يظل كتاب “التجربة اليابانية” للباحث المغربي الشاب سلمان بونعمان[1] دراسة قيمة تستحق باستمرار الدراسة والاهتمام، نظرا لطبيعتها الجديدة في منهج التأليف حول سؤال النهضة، فهي تخرج في الإجابة عنه من الجانب النظري إلى تقديم النموذج كما أشار إلى ذلك مدير المركز الذي صدرت عنه الدراسة على ظهر الغلاف.
لما ألف الكاتب هذا الكتاب يبدو أنه كان واضعا نصب عينيه ثلاثة أهداف رئيسة، أولها رفع طابع “الإعجاز” الذي يسبغه عدد من المتحدثين عن التجربة اليابانية، خصوصا في العالم العربي والإسلامي، وثانيها تحرير النفسية العربية الإسلامية من عقدة تفسير تقدم الآخر بالخوارق، وربط الأسباب بالمسببات، وثالثا بيان العوامل الحقيقية التي أسهمت في نجاح التجربة اليابانية.
في حديثه عن ما سمي بـ”المعجزة اليابانية” يقول سلمان: “تدرج معظم الدراسات المهتمة بتجربة التفوق الاقتصادي الياباني في إطار مقولة “المعجزة الخارقة” التي ليس بإمكانها أن تتكرر أبدا. وهذا ما نكاد نلمسه تقريبا في طبيعة التفكير اتجاه هذه التجربة؛ من خلال موقف الانبهار الذي يصل إلى حد الافتتان بها وجعلها تجربة استثنائية خارقة، كما حاول البعض البحث عن نقاط الالتقاء من الناحية التاريخية بين التجربتين العربية واليابانية، ليرى أن التجربة اليابانية هي السبيل الوحيد للتقدم، وينبغي على العرب تطبيق هذه التجربة واتباع خطواتها حرفيا)[2].
غير أن مؤلف الكتاب له وجهة نظر مخالفة تماما لهذا التصور، فهو ينظر إليها بأنها تجربة مثل باقي التجارب، نعم؛ لها تفردها وتميزها ومظاهر قوتها، غير أنها أخذت بأسباب القوة فكانت قوية، وتوفرت لها شروط النهضة فحققت نهضة شاملة، بعيدا عن التفسيرات الخرافية التي تربط كل حدث جديد بالمعجزات والخوارق.
لذلك يؤكد الباحث في موضع آخر من الكتاب أن (النهضة اليابانية ليست لمسة عجيبة تفرض علينا النظرة السحرية على منجزاتها، ليكون التعامل معها من داخل المنظور الانبهاري الذي لا يضيف على الموضوع المعالج شيئا، سواء أكان ذلك من حيث النقد البناء أم من حيث التساؤل القلق عن مستقبلها وآفاق تطورها وتحدياتها الحالية والمستقبلية. فخرافة الاستثنائية ينبغي القطع معها منهجيا؛ لأن الاستثناء معناه الاشتغال والنهوض خارج القوانين والسنن الكونية التي وضعها الله عز وجل وأخضع لها الأمم والشعوب قاطبة)[3].
ويزيد المؤلف هذا المعنى تأكيدا وتوضيحا فيقول: (والحاصل أنه لا يمكن الحديث عن “معجزة يابانية”، وإنما عن دورة حضارية يتم فيها التفاعل والتلاقح والتداول، ويكون بموجبها الصعود والانحدار. بل إن موضع التقدير البالغ لهذه التجربة الناجحة كونها تجربة إنسانية لها سلبياتها وإيجابياتها، صحيح أن لها خصوصياتها، ولكنها تجربة حضارية يمكن النظر من خلالها إلى نجاح الإنسان وإخفاقه، هزيمته أو إصراره، وقدرته على التكيف والمرونة أو ضعفه عن ذلك)[4].
في تفسيره لأسباب قوة التجربة يتوقف عند التفسيرات التي تربط نجاحها بلحظة زمنية قصيرة جدا؛ فيثبت من خلال عدد من المعطيات أن تجربة النهوض اليابانية لم تكن مجرد انبثاق مفاجئ مع حركة الميجي سنة 1868، كما يعتقد الكثير، وإنما هي تجربة لها جذورها النهضوية العميقة وسياقها التاريخي الفريد وعناصرها الكامنة الممتدة طيلة فترة توكوغاوا، أي أن القرن السادس عشر هو الذي شكل القاعدة الأساس للنهضة اليابانية[5].
أما عن الأسس النهضوية التي قامت عليها التجربة اليابانية فيختزلها في أربعة أسس:
ـ الأساس المعرفي: في حديثه عن هذا العنصر يؤكد الباحث أن الجانب المعرفي قد شكل أحد مرتكزات النهضة اليابانية الأولى في عصر الميجي، فقد حاول رواد الإصلاح عندهم تحقيق نهضة ثقافية من خلال الجمع بين الخبرة التاريخية المتراكمة خلال تجربة توكوغاوا، والعمل على تجاوز منطقها المنغلق على الذات، دون إحداث قطيعة من التراث الثقافي الياباني، وكان إصلاح النظام التعليمي مرتكزها الأول في ذلك[6].
ـ الأساس القيمي: بقدر ما يحرص اليابانيون على مواكبة روح العصر والاستفادة من منجزات الحضارات الأخرى؛ يحرصون على التمسك بقيمهم وهويتهم وثقافتهم، فقد كانت السياسة التعليمية تشدد على نشر الروح الوطنية وحب اليابان وتمجيد الإمبراطور والحفاظ على الهوية وترسيخ التقاليد النافعة[7]. فقد(ظلت اليابان وفية لثقافتها ولتقاليدها ولماضيها، ولم تصرفها “الأفكار الميتة” في الغرب عن طريقها. فالفرق شاسع بين تعامل الإنسان المسلم مع الغرب وتعامل الإنسان الياباني معه؛ حيث إنه ترك القشور واهتم بالجوهر، فتمكن من استيعاب العلوم الغربية التي تمثل سر شموخ حضارتها؛ دون أن يؤدي به ذلك إلى فقدان هويته، والسقوط في التبعية والتقليد)[8].
ـ الأساس الحضاري التفاعلي: لم تكن عند اليابانيين عقدة من اقتباس مستجدات علوم وتكنولوجيا الغرب الحديثة في مختلف فروع المعرفة الإنسانية، بسبب إدراكهم للفرق الحضاري بينهم وبين الغرب، لكنهم في القوت نفسه كانوا حريصين على تجنب الارتهان إلى التغريب الثقافي والانبهار الحضاري المفضي إلى الهزيمة النفسية والاحتلال المادي الأجنبي[9].
ـ الأساس البشري: في بيانه لقيمة هذا العنصر في التجربة اليابانية يقول الباحث: (إن أعظم اكتشافات اليابان هو الإنسان ذاته، إذ بهذا الإنسان وبفضله وقفت اليابان بإباء وشموخ على أبواب النهضة الحضارية، فجوهر التجربة اليابانية هو الارتكاز على الإنسان، والإيمان بقدراته الخلاقة، وتفجير طاقاته غير المحدودة، وغرس عناصر الطموح والتضحية والتحدي بالتوازي مع التعليم والتدريب والعمل)[10].
هكذا إذن قدم سلمان دراسته للعالم العربي والإسلامي، داعيا عموما الدارسين والمهتمين بالنهضة إلى النظر بعين ثاقبة بصيرة، بعيدا عن نفسية الهزيمة المسكونة بروح الانبهار أمام أي جديد. لذلك فالمطلوب حسب الباحث هو التمسك بالمنطق السنني الذي يقوم عليه الكون، والإيمان بالدورة الحضارية التي تحكم البشرية، بعيدا عن منطق الخرافة والاستثناء.
[1] – الكتاب صدر سنة 2012 عن مركز نماء للبحوث والدراسات وأعيد طبعه سنة 2014.
[2] ـ سلمان بونعمان، التجربة اليابانية: دراسة في أسس النموذج النهضوي، الطبعة الأولى(بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات، يناير 2012)، ص: 21.
[3] ـ نفسه، ص: 24.
[4] ـ نفسه، ض: 27ـ28.
[5] ـ نفسه، ص: 38.
[6] ـ نفسه، ص: 95.
[7] ـ نفسه، ص: 99.
[8] ـ نفسه، ص: 144.
[9] ـ نفسه، ص: 115.
[10] ـ نفسه، ص:127.