاد السائد أن أوكرانيا سوف يتم سحقها عسكريًا وأن روسيا سوف يسحقها الغرب اقتصاديًا. لكن العكس هو الذي حدث. لم يتم سحق أوكرانيا عسكريًا حتى لو أنها خسرت 16٪ من أراضيها إلى حدود هذا التاريخ؛ ولم يتم سحق روسيا اقتصاديًا. ففي هذه اللحظة التي أتحدث إليكم، ارتفع الروبل بنسبة 8٪ مقابل الدولار و18٪ مقابل اليورو مقارنة باليوم السابق لبدء الحرب.
لذلك كان هناك نوع من سوء الفهم. فمن الواضح أن الصراع، الذي ينتقل من حرب إقليمية محدودة إلى مواجهة اقتصادية عالمية، بين الغرب كله من جهة وروسيا المدعومة من الصين من جهة أخرى، أصبح حربا عالمية، حتى ولو كان حجم العنف العسكري منخفضًا مقارنة بما كان عليه في الحروب العالمية السابقة.
ألا تبالغ؟ الغرب ليس منخرطا عسكريا بشكل مباشر …
رغم ذلك، فنحن نزود أوكرانيا بالأسلحة. لكن يظل صحيحًا أننا نحن الأوروبيين منخرطون في الحرب أساسا على مستوى اقتصادي. على فكرة، نحن نشعر أن دخولنا الفعلي إلى الحرب يأتي من التضخم وحالات الشح فيما يخص مجموعة من الموارد.
لقد ارتكب بوتين خطأً فادحًا في البداية، وهو أمر له أهمية اجتماعية وتاريخية هائلة. أولئك الذين اشتغلوا على أوكرانيا عشية الحرب لم يروا فيها ديمقراطية وليدة، ولكن مجتمعا في حالة انحلال و”دولة معرضة للفشل”. لقد تساءلنا عما إذا كانت أوكرانيا قد فقدت 10 ملايين أو 15 مليون نسمة منذ استقلالها، لكن لا يمكننا أن نحسم الأمر، لأن أوكرانيا لم تُجر تعدادًا سكانيًا منذ عام 2001، وهي علامة كلاسيكية لمجتمع يخاف من الواقع. أعتقد أن حسابات الكرملين كانت هي أن هذا المجتمع المتحلِّـل سوف ينهار عند الصدمة الأولى، بل سيقول “أهلا أمي” لروسيا المقدسة. لكن ما اكتشفناه، على العكس من ذلك، هو أن المجتمع الذي هو في حالة تحلُّل، إذا تمت تغذيته بموارد مالية وعسكرية خارجية، يمكن أن يجد في الحرب نوعًا جديدًا من التوازن، وحتى أفقًا، وأملًا. لم يكن بوسع الروس توقع ذلك. ولا أحد يستطيع توقع ذلك.
لكن ألم يستخف الروس، على الرغم من حالة التحلّـل الحقيقي للمجتمع، بقوة الشعور القومي الأوكراني، وحتى قوة الشعور الأوروبي بدعم أوكرانيا؟ وأنت نفسك، ألم تستخف به؟
لا أعرف. أنا أشتغل على الموضوع، ولكن كباحث، وهذا يعني الاعتراف بأن هناك أشياء لا نعرفها. ومن الغريب بالنسبة لي أن أحد المجالات التي لدي القليل من المعلومات للحسم بشأنها هو أوكرانيا. يمكنني أن أخبركم، استنادًا إلى البيانات القديمة، أن نظام الأسرة في روسيا الكبرى كان نوويًا، وأكثر فردية من النظام الروسي العظيم، الذي كان أكثر جماعية [communautaire] وجمعية [collectiviste]. هذا ما يمكنني أن أخبركم عنه، لكن ما أصبحت عليه أوكرانيا، مع التحركات السكانية الهائلة، والانتقاء الذاتي [auto-sélection] لأنواع اجتماعية معينة من خلال الإبقاء عليها في مكانها أو عن طريق الهجرة قبل وأثناء الحرب، لا يمكنني إخباركم بذلك، فليس لدينا معلومات في الوقت الحالي.
إحدى المفارقات التي أواجهها هي أن روسيا لا تمثل مشكلة بالنسبة لي لفهمها. هذا هو المكان الذي أكون فيه أكثر ابتعادا عن بيئتي الغربية. أفهم مشاعر الجميع، ومن المزعج لي أن أتحدث ببرودة كمؤرخ. ولكن عندما تفكر في قيام يوليوس قيصر بحصار القائد “فرسن جتريكس” (Vercingétorix) في أليسيا، ثم أخذه إلى روما للاحتفال بانتصاره، لا تتساءل عما إذا كان الرومان أشرارًا أم ناقصون من حيث القيم. اليوم، في زخم العاطفة وفي انسجام مع بلدي، أستطيع أن أرى بوضوح دخول الجيش الروسي إلى الأراضي الأوكرانية، والقصف والوفيات، وتدمير البنية التحتية للطاقة، والأوكرانيون يموتون من البرد طوال فصل الشتاء. لكن بالنسبة لي، فإن سلوك بوتين والروس يمكن قراءته بطريقة أخرى وسأخبرك كيف.
بداية، أعترف بأنني فوجئت ببدء الحرب، ولم أصدق ذلك. فيما يتعلق بالينابيع العميقة التي أدت إلى الصراع، أشارك تحليل الجيوسياسي الأمريكي “الواقعي” “جون ميرشايمر” [John Mearsheimer]. فقد أدلى هذا الأخير بالملاحظة التالية: أوكرانيا، التي استولى جنود الناتو (الأمريكيون والبريطانيون والبولنديون) على جيشها منذ عام 2014 على الأقل، كانت بحكم الأمر الواقع عضوًا في الناتو، وقد أعلن الروس أنهم لن يتسامحوا أبدًا مع عضوية أوكرانيا بالناتو. لذلك يشن هؤلاء الروس (كما أخبرنا بوتين في اليوم السابق للهجوم) حربًا التي هي من وجهة نظرهم دفاعية ووقائية. أضاف “ميرشايمر” أنه ليس لدينا أي سبب للابتهاج بالصعوبات التي يمكن أن يواجهها الروس نظرًا لأن هذه قضية وجودية بالنسبة لهم. وكلما ازدادت الصعوبة، كلما كانت ضرباتهم أقوى. يبدو أن هذا التحليل يتأكد على أرض الواقع. أود أن أضيف تكملة ونقدًا لتحليل “ميرشايمر”.
ما هي؟
من أجل التكملة: عندما يقول إن أوكرانيا كانت بحكم الواقع عضوًا في الناتو، فإنه لا يذهب بعيدًا بما فيه الكفاية. لقد أصبحت ألمانيا وفرنسا شريكين ثانويين في الناتو ولم تكونا على دراية بما يجري عسكريًا في أوكرانيا. وقد تم انتقاد السذاجة الفرنسية والألمانية لكون حكوماتنا لم تصدّق إمكانية الغزو الروسي. بالتأكيد، وذلك لأنهم لم يكونوا على علم بأن الأمريكيين والبريطانيين والبولنديين يمكن لهم أن يجعلوا أوكرانيا قادرة على خوض حرب أوسع. إن المحور الأساسي لحلف الناتو حاليا هو واشنطن-لندن-وارسو-كييف.
الآن، النقد: “ميرشايمر”، مثله مثل أي أميركي موال لبلده، فهو يبالغ في تقدير قوتها. فهو يعتبر أنه إذا كانت الحرب في أوكرانيا بالنسبة للروس وجودية، فهي بالنسبة للأمريكيين مجرد “رهان” قوة واحد من بين رهانات أخرى. بعد فيتنام والعراق وأفغانستان، كارثة أكثر أو أقل… ما الذي يهم…؟ البديهية الأساسية للجغرافيا السياسية الأمريكية هي: “يمكننا أن نفعل ما نريد لأننا محميون، بعيدون، بين محيطين، ولن يحدث لنا شيء على الإطلاق”. ليس هناك ما هو وجودي لأمريكا. هذا القصور في التحليل هو الذي يقود بايدن اليوم إلى الاندفاع المتهور. أمريكا هشة. وقدرة الاقتصاد الروسي على المقاومة تدفع النظام الإمبراطوري الأمريكي نحو الهاوية. لا أحد توقع أن يواجه الاقتصاد الروسي “القوة الاقتصادية” لحلف الناتو. أعتقد أن الروس أنفسهم لم يتوقعوا ذلك.
إذا قاوم الاقتصاد الروسي العقوبات إلى أجل غير مسمى وتمكّن من استنزاف الاقتصاد الأوروبي، بينما ظل هو قائما، مدعومًا من الصين، فسينهار إذن التحكم النقدي والمالي الأمريكي على العالم، ومعه احتمال تمويل الولايات المتحدة عجزها التجاري الهائل بدون مقابل [لأن المعاملات التجارية الدولية في العالم تجري بالدولار الأمريكي]. لذلك أصبحت هذه الحرب وجودية بالنسبة للولايات المتحدة. لا يمكنهم الانسحاب من الصراع أكثر من روسيا. لهذا نحن الآن في حرب لا نهاية لها، في مواجهة يجب أن تكون نتيجتها انهيار أحدهما. من بين آخرين، يبتهج الصينيون والهنود والسعوديون.
لكن الجيش الروسي يبدو على أية حال في وضع سيء للغاية. يذهب البعض إلى حد التنبؤ بانهيار النظام، ألا تصدقون ذلك؟
لا، في البداية يبدو أنه كان هناك تردد في روسيا، وشعور بكونهم خُدِعوا وبأنهم لم يتم إخبارهم مسبقا. لكن الآن، الروس مندمجون في الحرب، وبوتين يستفيد من شيء ليس لدينا أي فكرة عنه، وهو أن سنوات الألفية، سنوات بوتين، كانت بالنسبة للروس سنوات عودة التوازن، والعودة إلى الحياة الطبيعية. أعتقد أن ماكرون سوف يمثل، على العكس من ذلك، بالنسبة للفرنسيين اكتشاف عالم خطير لا يمكن التنبؤ به، إعادة تلاق بالخوف. كانت التسعينيات فترة معاناة غير مسبوقة لروسيا. كان العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بمثابة عودة إلى الوضع الطبيعي، وليس فقط من حيث مستويات المعيشة: لقد رأينا معدلات الانتحار والقتل تتراجع، وفوق كل هذا، المؤشر المفضل لدي، وهو معدل وفيات الرضع فهو لم يتراجع فقط، وإنما أصبح أقل من المعدل في الولايات المتحدة.
يجسد بوتين في أذهان الروس هذا الاستقرار (بالمعنى المسيحي القوي). وبشكل أساسي، يعتقد المواطنون الروس العاديون، مثل رئيسهم، أنهم يخوضون حربًا دفاعية. إنهم يدركون أنهم ارتكبوا أخطاء في البداية، لكن استعدادهم الاقتصادي الجيد زاد من ثقتهم، ليس في مواجهة أوكرانيا (مقاومة الأوكرانيين يمكن تفسيرها بالنسبة لهم، فهم شجعان مثل الروس، ولن يستطيع الغربيون القتال جيدًا أبدًا!)، ولكن ضد ما يسمونه “الغرب الجماعي” أو “الولايات المتحدة وتوابعها”. إن الأولوية الحقيقية للنظام الروسي ليست الانتصار العسكري على الأرض، وإنما الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي الذي اكتسبته روسيا في السنوات العشرين الماضية.
لذا فهم يخوضون هذه الحرب “على الاقتصاد”، وخاصة على اقتصاد الرجال. لأن روسيا لا تزال تعاني من مشكلتها الديموغرافية، حيث يبلغ معدل الخصوبة 1.5 طفل لكل امرأة. في غضون خمس سنوات سيكون لديهم فجوات على مستوى مجموعات عمرية. في رأيي، يجب أن يكسبوا الحرب بعد 5 سنوات، أو يخسرونها. فهذا هو الطول الطبيعي لحرب عالمية. لذلك فهم يخوضون هذه الحرب على الاقتصاد، من خلال إعادة بناء اقتصاد حرب جزئي، ولكن من خلال الرغبة في الحفاظ على الرجال. هذا هو معنى انسحاب خيرسون بعد مناطق خاركيف وكييف. نحن نحسب الكيلومترات المربعة التي استولى عليها الأوكرانيون، لكن الروس ينتظرون سقوط الاقتصاديات الأوروبية. نحن جبهتهم الرئيسية. بالطبع، قد أكون مخطئًا، لكني أعيش مع فكرة أن السلوك الروسي مقروء، لأنه عقلاني وقاس. المجهولون هم في مكان آخر.
لقد أوضحتَ أن الروس ينظرون إلى هذا الصراع على أنه “حرب دفاعية”، لكن لا أحد حاول غزو روسيا، واليوم، بسبب الحرب، لم يكن لحلف الناتو تأثير كبير في الشرق مع دول البلطيق التي يريد دمجها.
لأجيبك، أقترح عليك تمرينًا نفسيًا-جغرافيًا يمكن إجراؤه من خلال التركيز على نقطة محددة. إذا نظرنا إلى خريطة أوكرانيا، نرى دخول القوات الروسية من الشمال والشرق والجنوب … وهنا، بالفعل، يظهر لنا غزو روسي، لا توجد كلمة أخرى للتعبير عما يجري على هذا المستوى. لكن إذا قمت بتوسيع الرؤية ونظرت إلى العالم، دعنا نقول حتى واشنطن، يمكنك أن ترى أن بنادق الناتو وصواريخه تتجه كلها من مسافة بعيدة جدًا نحو ساحة المعركة، حركة الأسلحة التي بدأت قبل الحرب.. تقع باخموت [أوكرانيا]على بعد 8400 كيلومتر من واشنطن و130 كيلومترًا من الحدود الروسية. تسمح قراءة بسيطة لخريطة العالم، على ما أعتقد، بإيلاء الاعتبار للفرضية القائلة “نعم، من وجهة النظر الروسية، هذه حرب دفاعية.”
وفقًا لك، فإن دخول الروس في الحرب يفسر أيضًا بالانحدار النسبي للولايات المتحدة …
في كتاب “ما بعد الإمبراطورية”، الذي نُشر عام 2002، ناقشت التدهور الطويل الأمد للولايات المتحدة وعودة القوة الروسية. ومنذ عام 2002، تعاني أمريكا من سلسلة من الإخفاقات والنكسات. لقد غزت الولايات المتحدة العراق، لكنها غادرت، تاركةً إيران لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط. وفروا من أفغانستان. كما أن استتباع أوكرانيا من طرف أوروبا والولايات المتحدة لم يمثل بعد زيادة في الديناميكية الغربية، بل هو يعبر عن استنفاد موجة انطلقت حوالي عام 1990، والتي ساهم في بثّها الشعور المناهض لروسيا من البولنديين ودول البلطيق. بيد أن الروس في هذا السياق من الارتداد الأمريكي اتخذوا قرارًا بإخضاع أوكرانيا، لأنهم شعروا بأن لديهم أخيرًا الوسائل التقنية للقيام بذلك.
لقد قرأت للتو كتابًا بقلم “سوبرامانيام جايشانكار”، وزير الخارجية الهندي (طريقة الهند: استراتيجيات لعالم غير مؤكد) نُشر قبل الحرب عام 2000، والذي يؤكد فيه على الضعف الأمريكي، وهو يرى أن المواجهة بين الصين والولايات المتحدة لن يكون فيها فائز ولكنها ستمنح فرصة لبلد مثل الهند، وللعديد من البلدان الأخرى. أضيف من ناحيتي: لكن ليس للأوروبيين. في كل مكان نرى تراجعا لقوة الولايات المتحدة، ولكن ليس في أوروبا واليابان لأن أحد آثار تراجع النظام الإمبراطوري هو أن الولايات المتحدة تعزز قبضتها على محمياتها الأولى.
إذا قرأنا بريجينسكي (رقعة الشطرنج الكبرى)، فإننا نرى أن الإمبراطورية الأمريكية تشكلت في نهاية الحرب العالمية الثانية بغزو ألمانيا واليابان، اللتين لا تزالان محميتين حتى اليوم. مع تراجع النظام الأمريكي، فإن هذا يثقل كاهل النخب المحلية للمحميات (وأنا أدمج كل أوروبا هنا). أول من سيفقد استقلاليته الوطنية سيكون (أو هو حاصل بالفعل) الإنجليز والأستراليون. لقد أنتج الإنترنت تفاعلًا بشريًا مع الولايات المتحدة في العالم الناطق بالإنجليزية لدرجة أن نخبه الأكاديمية والإعلامية والفنية، إذا صح القول، تم إلحاقها بالولايات المتحدة الأمريكية. نحن في القارة الأوروبية محميون إلى حد ما من قبل لغاتنا الوطنية، لكن الانخفاض في استقلاليتنا كبير وسريع. لنتذكر حرب العراق، فقد عقد الرئيس الفرنسي آنذاك شيراك والمستشار الألماني شرودر وبوتين مؤتمرات صحفية مشتركة ضد الحرب.
يشير العديد من المراقبين إلى أن روسيا لديها الناتج المحلي الإجمالي لإسبانيا. ألا تبالغ في تقدير قوتها الاقتصادية؟
لقد أصبحت الحرب اختبارًا للاقتصاد السياسي، إنها أكبر مؤشر على ذلك. يمثل الناتج المحلي الإجمالي لروسيا وبيلاروسيا 3.3٪ من الناتج المحلي الإجمالي الغربي (الولايات المتحدة، العالم الناطق بالإنجليزية، أوروبا، اليابان، كوريا الجنوبية)، تقريبا لا شيء. يتساءل المرء كيف يمكن لهذا الناتج المحلي الإجمالي الضئيل التأقلم والاستمرار في إنتاج الصواريخ. والسبب هو أن الناتج المحلي الإجمالي هو مقياس وهمي للإنتاج. إذا استخرجنا من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي نصف نفقاته الصحية الباهظة التكلفة، ثم “الثروة الناتجة” عن نشاط محامي أمريكا، وكذلك السجون الأكثر امتلاء في العالم، ثم اقتصاد كامل من الخدمات غير المحددة بما في ذلك “إنتاج” 15.000 إلى 20.000 اقتصادي في هذا البلد بمتوسط راتب يبلغ 120.000 دولار، ندرك أن جزءًا كبيرًا من هذا الناتج المحلي الإجمالي هو بخار ماء. إن الحرب تعيدنا إلى الاقتصاد الحقيقي، حيث تسمح لنا بفهم الثروة الحقيقية للأمم، والقدرة الإنتاجية، وبالتالي القدرة على الحرب. وإذا عدنا إلى المتغيرات المادية، فسيظهر لنا الاقتصاد الروسي. ففي عام 2014، فرضنا أول عقوبات كبرى على روسيا، لكنها زادت من إنتاجها من القمح، الذي انتقل من 40 مليون طن إلى 90 مليون طن في عام 2020. بينما تراجع إنتاج القمح الأمريكي بفضل الليبرالية الجديدة بين عامي 1980 و2020، من 80 مليون إلى 40 مليون طن. وقد أصبحت روسيا أيضًا المُصدِّر الرئيسي لمحطات الطاقة النووية. وفي عام 2007، كان الأمريكيون يشرحون بأن خصمهم الاستراتيجي كان في حالة من الاضمحلال النووي بحيث سيكون لدى الولايات المتحدة قريبًا قدرة الضربة الأولى التي لا تستطيع معها روسيا الرد. لكن اليوم، الروس متفوقون نوويًا بصواريخهم التي تفوق سرعتها سرعة الصوت.
تمتلك روسيا إذن قدرة حقيقية على التكيف. عندما نريد أن نسخر من الاقتصاديات المركزية، فإننا نؤكد على جمودها، وعندما نمجد الرأسمالية، فإننا نثني على مرونتها. نحن على حق في ذلك. لكي يكون الاقتصاد مرنًا، يجب بالطبع أن يكون هناك سوق وآليات مالية ونقدية. لكنك تحتاج أولاً إلى سكان نشيطين يعرفون كيف يصنعون مجموعة من الأشياء. إن عدد سكان الولايات المتحدة الآن أكثر من ضعف عدد سكان روسيا (2.2 مرة في الفئات العمرية للطلاب). تظل الحقيقة أنه مع نسب مجموعات مماثلة من الشباب الذين يتابعون التعليم العالي، فإنه يوجد في الولايات المتحدة، 7٪ يدرسون الهندسة، بينما في روسيا 25٪، مما يعني أنه مع وجود عدد أقل بمقدار 2.2 مرة من الأشخاص الذين يدرسون، يقوم الروس بتكوين مهندسين بنسبة 30٪ أكثر. لملأ هذه الفجوة تقوم الولايات المتحدة باستقدام الطلاب الأجانب، ولكن معظمهم من الهنود وحتى الصينيين. هذا المورد البديل ليس آمنًا وهو في تناقص بالفعل. هذه هي المعضلة الأساسية للاقتصاد الأمريكي: لا يمكنه مواجهة المنافسة الصينية إلا من خلال استيراد العمالة الصينية الماهرة. أقترح هنا مفهوم التوازن الاقتصادي. لقد قبل الاقتصاد الروسي من جانبه قواعد عمل السوق (حتى أن الحفاظ عليها هو هاجس بوتين) لكن مع إعطاء دور كبير جدًا للدولة، كما أنه يستمد مرونته من تكوين المهندسين الذي يسمح بالتكيف الصناعي والعسكري.
يعتقد البعض، على العكس من ذلك، أن فلاديمير بوتين استفاد من ريع المواد الخام دون أن يكون قادرًا على تطوير اقتصاده …
لو كان الأمر كذلك، لما حدثت هذه الحرب. من الأمور اللافتة للنظر في هذا الصراع، والذي يجعله غير مؤكد، أنه يطرح (مثل أي حرب حديثة)، مسألة التوازن بين التقنيات المتقدمة والإنتاج الواسع. ليس هناك شك في أن الولايات المتحدة لديها بعض من أكثر التقنيات العسكرية تقدّمًا، والتي كانت في بعض الأحيان حاسمة بالنسبة للنجاحات العسكرية الأوكرانية. ولكن عندما ندخل في حرب استنزاف على المدى الطويل، فإن ذلك لا يرتكز على الموارد البشرية فقط، ولكن أيضًا على الناحية المادية، حيث إن القدرة على الاستمرار تعتمد على الإنتاج الصناعي لأسلحة أقل تطورًا. وهنا نجد مسألة العولمة والمشكلة الأساسية للغرب تعود من النافذة: لقد نقلنا نسبة من أنشطتنا الصناعية [خارج بلداننا] لدرجة أصبحنا معها لا نعرف ما إذا كان إنتاجنا الحربي يمكن أن يتبع وتيرة الحرب. لقد تم الاعتراف بالمشكلة، حيث تتساءل سي إن إن ونيويورك تايمز والبنتاغون عما إذا كانت أمريكا ستتمكن من إعادة تشغيل خطوط الإنتاج لهذا النوع أو ذاك من الصواريخ. لكن من غير الواضح أيضًا ما إذا كان الروس قادرين على مواكبة وتيرة مثل هذا الصراع. إن نتيجة الحرب وحلها سيعتمد على قدرة كلا النظامين على إنتاج الأسلحة.
حسب رأيك، هذه الحرب ليست عسكرية واقتصادية فحسب، بل هي حرب أيديولوجية وثقافية أيضًا …
أتحدث هنا بشكل أساسي بصفتي أنثروبولوجيا. في روسيا، كانت هناك هياكل أسرية جماعاتية أكثر كثافة، وقد بقيت بعض قيمها. هناك شعور روسي وطني لا يمكن تصوره هنا عندنا، يغذّيه العقل الباطن للأمة-العائلة. كان لدى روسيا تنظيم عائلي أبوي، وهذا يعني أن الرجال هم المركز لذلك لا يمكنها الالتزام بجميع الابتكارات الغربية من مثل النسوانية الجديدة والمثلية والتحول الجنسي … عندما نرى مجلس الدوما الروسي يصدر تشريعات أكثر قمعية بشأن “دعاية المثليين” نشعر بالتفوق. أنا أستطيع أن أشعر بذلك لكوني غربي عادي. لكن من وجهة النظر الجيوسياسية، إذا فكرنا من منظور القوة الناعمة، فهذا يشكّل خللا. ففي 75٪ من الكوكب، كان تنظيم القرابة الأبوي هو السائد، ويمكن للمرء أن يشعر هنا بتفهم واسع للمواقف الروسية. بالنسبة للاغرب الجماعي، تؤكد روسيا على محافظة أخلاقية مُطمئِنة. أما أمريكا اللاتينية، فهي هنا على الجانب الغربي.
من ناحية الجغرافيا السياسية، فإننا مهتمون بمجالات متعددة: موازين القوى الطاقية والعسكرية وإنتاج الأسلحة (الذي يحيل إلى ميزان القوى الصناعي).
ولكن هناك أيضًا ميزان القوى الأيديولوجي والثقافي، وهو ما يسميه الأمريكيون “القوة الناعمة”. كان للاتحاد السوفياتي شكل معين من القوة الناعمة وهو الشيوعية، التي أثّرت على جزء من إيطاليا، وعلى الصينيين، والفيتناميين، والصرب، والعمال الفرنسيين … لكن الشيوعية أرعبت العالم الإسلامي بأسره بإلحادها ولم تلهم شيئًا معينًا بالنسبة للهند. ومع ذلك، فإن روسيا اليوم، أعادت تموقعها بوصفها أنموذج [archétype] القوة العظمى، ليس فقط “المناهضة للاستعمار”، ولكن أيضًا الأبوية والمحافظة على الأعراف التقليدية، مما يجعلها أكثر إغراء. يشعر الأمريكيون اليوم بالخيانة من قبل المملكة العربية السعودية، التي ترفض زيادة إنتاجها النفطي، على الرغم من أزمة الطاقة التي سببتها الحرب، وهي بذلك تقف إلى جانب الروس: جزئيًا، بالطبع، من أجل المصلحة الذاتية. لكن من الواضح أن روسيا بوتين، بعد أن أصبحت محافظة أخلاقياً، أصبحت جذابة بالنسبة للسعوديين الذين أنا متأكد من أنهم يواجهون بعض الوقت الصعب مع النقاشات الأمريكية حول وصول النساء المتحولات جنسياً (المعرَّفة هناك كذكور) إلى حمامات السيدات.
الصحف الغربية مسلية بشكل مأساوي، فهي تردّد باستمرار: “روسيا معزولة، روسيا معزولة”. لكن عندما ننظر إلى التصويت في الأمم المتحدة، نرى أن 75٪ من العالم لا يتبع الغرب، مما يجعله يبدو حينئذٍ صغيرًا جدًا. إذا كان المرء أنثروبولوجيًا، فيمكن له أن يشرح الخريطة. فمن ناحية هناك البلدان المصنفة على أنها تتمتع بمستوى جيد من الديمقراطية من قبل مجلة الإيكونوميست [البريطانية] (أي الدول الناطقة بالإنجليزية، أوروبا …)، ومن ناحية أخرى، هناك البلدان الاستبدادية، التي تمتد من أفريقيا إلى الصين، مرورا بالوطن العربي وروسيا. بالنسبة للأنثروبولوجي، إنها خريطة عادية. في الأطراف “الغربية” نجد دولًا ذات بنية أسرية نووية ذات أنظمة قرابة ثنائية، أي أن القرابة الذكورية والأنثوية متساوية في تحديد الوضع الاجتماعي للطفل. وفي الوسط، ومع الجزء الأكبر من الكتلة الأفرو-أوروبية-الآسيوية، نجد التنظيمات الأسرية الجماعية والأبوية. ثم نرى أن هذا الصراع، الذي وصفته وسائل الإعلام لدينا بأنه صراع للقيم السياسية، هو على مستوى أعمق صراع القيم الأنثروبولوجية. هذا اللاوعي وهذا العمق هما ما يجعلان المواجهة خطيرة.
[1] نشر هذا الحوار بجريدة الفيغارو الفرنسية [Le Figaro] ليوم 13 يناير 2023، العدد 24384 في صيغة مختصرة، بينما تم نشر الحوار كاملا ضمن الموقع الإلكتروني للجريدة، وهو ما قمنا بترجمته هنا. أنظر:
https://www.lefigaro.fr/vox/monde/emmanuel-todd-la-troisieme-guerre-mondiale-a-commence-20230112