توطئة:
كانَ نهوضُ الشّرفاء السعديين كانَ بادئَ الأمرِ بالجنوب الشرقي للمغرب الأقصى متحالِفين مع الجزولية بهَدَفِ “تحقيق أمنية وَطنية، هي تنظيم القوات الـجهادية وقيادَتُها لطَرْد الأجانب الـمحتَلّين لشواطئ البلاد”[1] المغربية، فَتَحَقّقَ لهم شَطْرٌ مِن ذلك على يد قائِدهم ومؤسّس دعوتهم محمد القائم بأمر الله الزيداني، ثم على يَد وَلَدَيْه السياسِيَيْن الـمجاهِدين محمد الشيخ وأحمد الأعرج اللذين رَسَّخا “مَراسم السلْطَنة الدَّارِسَة، ومَعالِمها الطّامِسَة”[2]، إلا أنّ الخطر الصّليبي – وبدرجة أقَلّ التهديد العثماني _ ظَلّ يُحيط ويُحيق بالمغرب في أطرافه الشّمالية الغربية، بينما شَبَّت نارُ الصِّراع السياسي على العرش بين محمد المتوكل ابن السلطان الراحل عبد الله الغالب (تـ 1574)، وعَمّيْه عبد الملك وأحمد السعدي، اللذان حملا على عاتِقَـيهما مَهمة استئناف الدّفاع بالنار والحديد عن وحدة تراب المغرب وسَلامة أراضيه.
- التدبير والتقدير.. جهودِ عبد الملك التَمهيدية والتعبَوية:
استَـثْمَر الأخوانِ عبد الملك وأحمد فيما تَعلّماه من فنون الحربية وحياة الجُندية بالإيالة العثمانية، واطّلاعهما على جديد التعبئة والتحشيد والعُدّة القتالية في ذلكم العصر، كما استَفاد أحمد من حملاته التّأديبية ضد الخَونة وأتباع ابن أخيهِ المتوكّلُ في منطقة سوس، وخَدَمَتْهما فِراسَتُهُما السياسية ومراقَبتُهما للأوضاع في المنطقة والبَحر الأبيض المتوسّط، دون أنْ يَتَمَكَّنَا مِنْ اسْتِكمال طموحات أبيهما في الجهة الشّرقية واستغلال “الفوضى السّائدة في المنطقة المغاربية التابعة للعثمانيين”[3] واستغلال النّصر الحاسم الذي سَبَق لأخيهما عبد الله الغالِب أنْ أحْرَزَه ضدّ القُوّات العُـثمانية حوالي العام 1558؛ ولكنهما نجحا إلى حَدٍّ بَعيد في وضْعِ ثِقْلِهِما السّياسي والعسكري في مواجَهة الإيبِيريين، وعَقْد معاهدات سِلم وصَداقة مع إنجلترا وفرنسا لتَحْيِيدهِما مِن النزاع، فَصَوّبَا جُهودَهما للنِّزال الكَبير ضد البرتغال في الواقعة الشهيرة بمعركة وادي الـمَخازن.
لقد سَاهمت اليَقظة الإستراتيجية والرّصْد القَبْلِي لِقُوّات عبد الملك السعدي وفُرُق المتطوعين من طَلَبة الحواضر والمتصوِّفِين والعلماء التّابعين للتيار الزرُّوقي والتيار الجزولي، وحُسْن تَجييش المغاربة الذين كانوا يَتَطَلّعُون منذ سنواتِ الحكْم الوطّاسي إلى حماية ثُغُورهم وصَدّ أعدائهم النّصارى والتَّشَوّف لاستعادة الأندلس[4]؛ فكان مِن السّهل على عبد الملك وشَبكة العلماء والخطباء التي بَثّها في البلاد لتُعَبِّئَ للجهاد، واعتماده على أخيه أحمد لقيادة الجيش الرّسمي من فاس باتجاه العرائش؛ أنْ يَتَحَضَّر جيِّدًا للقاء عند وادي اللوكوس، حيثُ جَرَت يوم الإثنين 30 جمادى الأولى سنة 986 هجرية الـموافق لـ 4 غشت 1578 وقائع معركة وادي المخازن، وفي عشية اليوم ذاتُه بُويِع أحمد بن محمد الشيخ خليفةً، وتَلَقّبَ بـ”المنصور”، افتخاراً وتخليدا للنّصر التاريخي للقوات الشّريفِيّة في وادي المخازن، ومن عجائب مصادَفات الزمن؛ احتفاء المغربِ بالذكْرى 447 لمعركة وادي المخازن يومَ الإثنين 04 غشت 2025.
- قِيَم البناء والعَطاء.. بعض معاني استثمار الانتصار:
حَفّزَت الدّوافع الاقتصادية والطّمَع في الاستحواذ على الأراضي المغربية لا سيما المتاخمة للمُحيط؛ الملكَ البرتغالي سيباستيان على غزو المغرب لدعْمِ حليفِه محمد المتوكل، ولإيقاف حُلْم العثمانيين في احتلال المغرب وتهديد الشّواطئ البرتغالية واحتكار التجارة البحرية، إلا أنّه نَسِيَ أو تغافلَ عن كونِه مُقْدِمٌ على الحرب ضِدّ بلاد عازمة على الدّفاع عن نفسها على حد تعبير المؤرخ هنري دي كاسطريس. وذلك ما كان؛ من خلال التصدي البطولي للحملة الصليبية على الجناح الغربي من دار الإسلام، والتنكيل بأحلام الـغُزاة، واستعادة أمْجاد المرابطين والـموحّدين والمرينيين، واستئناف مَسار الحضارة المغربية.
آلَ أمْرُ المغربِ والأشرافِ السّعديينَ إلى أحمد الـمنصور، فَصَارَ بهذا النّصر والتَّكَمُّل في الإنجاز العسكري إلى حيث يَنبغي أنْ تَكون نتائجه؛ سُلطانٌ قَوي وذكي وحازم وعَمَلي، وسلطة مُستَقِرّة، ونُظُم جديدة، وتطوير كبير للعاصمة مراكش، وشُرُوعٌ في بناء القُصور وتشييد الحصونِ والجسُور، ودِبلوماسية دولية مقرونة بهيْبَة الانتصار التاريخي في وادي المخازن على القوّتين الصَّلِيبِيَتَين في البحر المتوسّط، وجَلْب الاستثمارات الاقتصادية للمغرب، ورفْع كِفاية الخدمات الاجتماعية للدّولة، وتَنشيط الحركة العلمية والفكرية والأدبية، وإعادة “تنظيم المخزن وإحكام القبْضة على المجال المغربي”[5]، وترتيب الجيش الرسمي الجديد مِن كَتِيبَةِ سُوس وشْرَاكة وَزْوَاوَة[6] وأندلسيين وأتراك وأوروبيين عَرَضُوا أنفُسَهم طَوْعا للخِدمة في الجيش الشّريفي حسب شهادة المؤرخ عبد العزيز الفشتالي (تــ 1621)، إضافة إلى العُلُوج وعدد كبير مِن “الشباب الـمسيحيين، تَمّ تجنيدُ جزء منهم”[7] وأساسا الإسبان والبرتغاليين بعد معركة وادي المخازن، ثم التطلّع لاحقاً إلى العُمق الإفريقي، وغيرها مِن النتائج التي يَعرفها القَاصي والدّاني مِن مصادر المرحلة ووثائق وكُتب المؤرّخين والإخباريين عن فترة حُـكم أحمد المنصور الذَّهَـبِي الذي “ذَهَب وحْدَه بـفَخْر اليومِ جَلاداً وصبْراً وثباتا وإقْـداما” حَسَب عبارة الفشتالي في “مناهِل الصّفا”.
لقد أجاد المنصور والمخزن السّعد والنّخبة العُلَمَائية الاستثمارَ في فترة “السِّلم الاجتماعي والسياسي النِّسْبِيَين على الصّعيدين الداخلي والخارجي”،[8] وعَزّزوا من قِيم البناء والعطاء والنّماء، وساهموا _ كُلٌ من موقعه _ في إعطاء دُفْعَة حضارية وسياسية وعسكرية عالية للمغرب الأقصى في العصر الحديث، والْـتَفُّوا حول شخصية السلطان أحمد الـمنصور الحائزِ “أوصافَ الزّعامة وشُروط الإمامة”[9]، أو بعبارة الأستاذ المختار السوسي “صَقْـر السّـعديين”.
وبِدَوْرَه؛ ساعَدَهُ وَضْعُه كَوَارِثٍ للشّرفاء ومِن بيت علوي شريف، وتَأَمُّرُه على العامة والخاصة برغبة منهما وتتويجا لانتصاره في وادي المخازن، وذكاؤه وحَزْمه وعِلْمه؛ في الارتقاء لــ”مركز الجذْب الـمِثالي للسّلطنة”[10] السّعدية، دُونَ أنْ يُخفِ طيلةَ مرحلة حُكْمِه تَطَلّعاتِه وطموحاتِه وأحلامِه التّوسعية، حتى أنشَدَه أحد الشّعراء الحجازيين يوما في مجلسه بقصر البديع مادحا:
إنّ أميرَ المؤمنين أحمدُ == بَـحْرُ النَّدى وفَـــضْـلُــه لا يُــجحَدُ
فَطَيْبَةٌ ومَكَةٌ أهْـلُهـما == والـمسجدُ الأقصى بذاكَ يَشْهَـدُ
ختاما:
أما الاستبشار الوطني بالدّولة السَّعدية وخَلِيفَتَها وهَيْبتَها لما بَعد وادي المخازن؛ فَقَد سَجَّلَتْه أعْيُنُ الإخباريين والـمُرافِقِين للجيش الشّريفي والـمْحَلّات السُّلطانية حين دخولها فاس ثم مراكش والحواضر والقرى الأخرى، فانقاد الناس للـمنصور، وأمَّلوا خيرا في الدولة، ورَدّوا مخطّطات البُرتقيز على أعقابها، وأفشَلوا مساعيها لـ”هلاكِ الـمَغرِب وحَصْد المسلمين وإدارَةِ رَحَى الـهَوان على الدين”[11]، وحافظوا على التوازن في منطقة البحر الأبيض المتوسط، والهيبة الـمحمودة لما بعد وفاة المنصور سنة 1603.
وما تزال معركة وادي المخازن بحمولتها التاريخية وهيبَتها ورُوحِها تَفْرِض حُضورها في الذاكرة الشعبية والرسمية والدولية، ويُحْييها المغاربة في أجواء من السعي الـحميد لاستِلهامِ قِيَمِها ودُروسها بعد انصرام 447 سنة على حُدوثها، في الظروف والسياقات التي تحدّثنا عنها، وبالنتائج التي أتَيْنَا على ذكْرِ بعْضِها.
الهوامش:
[1] (كنّون) عبد الله: “النبوغ المغربي في الأدب العربي”، الجزء 1، الطبعة الثانية، 1960، نسخة إلكترونية، ص: 233
[2] نفسه، ص: 235
[3] (ملين) نبيل: “السلطان الشّريف؛ الجذور الدينية والسياسية للدّولة المخزنية بالمغرب”، جامعة محمد الخامس، منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي، ترجمة عبد الحق الزموري وعادل بن عبد الله، الطبعة الأولى 2013، ص: 42
[4] انظر: (كنون) عبد الله: “رسائل سعدية”، ص: 155
[5] “السلطان الشريف”، مرجع سابق، ص: 57
[6][6] (الفشتالي) عبد العزيز: “مناهِل الصَّفَا في مآثر مَوالينا الشّرفا”، تحقيق الدكتور عبد الكريم كريّم، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ص: 35
[7] “السلطان الشريف”، ص: 298
[8] نفسه، ص: 55
[9] “النبوغ المغربي”، مرجع سابق، ص: 237
[10] “السلطان الشريف”، مرجع سابق، ص: 61
[11] (الإفراني) محمد الصّغير: “نُزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي”، تقديم وتنسيق عبد اللطيف الشاذلي، الطبعة الأولى 1998، ص: 139







