1 – لم تستوعب بعض ألوان “الخطاب الديني”، أعني الخطاب عن الدين وباسمه، أن دور المُبَلِّغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو التمكُّن من “فقه البلاغ”؛ ومعناه امتلاكُ القدرة المعرفية التجسيرية بين الخطاب الوحياني الثابت ولحظة التلقي المتجددة بسياقاتها المتغايرة، بحيث يستطيع الخطاب الوحياني عبر الدور التجسيري والتفسيري والتحييني ل “فقه البلاغ” أن يخاطِبَ الناسَ هنا والآن؛ أن يخاطب عالمَ اليوم بمحدداتِه العلمية والمعرفية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية والتواصلية والنفسية والروحية…؛ لا يمكن مثلا، أيها الأحباب، أن نفسّر النصّ الوحياني المتعالي الخالد اليوم بجغرافية العصر الوسيط، أو بمعارف العصر الوسيط في الطبيعة والطب والفلك والهيئة و”الصناعة” والرياضيات والفيزياء، والمعارف السرية من سحر وتنجيم وطلسمات وكيمياء…إلخ؛ فضلا عن معارف الإنسانيات في علوم اللغة وعلوم المجتمع والفلسفة والابستيمولوجيا..إلخ.
2- طبعا ليست كل معارف أجدادنا تم نسخُها وتجاوزُها، لكن الأكيد أن جلَّ تلك العلوم، وبسبب تحولات تاريخية وثورات معرفية كبرى، لم تعُدْ إجرائية في سياقنا، إما بما هي معارف تجاوزَها نظامُ المعرفة الحداثية، أو بما هي آفاق تم تجاوزُ النسق المؤطّر لإدراكها، والسياق الناظم لمعقولية فهمِها. فالكشوفات الجغرافية والعلمية والتقنية، والثورات الابستمولوجية والمنهاجية والفلسفية غيرت جذريا من جُلِّ الأنساق التي ما زلنا نركن إليها، نحن المسلمين، في تبليغ الوحي المتعالي الخالد للمتلقي الحديث. لا يمكن أن نفهم الوحي الخالد اليوم بخرائط الشريف الادريسي، أو بجغرافية ما قبل اكتشاف أمريكا، ولا بفلك ارسطو وبطليموس…، ولا بمفاهيم رياضيات الخوارزمي، وطب ابن سينا، وبصريات ابن الهيثم..، ولا بمفاهيم الزمن والمعنى والحقيقة واللغة والتاريخ والدولة والعالم والدين، التي كانت سائدة قبل حصول ثورات الحداثة الفكرية والتقنية والفلسفية والسياسية، التي أحدثت انقلابًا أنطلوجيا في وعي العالم في مختلف النواحي. وهي نتائج أسهمت حضارتُنا الإسلامية بقوة وبهاء في صياغتها وبنائها والإعداد لها تاريخيا، لكنها نتائج ذهبت اليوم إلى آفاق غيرت بشكل جذري من مسلمات المعرفة في العصر الوسيط والتي أطرت تَشكُّلَ العلوم في السياق الإسلامي، وحددت بالتالي معالم العقل المسلم…إلخ.
3- هذا هو عمق المعضلة اليوم؛ فهل تجددت معارف علمائنا، وواصلوا تجديد فقه البلاغ، من أجل ترجمة روح الرحمة المحمدية العالمية بلغات ومعارف وأسئلة ورهانات ومفاهيم العقل المعرفي الحديث، ومن ثم الإسهام أيضا في ترشيده ونقده من داخل استيعاب خصوصيته هنا والآن؟! هذا هو الرهان الجذري المنسي اليوم، أما دون ذلك، فسنظل نعيش خارج التاريخ المعاصر، نستفيد من تقنياته ولا نسهم فيه، بل نعيش انفصاما عميقا وشرخا أليما بين زماننا وروح ديننا. فمثلا، لا يمكن أن نتهم اليوم أكثر من ستة ملايير من غير المسلمين من سكان العالم ب”الكفر”؛ لأن جُلّ هؤلاء يمكن اعتبارهم في حكم “أهل الفَتْرَة”؛ إذ لم تصلهم الدعوة المحمدية الربانية الخاتِمة بما يجعلهم يدركون حقيقتَها، ويستيقنوا من ربانيتِها، ومن صلاحية الاستقامة وفْقَها ضمن شروط اللحظة التاريخية المعاصرة. ومسؤولية ذلك تقع على عاتق المسلمين؛ إذ هذا هو دورهم من خلال التجديد الدائم لفقْهِ البلاغ. فهؤلاء “الناس” غير المسلمين لم تصلهم الدعوةُ المحمدية معرفةً وسلوكا، مفاهيمَ وأخلاقا، لأننا نخاطبهم بفقه بلاغِ أجدادِنا الذي خاطَبَ مخاطَبِين تختلف خصائِصُهُم جذريا عن مخَاطَبِي عالم اليوم. فهذا العالم قد تغيرت خصائصه، ولم نقتد بأجدادنا في إنتاج فقهِ بلاغ يستوعبُ شروطَ زماننا المعرفي والوجودي كما فعلوا بنجاح وتقوى ضمن سياقهم. ونحن بعجزنا عن الاقتداء بهم في صياغة فقهِ بلاغٍ ملائمٍ لعالمنا، نُسهم بشكل غير واع في أن يكذب المعاصِرونَ اللهَ ورسولَه.
4- هنا يصبح كل نعت لهؤلاء المعاصرين بالكفر، نعتًا ظالما؛ إذ “الكفر”، كما هو معلوم، هو سَتْر الحقائق بعد تبيُّنها، والتكبُّر عن الإيمان بها بعد الاستيقان منها؛ إنه مكابرة وجحودٌ وعنادٌ بعد بيان وبرهان، وبعدَ وإقامة الحجة بما يَعْقِلُه المخاطَبُ بمشروطية عقله وسقفِ معارفه ومنظومةِ إدراكه، ووفق قواعدِ الوعي في إبستميته الخاصة؛ وهذا أمر غير متحقق بالشكل اللازم والمطلوب كما هو جلي للعيان.
لقد كان بعض علمائنا أنجحَ منا حين أدركوا هذا الأمرَ من داخلِ أنساقهم المخصوصة؛ أفكر تمثيلا في الإمام أبي حامد الغزالي ضمن كتابه “فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة”، أو الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي في بعض إشاراته ضمن “الفتوحات المكية” وغيرها. وإلى هذا الفهم تذهب أيضا بعض اجتهادات المفكرين والعلماء المسلمين في العصر الحديث على قلَّتِهم.
5 – خلاصة الأمر، أيها الأحباب، أنه بَدَلَ المسارعة إلى مخاصمةِ العالم، وتكفير أكثر من ستة ملايير من سكانه اليوم؛ وبَدَلَ استعداء العالم وتأليبِه ضد الإسلام والمسلمين؛ يجب إصلاح أحوال المسلمين وعيا وسياسة وأخلاقا وتنمية وحضورا علميا وحضاريا في عالم اليوم، كما يجب تجديدُ فقهِ البلاغة بحيث يغدو الحديثُ اليوم عن الدين حديثا ينتمي في نفس الوقتِ إلى الوحي الخاتم وإلى خصائص العصر الحاضر، وذلك بما يحقق التجسير والتحيين والملاءمة الإدراكية لروح الوحي الخالد هنا والآن. إذ ذاك، سيدخل الناسُ في دين الله أفواجا، لأنه سيقدم لهم مفاتيح النجاح، وسيجيب عن احتياجاتهم المعرفية والروحية والأخلاقية الوجودية هنا والآن، وستصبح الدعوة للدين آنئذ دعوةً لإنقاذ الإنسان، يعتنقها كلُّ ذوي الفِطَرِ السليمة في العالم. ها هنا، سيَمُدُّنا الوحيُ ب”عجائب” جديدة تسهم بقوة في حلّ إشكالات مستقبل الإنسان المعاصر، مما لا زال ضمن المستحيل التفكير فيه بأدواتنا الاجترارية المعطوبة.
فلنكن في مستوى عظمة الإسلام…ولنجدد عاجلا فقه البلاغ.