في كلمة الشكر والتقدير التي خص بها المؤلفون عملهم، جاء أن بدايات الكتاب الأولى، كانت عبارة عن مسودات قدموها لطلابهم، مسودات تعنى بدراسة السياسات الاستبدادية ([1]). وأشاروا إلى أن فكرة الكتاب في المنطلق، كانت البحث في شذوذ الطغاة ونزواتهم وأوهامهم، وجنون العظمة المتشكل لديهم وهم في السلطة (تأسيسا على فكرة السلطة مفسدة)، مما حذا بهم في مرحلة معينة من البحث إلى التفكير في تصنيف كتاب حول نوادر الدكتاتوريات، مقدمين نماذج وصورا لطرائف طبعت عددا من أنظمة الحكم الدكتاتورية (مثال ذلك الدكتاتور التركماني الذي خلع أسنانه واستبدلها أسنانا من ذهب) ([2]).
تبرز المقدمة الحضور السياسي للدكتاتوريات كأنظمة حكم خلال الفترة الممتدة من سنة 1945 إلى غاية سنة 2010 من خلال المعطيات التالية:
- الدكتاتوريات لا تزال تحكم 40% من بلدان العالم.
- كل الحروب التي اندلعت بعد الحرب العالمية الأولى كانت الدكتاتوريات طرفا فيها.
- ثلثا (3/2) الحروب الأهلية والصراعات العرقية التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية اندلعت في دول ترزح تحت حكم الفرد.
- 85% من المذابح الجماعية التي ارتكبت بعد سقوط جدار برلين كانت من طرف دكتاتوريات ([3]).
يحاول كتاب “كيف تعمل الدكتاتوريات؟ السلطة وترسيخها وانهيارها” فهم الدكتاتوريات والسياسات الاستبدادية، من خلال محاولة فهم صفات النخب الدكتاتورية في المراحل التالية: التأسيس، الاستيلاء على السلطة، تثبيت وتقوية هذه النخب، توسيع مجال سيطرة هذه النخب على كل المجتمع، والانهيار. كما يحاول ربط خلاصات ونتائج هذا الفهم بمتغيرين اثنين: التحول الديمقراطي، وسلوك الفاعل الدولي.
يثير الكتاب مفاهيم مركزية في منظومة الاستبداد السياسي(الدكتاتوريات) من قبيل: النظام – الاستيلاء على السلطة – جماعات السيطرة – الدائرة المقربة – النخب الدكتاتورية – الشخصانية – الانقلابات العسكرية – تركيز السلطة.
يقصد بالنظام “مجموعة القواعد الرسمية وغير الرسمية التي على أساسها يتم اختيار القادة وتحديد السياسات. ويقاس النظام بعدد السنوات التي استمرت فيها المجموعة ذاتها في التحكم في الحكومة” ([4]). وقد وضح الكتاب الفرق بين التغيير الذي يطرأ على الأنظمة وذاك الذي يهم القيادة فقط لا النظام. وتأسيسا على ما سبق، حاول الكتاب تطبيق هذا المفهوم ليحدد الظروف التي تنشئ الدكتاتوريات (متى يمكن أن نقول عن نظام ما أنه دكتاتوري؟)، والتي أجملها في:
1/ الوصول إلى الحكم أو السلطة بطرائق غير ديمقراطية (غير تنافسية) ـ
2/ الوصول إلى الحكم أو السلطة بطرائق ديمقراطية، ثم تغيير القواعد الرسمية وغير الرسمية في الانتخابات اللاحقة ـ
3/ في حالة منع حزب أو أكثر من طرف الجيش لاختيار الحكومة ـ
4/ الإطاحة بالحكومة بانقلاب عسكري أو انتفاضة شعبية، أو ثورة، أو حرب أهلية ،أو غزو أجنبي أو أي وسيلة عنيفة ([5]).
وبخصوص مفهوم الاستيلاء على السلطة، فيرجعه الكتاب إلى الجهات المنشئة للدكتاتوريات، سواء أكانت مجموعات الضباط والجنود، ويتم، في هذه الحالة، الاستيلاء عن طريق الانقلابات العسكرية، أو خلال الانتفاضات الشعبية، أو مجموعات المدنيين المنظمين في أحزاب سياسية والذين يستولون على السلطة بعد الفوز في انتخابات تنافسية، أو من خلال تنصيب من طرف محتل أجنبي، أو بواسطة ما ستصبح فيما بعد عائلة حاكمة، كما هو الحال في بعض الملكيات.
أما جماعات السيطرة أو جماعات الإطلاق كما يسميها “هابر” ([6]) فهي الجماعات المختلفة التي تؤسس الدكتاتوريات وفق ترتيبات معينة، ووفق درجة التوافق والانسجام بين أفرادها، وهي إما عسكرية تملك السلاح وخبرة استعماله (تفرزها مجموعات الضباط والجنود)، وإما مدنية ولدت من رحم أحزاب سياسية تملك قدرات التفاوض حول توزيع السلطة والموارد، واستقطاب الجماهير والحشد الانتخابي (تفرزها مجموعات المدنيين المنظمين في أحزاب سياسية).
كما أن الصفات الموجودة مسبقا في جماعات السيطرة هي التي تحدد الاختيارات الدكتاتورية، مباشرة بعد الوصول إلى السلطة.
إن كل جماعة سيطرة، تضم في ثناياها دائرة مقربة (نخبة دكتاتورية)، فهي ـــ أي الدائرة المقربة ـــ في حالة الدكتاتوريات العسكرية تضم ممثلين عن الضباط(الجيش)، وفي حالة الأحزاب تشمل بعض النخب الحزبية. وما لفظ مقربة إلا دليل على قربها من مراكز صنع واتخاذ القرارات في هذه الدكتاتوريات.
وتعرف الموسوعة السياسية الديكتاتورية بكونها مفهوم سياسي يُوصف به نظامُ الحكم الذي تتركز فيه كل السلطات بيد حاكم فرد، يتولى السلطة بطريقة غير وراثية، وبطريق القوة، أو يتولاها بطريقة ديمقراطية تؤدي فيما بعد إلى تركيز السلطة بيده، يمارسها بحسب مشيئته، ويهيمن بسطوته على السلطتين التشريعية والتنفيذية، ويتحكم بالقرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، دون رقابة على أداء نظامه أو معارضة سياسية لحكمه.
والسلطة في النظام الدكتاتوري، تستند إلى الأمر الواقع أكثر مما تستند إلى النصوص، وفي حال وجود النصوص، فإنها تُطبق بشكلٍ يُخالف المضمون، وقد لا يتم تطبيقها بتاتاً، وكما تعددت الأنظمة الديمقراطية، فقد تعددت الأنظمة الدكتاتورية، فمنها دكتاتوريات أيديولوجية، أو عسكرية، ومنها ما يستند إلى حزب واحد، وبعضها ذات توجيهات محافظة رجعية، وأخرى تقدمية ثورية. وقد يمارس السلطة الدكتاتورية فرد أو هيئة، غير ة أن السمة الرئيسية التي تميزها هو جوهرها الاستبدادي.
وما يميز الدكتاتورية عن أنظمة الاستبداد ([7])، أنها استبداد منظم له دستوره وقوانينه ([8]).
وبخصوص الشخصانية، فيقصد بها تركيز سلطة وحرية هائلة في اتخاذ القرارات في يدي الدكتاتور ([9]).
أما التحول الديمقراطي فيراد به تلك العملية التراكمية المستمرة التي تستهدف دمج صيرورة المشروع الديمقراطي في المنظومة المجتمعية (السياسية، الثقافية، الإيديولوجية والاجتماعية…)، وانعكاس ذلك على سلوك المواطنة للفرد والمجتمع ككل ([10]).
إذا كان الكتاب يحاول الإحاطة بفكرة كلية عنوانها فهم الدكتاتوريات وطريقة استيلائها على السلطة وأساليب حكمها وترسيخ سيطرتها من خلال تطوير نظرية مفسرة للسياسات الاستبدادية، فإن أفكارا جزئية، تعج بها صفحات هذا الكتاب لا تقل أهمية عن الفكرة الكلية، يحاول دراستها وتحليلها وتقريبها من القارئ، يتعلق الأمر بـ :
- الجماعات القادرة على تأسيس الدكتاتوريات (لماذا هناك مجموعات أقدر من أخرى على تأسيس الدكتاتوريات؟).
- القدرات والموارد والبنى التنظيمية لهذه الجماعات.
- صناعة القرار في الدكتاتوريات.
- توزيع السلطة والموارد في الدكتاتوريات.
- الانقلابات.
- الدكتاتوريات والتحول الديمقراطي.
- الدكتاتوريات وسلوك الفاعل الدولي.
اعتمد الكتاب كمنهج في التحليل المنهج المقارن (على اعتبار أن الحقل الذي ينتمي إليه الكتاب، والذي يؤطر عمل مؤلفيه هو علم السياسة المقارن) المستند إلى المقاربة التحليلية والحجة التطورية التي تتعقب مراحل تشكل الدكتاتوريات وتطورها بدءا من مرحلة التأسيس ووصولا إلى مرحلة الانهيار.
وتجدر الإشارة إلى أن الاختلاف الشديد بين الدكتاتوريات، وبالتالي بين طرائق اتخاذ القرار فيها، وطرائق اختيار القادة فيها، والمجموعات المؤثرة في هذه القرارات يؤدي إلى صعوبة إيجاد نظريات حول السياسة الاستبدادية، الأمر الذي يستلزم تطوير نظريات، وإيجاد مؤشرات تمكن من فهم الدكتاتوريات في ظل الفوارق الكبيرة والمتعددة بينها. كما أن الحجج والشبكات التحليلية التي حاول بواسطتها المؤلفون تفسير السلوك السياسي للأنظمة الدكتاتورية في مختلف المراحل لم تتضح جدواها إلا في الفصل الأخير من الكتاب، من خلال عرضها على المتغيرين: التحول الديمقراطي وسلوك الفاعل الدولي.
سعى الفصل الثاني من الكتاب إلى محاولة تقديم الحقائق والمعلومات الأساسية حول تشكل الدكتاتوريات، وإلى وصف الظروف التي تواجهها جماعات السيطرة في اليوم اللاحق للاستيلاء على السلطة.
يعتبر هذا الفصل مؤسسا لباقي فصول الكتاب في التحليل. ذلك أن السؤال الذي يحاول هذا الفصل الجواب عليه، والمتعلق بكيفية وطرائق بدء الدكتاتوريات واستيلائها الاستبدادي على السلطة، يعتبر نقطة انطلاق في تعقب المسار التطوري للدكتاتوريات.
إن السجل التجريبي للدكتاتوريات الحديثة يتم من خلال ست (6) طرائق رئيسية ([11]):
- الانقلابات العسكرية (الطريقة الأكثر شيوعا لنشأة الدكتاتوريات، رغم انحسار هذا الشكل منذ نهاية الحرب الباردة).
- التمرد المسلح (أصبح أمرا نادر الحدوث نظرا لكلفته العالية وصعوبة تحقيقه للسيطرة السياسية).
- الانتفاضات الشعبية.
- الاحتلال الأجنبي.
- التحول نحو الاستبداد.
- تغيير النخبة لقواعد الحكم.
يبرز هذا الفصل أن أولئك الذين يطيحون بالحكومات القائمة يولون أهمية كبرى للحظة الاستيلاء على السلطة (عادة ما تتزامن مع استياء شعبي واسع نتيجة عجز أو فشل الحكومة القائمة في حل مشكلات جادة أو مواجهة أزمات)، لكن نادرا ما تكون لديهم خطط تفصيلية حول ما سيقومون به مباشرة بعد سيطرتهم وتوليهم السلطة (الصباح اللاحق). مما يجعل الفترة التي تلي الاستيلاء على السلطة فترة تتسم بالفوضى والالتباس والصراعات داخل جماعات السيطرة، وعدم وضوح السياسات التي ستتبع.
قد لا أتفق مع الطرح القائل بندرة الخطط التفصيلية لدى جماعات السيطرة لتدبير مرحلة ما بعد الاستيلاء على السلطة، بداعي الحفاظ على سرية عمليات هذا الاستيلاء. لأنه في تقديري لا يمكن فصل لحظة الاستيلاء على السلطة عن ما يستتبعها من لحظات. أما بخصوص الفوضى والعنف والالتباس الذي يلي الإعلان عن السيطرة على السلطة، فأعتبره رد فعل عاد تفرزه لحظة الإحساس بالفراغ في منصب رئاسة الدولة أو الحكومة، سرعان ما يتبدد هذا الإحساس بأول مؤتمر أو ظهور أو بيان صادر عن القادة المطيحين بالحكم السابق، وعن القوى الدولية المتابعة للوضع.
موقف الفاعلين الدوليين تجاه الدكتاتوريات الجديدة: – التدخل من أجل إقناع جماعات السيطرة العسكرية أو أعضاء منها بتسليم السلطة إلى طرف سياسي محايد. |
سعيا وراء فهم الشكل الأكثر شيوعا في إنشاء الدكتاتوريات، يتقصى الفصل الثالث من الكتاب الظروف المرتبطة بالانقلابات العسكرية، وذلك لكون 45% من مجموع عمليات الاستيلاء على السلطة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تمت عن طريق انقلابات عسكرية ([12]) (رغم انحسار هذه الطريقة منذ نهاية الحرب الباردة)، ولكون دوافع تحرك الجيش للاستيلاء على السلطة تختلف من جيش إلى آخر، فهناك من يرجع هذا التحرك إلى الدفاع عن مصالح النخب الاقتصادية خصوصا في فترات الحراك الشعبي المهدد للسلطة والثروة (O’Donnell)، وهناك من يرى أن تدخل الجيش يكون من أجل الدفاع وتأمين المصالح الشخصية للضباط وطموحاتهم السياسية (Norollinger) ([13])، وهناك من يقول بالرأيين السابقين معا، بحيث يأتي تدخل الجيش للحفاظ على مصالح النخب الاقتصادية وعلى المصالح الشخصية لمنتسبي المؤسسة العسكرية (Svolik) ([14]).
إن نسبة 45% من الدكتاتوريات التي أوجدتها الانقلابات العسكرية تستوجب وقفة بحثية عميقة، خصوصا في منطقتنا العربية التي شهدت تعاقب موجات انقلابات عسكرية في مرحلة معينة من تشكل الدول فيها، وما كتاب عزمي بشارة ” الجيش والسياسة إشكاليات نظرية ونماذج عربية” إلا واحد من الكتب التي يمكن الاستعانة بها في هذا الصدد.
كيفية تعاطي الفاعلين الدوليين مع الانقلابات العسكرية: – تعتبر المساعدات العسكرية التي تقدم لدعم الحكام سياسيا في إطار دعم الحلفاء أحد الموارد التي قد تساهم في تحقيق طموحات الضباط السياسية غير الشرعية. – الرفض الدولي والعقوبات الاقتصادية إحدى الآليات الكفيلة بخفض حدوث الانقلابات. |
بدأ الفصل الرابع في تقديم تفسيرات حول الأسباب وراء قدرة بعض الدكتاتوريين على تركيز قدر كبير من السلطة بأيديهم بينما لا يستطيع آخرون. إذ يريد جميع أعضاء النخبة الدكتاتورية الحفاظ على الدكتاتورية، ولكنهم يرغبون، في الوقت ذاته، في زيادة سلطاتهم الشخصية وقدرتهم على الوصول إلى الموارد مقارنة بالآخرين في الدائرة المقربة ([15]).
تؤثر خصائص النخبة الدكتاتورية في التوزيع المبدئي للموارد، وكذا في شكل المفاوضات بين أعضائها. فكلما كان أعضاء الدوائر المقربة أو حتى جماعات السيطرة قادرين على بناء آليات لتعزيز وحدتهم الداخلية، كلما ستبوء جهود الدكتاتور لمراكمة السلطات الشخصية بالفشل غالبا (الوحدة الداخلية والقدرة على التفاوض والمساومة تفشلان إلى حد كبير الحكم الدكتاتوري الشخصاني).
إن قيام فكرة الشخصانية، حسب مؤلفي الكتاب، تقوم بناء على استخدام ثمان (8) مؤشرات لسلوكيات الدكتاتوريين الظاهرة، والتي تقيم سنويا، يتعلق الأمر بـ ([16]):
المؤشر الأول: سيطرة شخصية للدكتاتور على الأجهزة الأمنية.
المؤشر الثاني: تأسيس الدكتاتور قوات شبه عسكرية موالية له.
المؤشر الثالث: سيطرة الدكتاتور على تشكيلة اللجنة التنفيذية العليا للحزب.
المؤشر الرابع: استقلالية اللجنة التنفيذية للحزب.
المؤشر الخامس: سيطرة الدكتاتور على التعيينات.
المؤشر السادس: تأسيس الدكتاتور لحزب جديد داعم لنظامه.
المؤشر السابع: تحكم الدكتاتور في الترقيات العسكرية.
المؤشر الثامن: تخلص الدكتاتور من الضباط غير الموثوق بولائهم (عملية التطهير).
إن شخصنة الدكتاتورية لها عواقب وخيمة على الشعب الذي يعيش في ظلها وكذلك على الشعوب المجاورة، ذلك أن الحكم الدكتاتوري الشخصاني يرتبط بسلوكات عدائية، وباحتمالات أكبر للعنف في أثناء الإطاحة به، وبعدها.
المنتظم الدولي والحكم الدكتاتوري الشخصاني: – إذا كان المجتمع الدولي مهتما حقا بالتنمية والسلام فعليه فعل ما بوسعه لمنع نشأة الحكم الدكتاتوري الشخصاني كشكل متطرف من أشكال الحكم الدكتاتوري. |
يلقي الفصل الخامس المعنون باستراتيجيات بقاء الدكتاتوريات في ظل التحديات ـ فصائلية المؤيدين المسلحين وإنشاء الأحزاب ـ، الضوء على التأثيرات الناتجة عن قدرة جماعات السيطرة من الوصول إلى السلاح. ذلك أن الطغاة الذين اعتمدوا على مؤيدين مسلحين للوصول إلى السلطة، ولكنهم في الوقت ذاته لا يمكنهم الاعتماد عليهم للاحتفاظ بها، يحاولون في كثير من الأحيان موازنة خطر مؤيديهم المسلحين وتأثيرهم بآخرين غير مسلحين(أحزاب)، ويزيد الانقسام المسلح داخل جماعة السيطرة المسلحة من احتمالات إنشاء حزب بعد الاستيلاء على السلطة.
إن إنشاء أحزاب ما بعد الاستيلاء على السلطة لتكون قوة مقابلة لقاعدة دعم الدكتاتور المسلحة الأصلية استراتيجية فعالة للحفاظ على الدكتاتورية وحمايتها من الانهيار، كما أنها فعالة في التحصين ضد الانقلابات، كون الأحزاب تجيد حشد الجموع في الشوارع حين يحتاج الدكتاتور إلى استعراض الدعم.
بالإضافة إلى ذلك، تعمد بعض الدكتاتوريات العسكرية المنشإ إلى استخدام ما يطلق عليه التحول المدني القائم على استبدال مجلس عسكري حاكم بهيئة يقودها حزب تغلب عليه المدنية تحت حكم الدكتاتور نفسه. وقد يتقاعد الدكتاتور رسميا من الجيش كأول خطوة قد تعطي الانطباع بالتحول إلى الديمقراطية. لكن الهدف الرئيس من وراء ذلك هو إطالة أمد بقاء الدكتاتور ونظامه في المنصب من خلال شكليات الأنظمة الديمقراطية([17]).
المجتمع الدولي والتحول المدني في ظل الحكم الدكتاتوري العسكري: ـ يجب على المجتمع الدولي عدم النظر إلى التحول المدني للأنظمة التي تقودها الجيوش على أنه مؤشر على ديمقراطية وشيكة. |
انطلاقا من السؤال التالي: لم تنشئ الدكتاتوريات أحزابا وتعقد انتخابات؟ يناقش الفصل السادس كيف أنه بمجرد ما تذوب الخلافات وتنحل الصراعات الأولية في الدائرة المقربة، وتصبح عملية اتخاذ القرار من طرف النخبة الدكتاتورية متوقعة، تحول المجموعة الحاكمة انتباهها باتجاه بقية البلاد من أجل الوقوف على الصعوبات والمشاكل التي يعانيها الناس في مختلف أرجاء البلاد، ومن أجل ضمان تعاون المسؤولين المحليين في تنفيذ السياسة الجديدة وتحويل انتمائهم إلى النظام الجديد ([18]). وتبقى آلية الانتخابات ([19]) أهم آلية يلجأ إليها لبسط الحكم على عموم المجتمع، فهي ــــ أي الانتخابات ــــ تمكن النظام الجديد من قياس مدى كفاءة المسؤولين المحليين ومعرفة الفاسدين منهم، كما تمكن من قياس نسب المشاركة وجمع المعلومات عن المعارضة (الأعداد والأماكن وطرق تأثيرها…)، كما أنها توفر وسائل المراقبة الدورية لرصد السلوك العدواني بين مسؤولي المستويات الدنيا في الأحزاب، بالإضافة إلى دورها في تطوير شبكات العملاء التي تصل إلى القواعد الشعبية عبر معادلة “توزيع الموارد مقابل التصويت”.
إذا كان الفصل السادس قد ركز على المؤسسات ذات التمظهر الديمقراطي الخاصة بالرصد غير المباشر وجمع المعلومات (الأحزاب والانتخابات)، فإن الفصل السابع يعنى بفحص المؤسسات المخصصة للقهر والمراقبة، والتي تعتمد عليها الدكتاتوريات بشكل مباشر وعلني لجمع المعلومات، وصد وقمع المعارضة، وتأمين وحماية مصالحها. يتعلق الأمر بالمؤسسات التالية:
- الجيش.
- أحهزة الأمن الداخلي.
- الأنواع الأخرى من القوات المستحدثة (القوات شبه العسكرية).
فالجيش يستخدم للحماية من الغزو الخارجي والثورات المسلحة والاضطرابات الشعبية. وهو سيف ذو حدين، إما حصن للنظام ومفتاح للسيطرة على المعارضة (Svolik)، وإما حاضنة للمؤامرات ([20]).
أما أجهزة الأمن الداخلي، فتختص في ما يسمى “القمع الوقائي” ([21]) من خلال التجسس على المعارضين المحتملين وترهيبهم، وعلى قادة الحزب الحاكم، والموظفين، وضباط الجيش، ومديري الشركات التي تملكها الدولة، والأساتذة الجامعيين، والمدرسين، والصحفيين، وقادة النقابات المهنية والاتحادات العمالية ([22]). فهي تجمع بين التجسس، وسلطة الاعتقال، والترهيب، والاستجواب. وتزداد قوة هذه الأجهزة في ظل الحكم الدكتاتوري الشخصاني الذي يمكن الحاكم من الحصول الاستباقي على المعلومات (التنصت على المكالمات)، ومن إخفاء بعض التجاوزات الخاصة به و/ أو بدائرته المقربة.
أما القوات شبه العسكرية (قوات مدنية مسلحة أو ميليشيات الحزب الحاكم أو قوات شبه عسكرية موالية خارج التسلسل النظامي والقيادي للجيش النظامي) فهدفها خلق توازن مع القوات المسلحة النظامية (ما يسمى التوازن المقابل ([23]))، ومواجهة الانقلابات العسكرية المحتملة.
المجتمع الدولي والمؤسسات القسرية في الأنظمة الدكتاتورية: – يجب على الجهات الدولية تجنب تقديم الدعم والمساعدة التي يمكن استخدامها لبناء شرطة الأمن الداخلي أو الشرطة السياسية في الأنظمة الدكتاتورية. |
فكما أن الانقلابات العسكرية هي الطريقة الأكثر شيوعا لبدء الدكتاتوريات، فإنها، حسب الفصل الثامن، هي أيضا الطريقة الأولى التي تنهي الدكتاتوريات. وقد حاول المؤلفون البحث عن جواب للسؤال الآتي: لم تسقط الدكتاتوريات؟ اعتمادا على معادلة رياضية ([24]) تفسر التفاعلات التي تقع بين المنافع والفوائد الآنية والمستقبلية التي يحصل عليها الأفراد في الدكتاتوريات واحتمالات سقوط هذه الأنظمة من ناحية، وتكلفة المعارضة العلنية من ناحية ثانية. وذلك من خلال قياس تأثير الأزمات الاقتصادية والكوارث الطبيعية على معدلات الحصول على المنافع، وما يرتبه الانخفاض المتوقع لهذا الحصول من زيادة المعارضة الشعبية وارتفاع إمكانيات انهيار النظام.
أما التفسير الثاني الذي يبرر سقوط الأنظمة الدكتاتورية وانهيارها، فيرجعه الكتاب إلى:
- تأثيرات الشخصانية ([25]).
- تأثيرات الموت الطبيعي للدكتاتور ([26]): حيث إن الأنظمة التي يركز فيها الدكتاتور السلطة بين يديه تنهار بعد وفاته في وقت أقرب بكثير من الأنظمة التي راكم فيها الزعيم الأول سلطة شخصانية أقل.
- تأثيرات الشخصانية في القدرة على التعامل مع خلافة الدكتاتور الراحل في ظل بقاء النظام ([27]).
يختتم هذا الفصل بإبراز العوامل التي تحدد استجابات الدكتاتوريين وأقرب مؤيديهم لما سيحدث لهم ولعائلاتهم في حال سقوط النظام، وكيف أن الدكتاتوريين الذين تترسخ لديهم قناعة انهيار النظام يدخلون في مفاوضات تضمن لهم نوعا من الإنهاء الرابح لفترة حكمهم. وبخصوص تكلفة فقدان السلطة والتحول الديمقراطي ميز المؤلفون بين تلك التي تتحملها الدكتاتوريات التي يقودها الجيش (تتراوح بين العودة السلمية إلى الثكنات أو المحاكمات أو النفي أو القتل)، وتلك التي يقودها حزب سياسي (تتراوح بين فقان المنصب أو السجن أو الإعدام)، وتلك التي يقودها ملوك (تتراوح بين النفي أو مصادرة الأملاك أو السجن)، وتلك التي توسم بالشخصانية التي تقودها جيوش (تتراوح بين انشار الفوضى، وتنامي العنف) ([28]).
أما الفصل التاسع والأخير فيقدم خلاصات الحقائق المرتبطة بالدكتاتوريات التي جاءت تباعا في الفصول الثمانية الأولى، والنتائج السياسية لهذا العمل استنادا إلى معيار الانتقال في السياسة من الأنظمة الديكتاتورية إلى الأنظمة الديمقراطية وفق مقاربة تستحضر طبيعة القرارات والضغوط التي يكون مصدرها المجتمع الدولي تجاه هذا النوع من الأنظمة السياسية.
إن المدة التي فصلت بين مقالة باربارا غيديس البحثية حول أنماط الأنظمة التسلطية: الأنظمة العسكرية، أنظمة الحزب الواحد، الأنظمة الشخصانية، ومدى تأثير مجموعة من العوامل كالانكماش الاقتصادي في انهيار كل نظام بموجب بنية النظام ذاته، والتي عنونتها بـ :”ماذا نعرف عن الدمقرطة بعد عشرين عامًا؟” وكتابها المشترك مع مجموعة من المؤلفين حول “كيف تعمل الدكتاتوريات؟ السلطة وترسيخها وانهيارها”، والتي فاقت العقدين من الزمن، يؤكد التخصص العلمي للمؤلفة وفريق العمل معها في مجال دراسة الأنظمة التسلطية/ الدكتاتورية. ولكن يبقى المسار طويلا للبحث في آليات اشتغال وحكم هذه الأنظمة، خصوصا وأنها تشغل حيزا مهما من مجموع الأنظمة السياسية في العالم، بالإضافة إلى البحث في العوامل التي تجعل الأنظمة الديمقراطية والأنظمة الدكتاتورية تتعايش جنبا إلى جنب وتتقاطع مصالحهما بين السياسي والاستراتيجي الأمني والاقتصادي.
الهوامش
[1] باربرا غيديس وجوزيف رايت وإيريكا فرانتز، كيف تعمل الدكتاتوريات؟ السلطة وترسيخها وانهيارها، الطبعة الأولى (بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2021)، ص 13.
[2] ص. 14.
[3] ص. 15.
[4] ص. 21.
[5] ص. 22.
[6] ص. 18 – 19.
[7] كالأوتوقراطية مثلا؛ تختلف الأوتوقراطية عن الديكتاتورية من حيث إن السلطة في الأوتوقراطية تخضع لولاء الرعية، بينما في الديكتاتورية فإن المحكومين يخضعون للسلطة بدافع الخوف وحده (الموسوعة السياسية).
[8] الموقع الإلكتروني: الدكتاتورية/https://political-encyclopedia.org/dictionary المطلع عليه بتاريخ 17 يناير 2022 على الساعة 19:00.
[9] ص. 339.
[10] الموقع الإلكتروني: الانتقال الديمقراطي/https://political-encyclopedia.org/dictionary المطلع عليه بتاريخ 17 يناير 2022 على الساعة 19:00.
[12] ص. 57.
[13] ص. 84.
[14] ص. 85.
[15] ص. 339.
[16] ص. 135.
[17] ص. 343.
[18] ص. 205.
[19] ص. 217.
[20] ص. 254.
[21] ص. 242 – 243.
[22] ص. 244.
[23] ص. 255.
[24] ص. 281.
[25] ص. 303.
[26] ص. 313.
[27] ص. 315.
[28] ص. 316 – 332.