هذا الكتاب كنت قد قرأته وعرضته مرتين أمام مجموعتين من الشباب. قرأت هذا الكتاب لأن اليابان لطالما استفزتني خصوصا في أيام المدرسة. فقد كنت أسال، كيف لهذا البلد أن يصبح دولة امبريالية احتلت أضعاف أضعافها ولا تملك من الموارد إلا القليل القليل؟ كيف لهذا البلد أن يكون من عمالقة الاقتصاد وقد خسر حربا طاحنة أودت بحياة ملايين الأشخاص وتدمير مدينتين بالكامل؟ استفزني هذين السؤالين وصرت أبحث عن كتاب أقرأه عن اليابان وأسباب نهوضها فوجدت هذا الكتاب وقرأته. وقد أجاب الكتاب عن تساؤلاتي ولكن بطريقة غير مباشرة، فهذا الكتاب يعرض التجربة اليابانية النهضوية من القرن السابع عشر حتى الحرب العالمية الثانية. ولكنه حتما سيجيب عن تساؤلاتك حول نهضته بعد خسارة الحرب لأنه يعرّفك على منهجية تفكير قياديي اليابان التي أوصلتهم الى ما أوصلتهم اليه.
يبدأ الكاتب بمقدمة تحثنا على عدم الانبهار بالتجربة اليابانية كما شاع بين الناس. فهي كغيرها من التجارب رغم نجاحها الباهر لم تتجاوز السنن الكونية في التغيير و النهوض . هي تجربة بشرية متراكمة مرت بالعديد من الصعوبات ولكنها في نهاية المطاف جعلت من اليابان دولة لها كيانها وقوتها داخليا وخارجيا. لذلك علينا أن نعتمد المقاربة النسبية المركبة في قرائتنا لهذه التجربة لا المقاربة الاختزالية (التي تختزل تلك النهضة إلى مجرد تطور في التقنيات والعلوم) ولا المقاربة الانبهارية التي ترد نهضة اليابان الى ثورة الامبراطور الميجي فحسب فتختزل من تجربة اليابان الطويلة. وعلينا أن نبقي في بالنا أن التجارب الناجحة في قطر ما لا تُسقَط كما هي على قطر آخر لأن الواقع يتغير بحسب المكان والزمان. لذلك ما علينا فعله هو النظر في التجارب الناجحة واستنباط القواعد العامة – التي عليها بنيت تفاصيل هذه التجربة– والأخذ بها إن كانت مناسبة (علما أن القران والسنة أشارا إلى هذه السنن والقواعد العامة التي على أساسها تبنى النهضة).
وبعد هذه المقدمة يبدأ الكاتب بعرض التجربة. مرت اليابان بفترة من الحروب الأهلية الناتجة عن الاختلافات الدينية والمذهبية فيها. فديانة الشينتو هي الديانة السائدة في اليابان. وهذه الديانة تقدس الامبراطور والأرض والشعب إذ يعتبر معتنقي هذه الديانة أن اليابان هي أرض خلقها الآلهة خطئا فنزل أحد الالهة إلى هذه الأرض ليديرها وانتهى به المطاف الى التزوج بعد فترة من مكوثه على الأرض من فتاة بشرية وبهذا يكون قد ارتكب معصية. ولم يسمح له الالهة الكبار بالعودة إلى حياته الالهية السابقة. فأصبح هو حاكم اليابان وامبراطوره. والشعب الياباني بحسب قول اليابانيين من سلالة ذلك الاله. وبذلك يكون الامبراطور والأرض والشعب لهم علاقة بالالهة ومن هنا جاء تقديس هذه الديانة لتلك المكونات الثلاث. والامبراطور في هذه الديانة صلة وصل بين الالهة و البشر. ولعدة أسباب منها الديانة ومنها العلاقات الخارجية وغيرها نشبت حرب أهلية يابانية لفترة طويلة استنزفت اليابان اقتصاديا وسياسيا إن صح التعبير. خلال فترة الحرب تلك أي في أواسط القرن السادس عشر استطاع البرتغاليون الوصول الى اليابان وبدأوا بالتكاثر. حاولت السلطة العسكرية مقاومة البرتغاليين وطردهم من أرض اليابان المقدسة إلا أنها لم تستطع أن تجاري قوة الأسلحة البرتغالية المتطورة نسبيا. لذلك أرغمت اليابان على قبول التجارة مع البرتغال والسماح لهم بالدخول الى أراضي اليابان. هنا, بدأ المبشرون المسيحيون البرتغاليون التبشير بديانتهم واستطاعوا اقناع عدد كبير من اليابانيين باعتناق ديانتهم(حوالي 30 ألف). عندما تكاثر المبشرون المسيحيون وأتباعهم صاروا يحرضون اليابانيين على حكامهم ويشجعون أتباعهم على عدم الالتزام بأوامر الحكام . حينها بدأت السلطات اليابانية بتضييق الخناق على البرتغاليين والمسيحيين. وعند استلام عائلة توكوغاوا الحكم كما سيتبين ستطرد اليابان جميع المسيحيين من بلادها وستدخل في حالة عزلة تمكنها من تنمية اقتصادها والنهوض بمجتمعاتها.
دام هذا الخلل وعدم الاستقرارا الأمني قرابة قرن كامل حتى تسلمت عائلة تدعى توكوغاوا الحكم في العام 1603. عملت هذه العائلة على إشاعة المبادئ الكونفوشوسية في اليابان وطردت البرتغاليين من اليابان ودخلت في حالة عزلة مكنتها من تعميم حالة من الاستقرار الأمني والسياسي والمجتمعي في البلاد. هذا الأمن والاستقرار الذي عم في اليابان رغّب طبقة الاقطاعيين والأغنياء في اليابان باستصلاح الأراضي الزراعية والاهتمام بالزراعة فتزايد إنتاج المحاصيل الزراعية كالأرز وغيره مما أدى الى طفرة ديموغرافية زادت من عدد السكان بوتيرة خيالية, فأصبح عدد السكان 30 مليون نسمة في نهاية القرن السابع عشر بعد أن كان 12 مليون نسمة في أول القرن. هذه الزيادة في عدد الشكان أدت إلى توسع في النشاط العمراني إلى جانب النشاط الاقتصادي فظهرت الحواضر والمدن اليابانية وتحولت إيدو(طوكيو) الى أكبر مدينة في العالم بعد أن اتخذتها العائلة الحاكمة عاصمة لها. وهكذا خلقت حياة تجارية متقدمة في المدن نتج عنها نشوء ثقافة جماهيرية معاصرة, فانتشرت المسارح و المطاعم وأماكن الترفيه. إضافة إلى وجود سوق واسع للرسامين والكتاب والفنانين زاد من قوة هذا التيار الثقافي. ” ويكفي القول هنا بأن فنانين عالميين ك فان غوغ تأثروا بالرسم الياباني”. التعليم كان في فترة حكم توكوغاوا أحد أهم إرهاصات النهضة في عصر ما بعد توكوغاوا (حكم الميجي). فقد اهتمت هذه العائلة بالتعليم لأنها اعتبرت التعليم أداة جيدة لنشر المبادئ الكنفوشوسية. فشاع التعليم في الأوساط اليابانية وارتفعت نسبة المتعلمين إلى ال40%. تجدر الاشارة هنا أن التعليم في تلك الفترة لم يكن مقتصرا على نقل المعارف العلمية بطريقة جافة ولكن كان عملية تربوية تهدف إلى بناء “الياباني المثالي ” المتخلق بالمبادئ الكنفوشوسية. وتبعات هذا التعليم انتشرت بسرعة حيث انتشر في اليابان ما يقارب ال3000 دار نشر, ونشر سنويا حوالي ال 600 كتاب او عنوان. وفي اخر عهد توكوغاوا استقى اليابانيون المعارف والعلوم من الألمان الذين كانوا يقيمون في مدينة ناكازاغي قبل العزلة ولم يطردوا بعدها. فاستوردوا علوم الجغرافيا والفلك والفيزياء والأسلحة إلى بلادهم. أضف إلى ذلك الوجود الهولندي في ميناء ناكازاكي الذي أعطى اليابان دفعة علمية ومعرفية بسبب أعمال الترجمة التي حصلت في تلك الفترة. هذا الانتعاش العلمي طبعا أنتج علماء يابانيين وطنيين قادرين على افادة بلادهم و النهوض به.
وفي عام 1853 وجه الكمندور الأميركي بيري انذارا إلى اليابانيين يقضي بقتح اليابانيين لمرافئهم أمام الملاحة الدولية وأجبروا على هذا فوقعوا اتفاقيات مذلة بدأت مع الولايات المتحدة الأميركية ثم ألحقت بدول أوروبية أخرى. أعطت هذه المعاهدات امتيازات للأجانب كما وأنه بموجب هذه المعاهدات أجبرت اليابان على عدم فرض نسبة ضريبية على المنتجات الداخلة اليها.
هذه الضربة المؤلمة التي تلقاها اليابانيون أشعرتهم بخطورة وضعهم الراهن فقاموا باتخاذ العديد من الاجراءات منها:
انهاء حكم اسرة توكوغاوا و الالتفاف حول الامبراطور الميجي الذي أصبح حكمه مباشرا
توحد السلطتان المدنية والعسكرية في شخص الامبراطور الميجي
انهاء العزلة
العمل الجدي على بناء مجتمع عصري فادر على المجابهة على جميع الأصعدة العسكرية السياسية و الثقافية
تبنى اليابانيون مقولة : التكنيك غربي و الروح يابانية
حصلت إصلاحات على جميع الأصعدة الدستورية والاجتماعية والسياسية والعسكرية:
راهن اليابانيون على الجانب المعرفي لتحقيق نهضتهم وكسبوا الرهان بعد أن استثمروا فيه كل رأسمالهم. حيث استفاد اليابانيون من إرهاصات النهوض التعليمي في فترة حكم توكوغاوا وبنوا عليه العديد و طوروه وفجروه إيجابيا, فقد وظف العلم في سبيل خدمة اليابان واليابانيين. طبعا خلال هذه النهضة العلمية حافظ اليابانيون على تراثهم وروحهم إلا انهم لم يترددوا بالأخذ بمعارف من هو متقدم عليهم. التكنيك غربي إنما الروح يابانية. فمن الخطوات التي اتخذوها في هذا المنحى إشاعة العلم بين الفتيات وفرض التعليم لمدة ستة سنوات ثم لتسعة على كل من هو في عمر يسمح له في الدخول إلى المدرسة. هذا الأمر رفع من نسبة اليابانيين المتعلمين إلى حوالى التسعين بالمئة. فقد اعتمد اليابانيون على شعار: “لن يكون هناط طفل جاهل أو أسرة جاهلة أو قرية جاهلة في جميع أرجاء اليابان”. كما وأنهم افتتحوا جامعات عدة منها جامعة طوكية التي ضمت كليات العلوم والحقوق والاداب والطب والهندسة كما وأنهم انشأوا كلية لتعلم الانجليزية للبنات. إن الذي شجع سكان اليابان الى الاقبال على هذه المدارس والجامعات هي أنظمة تلك المعاقل المعرفية. فقد اعتمد اليابانيون في مؤسسات القطاع التعليمي سياسة عدم التفرقة الاجتماعية بين الطلاب وعلى الكفاءة في تقييم التلاميذ. هذا الأمر أراح اليابانيين مما زاد من اقدامهم على تلك الصروح العلمية. كما وأن اليابان لم تسمح لأي جهة خارجية باقامة المدارس والجامعات على أراضيها أو فرض مناهج معينة على مدارسها وجامعاتها إشارة من الطبقة الحاكمة بأنها تريد فرض رؤيتها النهضوية الخاصة على مواطنيها. أما المناهج التعليمية في اليابان فقد ترجمت في أول الأمر من الكتب الانجليزية من غير تدقيق ولا تلفيق ثم روجعت تلك المناهج فرأى اليابانيون ضرورة استبدالها بمناهج تعكس رؤاهم النهضوية واستراتيجيتهم الحالية لذلك بدلت المناهج وترجمت من الكتب الألمانية بحرص وفطنة.
أما العلاقة بين المعرفة وانتشار العلم من جهة والانتاج الاقتصادي من جهة أخرى فقد كانت واضحة جلية. ولنأخذ هنا نموذج الحرير لتبيان العلاقة تلك. عمل اليابانيون على نشر 300 عنوان (كتاب) عن انتاج الحرير بالتقنيات الحديثة وكانت النتيجة أن زادت نسبة محاصيل الحرير اليابانية وأصبحت من أعلى النسب في العالم.
عبارة الأمبراطور الميجي الشهيرة: ” بدأنا من حيث ما انتهى منه الاخرون وتعلمنا من أخطائهم وأعطينا المعلم حصانة الدبلوماسي وراتب الوزير”. فقد كان تبني الامبراطور لهذه العبارة أحد اهم العوامل في تفجير هذه الثورة النهضوية العلمية.
أما عن الصناعة فقد ظهرت براعة اليابانيين فيها منذ ذلك العهد. فحدث ولا حرج عن مصانع الصلب والحديد المتطورة في اليابان. وقد كانت علاقة العامل الياباني بالمصنع الذي يعمل فيه كعلاقة الابن بوالده. فمن المرفوض عند العامل الياباني ان يترك مصنعه من اجل العمل في اخر. كان يعتبر ذها نوعا من انواع الخيانة. العمل عندهم لا يعتبر خدمة يقدمها العامل لمن يعطيه الأجر الأنسب والمال الأوفر كما في النظام الرأسمالي انما العمل هو جزء من حياة الياباني الروتينية بينهما( الياباني والعمل) علاقة ارتباط وثيقة من المناسب وصفها بالعلاقة العاطفية!
أما البراعة اليابانية في تقليد الصناعات ونسخها فتظهر في مثال القطار الأمريكي. في عصر الميجي استورد اليابانيون قطارا أميركيا فلم يضعوه على السكة الحديدية فور ان وصل انما قاموا بتفكيك القطار بالكامل واعادة تركيبه من جديد ليقلدوه في ما بعد وينتجوا امثاله في مصانعهم لا في مصانع غريهم. ولا يزال هذا القطار موجود حتى الان في متحف ياباني.
أما الياباني الانسان فقد كان الحس الوطني عاليا جدا عنده و خصوصا وان الخلفية اليابانية تقدس الأرض والحاكم . فما ان ينهي الياباني دراساته في الخارج حتى يعود الى اليابان ليفيد أمته اليابانية بعلمه و عمله وابداعه.
هذه النهضة هي التي مكنت اليابان من ان تكون احدى اقوى الدول الامبريالية في الحرب العالمية الثانية رغم انها هزمت. حكم توكاغاوا هو ارهاص لثورة الميجي النهضوية التي ما كانت لتحصل لولا تدخل الولايات المتحدة الأميركية في شؤون اليابان التجارية وتهديدها لها. انها الولايات المتحدة الأميركية التي كانت سببا في نهوض اليابان و كانت أيضا سببا في تدميرها بعد الحرب العالمية الثانية.
بعد عرض التجربة يقوم الكاتب بتحليل هذه النهضة بحسب منهج المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله ليستنبط التوجهات والأفكار التي من شأنها أن ترفع من شأن الأمة العربية وتعيدها إلى ركب الحضارة.
اعتبر بن نبي أن اليابان تعاملت مع أفكار ومعارف الغرب معاملة مكنتهم من تمييز الخبيث من الطيب وأخذ الطيب من دون الركون والتبعية للنظام الغربي المادي. فهم حافظوا على ثقافتهم ولكن الحفاظ على الثقافة لم يكن أحد اسباب وقف الانتاج الجضاري والمعرفي والثقافي وعدم النهوض واللحوق بركب الحضارات المتقدمة. فمن رحم هذه الثقافة برز التيار الاصلاحي الذي يدعو الى تبني بعض التكنيكات الغربية المستحسنة وترك المستقبحة منها مع الحفاظ على التراث والثقافة والروح. “إن اليابان وقف من الحضارة الغربية موقف التلميذ, ووقفنا منها موقف الزبون. إنه استورد منها الأفكار خاصة و نحن استوردنا منها الاشياء خاصة.. إن اليابان كان خلال سنوات( 1868 – 1905 ) ينشئ حضارة وكنا نشتري بضاعة حضارة فكان البون شاسعا و الخلاف جوهريا”( مالك بن نبي, تأملات, ص 166 ).
و الجدير بالذكر أن الكاتب أشار إلى عامل ضروري ساهم في تحقيق النهضة اليابانية ألا وهو التماسك الاجتماعي بين مواطني اليابان. وهذا ما عبر عنه المفكر الاجتماعي السياسي والمؤرخ العظيم ابن خلدون في مقدمته بالعصبية التي هي أساس عظمة أي مجتمع و رخائه. فالمجتمع الياباني كله كان راض عن نفسه وراض عن هويته وثقافته و متبنيها من دون خجل او انهزامية. ولكنه في الوقت ذاته لم يتعالى حضاريا على غيره من الحضارات ليرفض كل تقدمهم ويرفض التعلم والاخذ منهم ما صلح. وعندما دقت ساعة الصفر هب المجتمع بأسره من أجل إبعاد الخطر عن الأرض المقدسة. فيا لهذا التماسك !ويا لهذه العصبية!
التوسع في تحليل هذه التجربة و استنباط بعض أسس النهضة منها أتركه للقارئ المهتم بالموضوع ليقرأه في الكتاب و يتأمل فيه.