عبد الرحمان رشيق، دكتور في الجغرافية الحضرية و باحث في علم الاجتماع الحضري، أستاذ علم الاجتماع بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء وجامعة ليون الفرنسية، يضم كتابه هذا 269 صفحة بالملاحق والفهرس والبيبليوغرافيا، وقد صدرت الطبعة الأولى باللغة الفرنسية سنة 2016 عن منشورات ملتقى الطرق، وترجمه للغة العربية عزالدين العلام أستاذ علم السياسية بكلية الحقوق بالمحمدية في دجنبر 2021.
يسعى الكتاب إلى تحقيب ظاهرة الاحتجاجات في المغرب منذ الاستقلال إلى ما بعد “الربيع العربي”، مركزا على العلاقة الجدلية بين السلطة والاحتجاج، ويدرس من خلالها مسار تطور أشكال الاحتجاج من الانتفاضة العنيفة خلال الثمانينيات إلى الاعتصام في التسعينيات، ثم المظاهرات في المجال العام، أخذا بعين الاعتبار النظريات السوسيولوجية التي تفسر الفعل الاحتجاجي .
كتب عز الدين العلام في مدخل هذه الدراسة أنها “امتداد لأعمال سابقة، عالج فيها عبد الرحمان رشيق مكانة الانتفاضة في المخطّط الحضري وآثاره العمرانية والسياسية على العاصمة الاقتصادية للمغرب. وعلى الرغم من أنّها كانت منتهية تقريبا مع نهاية سنة 2010، فإنّ البروز المفاجئ لحركات احتجاجية في بعض البلدان العربية (في تونس، ثمّ في مصر) أجبره على التوقف حتّى يتمكّن من متابعة هذه الأحداث التي زعزعت بعض الأنظمة السياسية السلطوية. وفعلا، فمع بداية سنة 2011، أجبرت الأشكال الاحتجاجية الجديدة التي قام بها فاعلون جدد في أنظمة سياسية سلطوية، ولأوّل مرة في تاريخ العالم العربي، ثلاث رؤساء دول (تونس، مصر، ليبيا) على مغادرة السلطة تحت الضغط المتواصل للشارع، وقد عرف المغرب بدوره احتجاجات جماهيرية بدءا من 20 فبراير 2011 حيث ظهرت للوجود حركة جديدة عبر الفيسبوك أُطلق عليها اسم حركة 20 فبراير.[1]
ينطلق الكاتب من التحديد المفاهيمي للتمييز بين الانتفاضة والحركة الاجتماعية، والحركات الاجتماعية الجديدة، وفي هذا الإطار يقدم إضاءات للمراحل التاريخية التي مر منها الغرب، وبروز حركات اجتماعية متنوعة غير منسجمة في تركيبتها بعد ضعف وتراجع الحركة النقابية.
يتوزع هذا الكتاب إلى سبعة محاور، جاء أولها تحت عنوان “المنظومة السلطوية والاحتجاج المدني” تحدث فيه الباحث عن مختلف أشكال الاحتجاج في سياق سياسي سلطوي (سنوات الستينا، السبعينات، الثمانينات) وذلك من خلال 5 نقط، تتعلق أولاها بتعريف الحركات الاجتماعية، والثانية بالأبعاد السياسية للاحتجاج الاجتماعي، والثالثة بالأحياء الهامشية وعلاقتها بالعنف الجماعي، وفي النقطة الرابعة يتساءل المؤلف عما اذا كانت الانتفاضة ظاهرة “لا عقلانية” ويتحدث في النقطة الأخيرة عن كيفية تكون الانتفاضة.
يختص المحور الثاني “بتكون مجموعات الصراع: من الاعتصام إلى التظاهر” وخصه الكاتب لظاهرة الانتقال من “الانتفاضة” وما تميزت به من عنف خلال الثمانينات إلى الاعتصام في مقرات نقابية وسياسية خلال التسعينات، وذلك من خلال أربع نقاط، تتعلق أولاها بالفرص السياسية الجديدة وتأثيراتها في تحديث الاحتجاج، وتختص الثانية بالتعبئة الجماعية العاطفية، في حين تناقش النقطة الثالثة الفعل الاحتجاجي بين العاطفة والأمل، أما الأخيرة فاختصت بالحديث عن الاضراب كوسيلة ضغط سياسية.
أما المحور الثالث وعنوانه” الشباب أصحاب الشواهد المعطلون واستراتيجية الشارع” فيتحدث عن الشكل الجديد للاحتجاج الذي واكب حركات المعطلين أصحاب الشواهد، ويتضمن أربع نقاط، يعالج فيها المؤلف زمن امتحان السلطة، والاختيار العقلاني ما بين التكلفة والربح، والخيبة باعتبارها الخطوة الأولى لعدم الرضا، وأخيرا يبين كيف تجذرت الحركات الاحتجاجية.
أما الفصل الرابع المعنون بــ “الاحتجاج ضد التهميش”، فقد سلط الكاتب الضوء فيه على مدن شهدت مخاضات عدة مثل مدينة فاس، وعلى التغيير الكبير الذي عرفه المغرب على مستوى الاحتجاج الاجتماعي من الصمت الخنوع إلى المواجهات المنتفضة العنيفة، عبر ثلاث نقاط، تتعلق أولاها بالخوف من الانتقام إلى التظاهر، والثانية بعلاقة الإحباط والتهميش بالسياسات العمومية، في حين تناقش الثالثة صراع القيم والمطالب الاجتماعية.
وفي الفصل الخامس: “نحو تراجع العنف الجماعي” وقف الكاتب على التطور الذي عرفه المجتمع المدني بالإضافة إلى تبني نظام التعددية الحزبية منذ 1956، من خلال نقطتين، تمثلت الأولى في العلاقات الجديدة بين الدولة والمجتمع، والثانية تطرق فيها للتدبير السياسي لعنف الدولة التحكمي، كما تتبع مسار الحركات الاجتماعية بالمغرب في امتدادها الزمني.
وتحت عنوان “حركات الاحتجاج والتكنولوجية الحديثة” خصص الباحث الفصل السادس لحركة 20 فبراير ودور شبكات التواصل الاجتماعي معرفا بهويتها ومسارها، ومحللا مطالبها استنادا إلى وثائقها.
أما الفصل السابع والأخير، فقد اعتمد الكاتب على بحث ميداني للفعل الجماعي لعينات من أحياء الدار البيضاء وتمثلاتهم لقضاياهم المشتركة، كاشفا بالأرقام المستويات الثقافية والعلاقة بالانتماءات السياسية والنقابية والجمعوية، والعلاقة بالمنتخبين، ليخلص أن هذه الشروط تُبقي مشروعية المنتخب وتمثيليته للسكان موضوع تساؤل في غياب المشروعية الاجتماعية للسكان الذين لا يشكلون قوة داعمة، لأنهم لم يتحولوا إلى مواطنين فاعلين منظمين، ما يجعل قوة المنتخب محدودة جدا.
الخلاصة التركيبية للكتاب لخصها الأستاذ عبدالرحمان رشيق على ضوء دراسته لمسار وتطورات الاحتجاج الاجتماعي في خمس أزمنة:
- الزمن الأول من سنة 1960 إلى سنة 1970، تميز بالصدام بين السلطة والتنظيمات السياسية المعارضة وتشكل الانتفاضة الدموية لسنة 1965 تعبيرا عن هذا الصراع.
- الزمن الثاني، انطلق مع الثمانينات، اصطلح عليه بالمجتمع في مواجهة الدولة، تميز هذا النموذج الاحتجاجي بأسلوب الإضراب العام.
- الزمن الثالث من سنة 1990 إلى سنة 1994، تميز بصعود فعل جماعي جديد واللجوء إلى الاعتصام في الفضاء العام كوسيلة للتعبير والضغط وتراجع جاذبية الإضراب العام.
- الزمن الرابع من 1995الى تاريخ الدراسة (2014)، تميز بتطوير الاحتجاج الاجتماعي من خلال اعتصامات المعطلين الشباب حملة الشهادات، والحركات الاجتماعية الجديدة (الدفاع عن حقوق الانسان ،الدفاع عن حقوق المرأة ،الثقافة الامازيغية …).
- الزمن الخامس، تميز بانتقال الاحتجاج الاجتماعي إلى الصراع السياسي في الفضاء العام، والذي تجسد وانطلق مع حركة 20 فبراير في سياق إقليمي اصطلح عليه ب”الربيع العربي”. يتميز هذا الفعل الجماعي الاجتماعي الجديد بنوع من التحالف بين تنظيمات سياسية مختلفة، تكاد تكون بدون “ايديولوجية “، اذ كان هناك نوع من التوافق بين مناضلين جدد.
يضم الكتاب في الأخير ملاحق ذات أهمية، توثق للاحتجاجات بتواريخها (السنة-الشهر-اليوم) وأماكنها حسب الجهات والأقاليم وطبيعة الأحداث، ما يجعل الكتاب مرجعا غنيا في الدراسات السياسية والاجتماعية والتاريخية .
ومما يميز الدراسة، هو صيانة صاحبها لمجال البحث في العلوم الاجتماعية وتحصينه من الأعطاب التي تخللته، خاصة في الشق المرتبط بدراسة الحركات الاجتماعية، هكذا وصف المترجم صاحب الكتاب عندما بادر بالقول “ بدون تردّد أقول أنّ عبد الرحمان رشيق، بحكم اختصاصه، مؤهل للخوض في تفاصيل هذا الموضوع. فهو ليس بالوافد الجديد ليتحدث اليوم عن موضوع أصبح مثار اهتمام العديد من الأبحاث والأطروحات، إذ أنّ هذا الكتاب هو أصلا تتويج لأعمال عدّة سابقة. وعبد الرحمن رشيق في أبحاثه كلّها يتميّز بالروح النقدية و العلمية”.[2]
سيرى القارئ أن هناك سياقا جديدا سوسيو-سياسي أعاد صياغة المفهوم في العلوم الاجتماعية إبان سنوات 1960. فالنزاعات الاجتماعية لم تعد كما في التحليل الكلاسيكي تظهر في المعامل، فالمجتمع بات محتضنا لهذا الصراع الاجتماعي. كما أن خصوصية هذه الحركات الاجتماعية لم تعد مرتبطة فقط بما هو اقتصادي، بل برزت في حقول أخرى ثقافية وقيمية.
لا يبدو عبد الرحمان رشيق في كتابه هذا منشغل البال بالتفسيرات الحديثة للاحتجاج والتي تنهل من حقل علم السياسة، ذلك أن كثيرا من مقارباته للاحتجاج بالمغرب منذ أحداث 1965 إلى مظاهرات “الربيع العربي”، تنهل من الآباء المؤسسين للسوسيولوجيا في محاولة إسقاط نظرياتهم على الفعل الاحتجاجي بالمغرب، واختبار عموميات التحولات التي مست العلاقة فيما بين الدولة والمجتمع، بالقدر الذي يأخذ على إثره مسافة تنطلق من خصوصية التجربة المغربية.
بعد الوقوف على التعريفات المختلفة للأدبيات السوسيولوجية، تناول الأستاذ رشيق الصراع في المغرب بين الملكية والأحزاب السياسية المعارضة والحركة النقابية والتطورات التي عرفها هذا الصراع، مرورا بحالة الاستثناء وانتفاضة 23مارس1965، ودور الحركة التلاميذية وشباب الحركة الطلابية(أوطم)، وصولا إلى مرحلة الثمانينات وانتفاضة 20يونيو1981، وانتفاضة 1984. كما لم يفت الباحث الوقوف على الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية وضغوطات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لإملاء توجهاتهما.
بعد ذلك تم التطرق إلى احتجاجات التسعينيات، معتبرا أن المطالب الاجتماعية ظلت محدودة في عالم الشغل والفضاء المدرسي والفضاء الجامعي، ليتم الانتقال إلى استراتيجية الشارع بعد سنة 1994. مشيرا إلى مرحلة دستور 1992 وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين وانتخابات1993. في هذا السياق، يصنف الباحث العديد من التظاهرات التي تندرج ضمن الاحتجاجات التضامنية مع القضايا القومية واحتجاجات أخرى مرتبطة بما هو ثقافي وقيمي، يسميها الباحث ( les mouvements sociaux de type émotionnel)، سياق تعددت فيه أشكال الاحتجاج من الإضراب عن العمل، إلى الإضراب عن الطعام، إلى احتلال” الشارع والاحتجاج من داخل مقرات الأحزاب والنقابات وسطوح المقرات الوزارية والانتحار والتهديد بالانتحار الجماعي في الفضاءات العمومية . هذه الاستراتيجية، تبنتها حسب الباحث حركة المعطلين الشباب موظفا تحليل “نظرية الاحباط la théorie de frustration” التي تطورت في سنوات الستينيات مع (James davies1971) و(Ted Robert Gurr1970) , لفهم تنامي الغضب لدى هذه الفئة.[3]
تبدو قصة نجاح حركة حاملو الشهادات المعطلون مثيرة للاهتمام بالنسبة للمؤلف، ونموذجا فريدا في التجربة الاحتجاجية المغربية، ويفسر نجاحها هذا باللجوء إلى اختيار باراديغم الاختيار العقلاني ونظرية الإحباط، والأصل في ذلك أنه على الرغم من ظهورها سنة 1990، فإنها استفادت من منظومة سياسية كانت تنفتح تدريجيا مرورا بعدد من التجارب السياسية بدءا من حكومة التناوب سنة 1998، وحكومة قادها الإسلاميون بدءا من سنة 2012.
هل يمكن أن نختزل تفسير تجدّر حركة حاملي الشهادات المعطلين في باراديغم الاختيار العقلاني وحده؟
حسب ما ورد في متن الكتاب “ يندرج تنظيم الفعل الجماعي للحركة في نموذج الاختيار العقلاني، حيث يصبح الفرد بعبارات تكلفة المزايا مصدرا تفسيريا للمشاركة في الفعل الجماعي. إنّ تنظيم المجموعة يتمّ بطريقة لا تسمح لحامل الشهادات أن يستفيد من نتائج فعل جماعي لم يشارك فيه. كما أنّ الحركة تقترح مزايا فردية خاصة من أجل حثّ حاملي الشهادات المعطلين على الانخراط الفعلي في التعبئة الجماعية[4]“.
إن ما يعطي لهذا التفسير أهميته أنه يقدم لنا تشخيصا دقيقا وفهما معمقا لحركة استفادت من مسلسل انفتاح النظام السياسي، ربحت رهان معركة التوظيف وتجاوز وضعية البطالة التي أنهكت أعضاءها. وحقيقة الأمر أنه، وإن تخلل مسار احتجاج حركة حاملي الشهادات المعطلين شيء من العنف من قبل الدولة، فإن مسار الاحتجاج سيتوج مع بدايات الألفية الثالثة بتراجع العنف الجماعي، مع ارتفاع حدّة الاحتجاج بشكل غير مسبوق ضدّ التهميش، استمر إلى أن برزت تعبئة افتراضية عجلت بظهور حركة 20 فبراير.
لقد كانت حركة 20 فبراير لحظة نشوئها متأثرة بما تمر به المنطقة من شرارة الاحتجاجات التي عجلت بهروب الرئيس التونسي بنعلي، فكان لهذا الأمر كبير الأثر على جزء من المجتمع المغربي. استغلّ الشباب المحتج بالمغرب وسائل التواصل الاجتماعي خاصة الفيسبوك، وكان أول ما قامت به الحركة من ردّ فعل اتجاه النظام هو السخط ضدّه باعتباره نظام سياسي موصوم بالرقابة والظلم والفساد والإفلات من العقاب. وسيعمل بعض القادة المقبلين لحركة 20 فبراير على انتهاز أول فرصة للمرور من السخط المنشور على صفحات الفيسبوك إلى الفعل الجماعي في الفضاء العام، إذ أنشأ هؤلاء صفحة على الفيسبوك تحت اسم “خالد الناصري، سير فحالك.. انخرط فيها أكثر من 4000 شخص من أجل إنجاح التعبئة وتنظيم الاعتصامات.[5]
جعلت حركة 20 فبراير هدفها المطالبة بإصلاحات سياسية، لذلك يرى عبد الرحمان رشيق أن بروزها يؤشر على منعطف لم يعد على إثره الاحتجاج الحضري مقتصرا على المطالب المادية ( الزيادة في الأجور، تحسين شروط العمل، الحق في الإضراب…) أو الدفاع على القيم القديمة أو الجديدة المرتبطة بوضعية المرأة واللغة والثقافة الأمازيغية، وحقوق الإنسان…، وإنّما أصبحت هذه المطالب تمسّ صلب المنظومة السياسية السائدة، ألا وهي وضعية الملكية وقداسة الملك، وطبيعة الدستور، والفصل بين السلطات… يشير عبد الرحمن رشيق إلى أن الأدبيات السوسيولوجية تعرّف الحركة الاجتماعية بتأكيدها على ثلاث نقاط أساسية هي التنظيم، الفاعل المعبّئ، والمطالب ذات الطابع الاجتماعي[6]، وبالنسبة لحركة 20 فبراير، يرى الكاتب أنها ليست بتنظيم قوي، إذ أن التنظيم ضعيف في هيكلته، ولا يتوفر على قيادة، فالملاحظ أن شباب حركة 20 فبرابر يرفض حتى مصطلح الناطق الرسمي أو الزعيم، ناهيك عن غياب المطالب الاجتماعية التي تعتبرها الحركة مسألة ثانوية.[7]
أفضت التشكيلة الهجينة للحركة والتي ضمت اليسار المتطرف (النهج الديمقراطي)، والحزب الاشتراكي الموحد، إلى جانب الإسلاميين (العدل والإحسان و العدالة والتنمية)، ثم جزء من الحركة الأمازيغية وشباب الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وحزب الطليعة الديمقراطي إلى بروز صراعات إيديولوجية بين تنظيمات غير متجانسة سرعان ما عجلت بتقهقر نشاط الحركة، لتتلقى الضربة القاضية بعد المصادقة على الاستفتاء الدستوري، ليكون مآلها الاختفاء بعد موتها البطيء وفشلها في تعبئة الأحياء ونقل صدى المظاهرات التي قوبلت بالقمع إلى جغرافية تلك الأحياء .
أضحت الأحياء لاسيما الهامشية منها شيئا يستحق الدراسة والتحليل، خاصة بعدما أصبحت تأخذ مسافة بينها وبين التعبئة الاحتجاجية. ولئن كان بعض الباحثين من يرجح إمكانية اعتبار جغرافية هذه الأخيرة وأفرادها أدوات للضغط على السلطة ووسيلة لتثوير الجماهير وإحداث التغيير، فإن ذلك عكس ما يثبته المؤلِّف في متن كتابه هذا.
يفسر صاحب الكتاب صعوبة اختراق الأحياء من باب شبكات الجوار والعلاقات العائلية، ويسلط الضوء على موقعين حضريين هامشيين وحديثي النشأة بالدار البيضاء، محاولا دحض الفكرة السائدة لدى العموم، والتي تعطي صورة نمطية عن الساكنة الأكثر فقرا اقتصاديا باعتبارها القادرة على تطوير روابط القرب وجعلها أكثر قوة، ففي الأحياء الشعبية ذات الكثافة العالية، نلاحظ ضعف علاقة الجوار، حيث لا يؤدي القرب المجالي سوى للتباعد الاجتماعي.[8]
تتميز العلاقة فيما بين الجيران حسب الدراسة التي بين أيدينا بنوع من الريبة والشك وأخذ الحذر، ففي سعيه للدفاع عن مجاله الخاص، غالبا ما يتسلّح المديني بانعدام الثقة في الجيران المعتبرين غرباء عن العائلة، وكما قالت سيدة في الخمسين من عمرها (جارك هو منشارك، صاعدا أو نازلا، يؤذيك)، تعبيرا منها على انعدام الثقة في الجيران، و ملحمة في نفس الآن لاختفاء علاقة الجوار التي كانت في الماضي.
إن مشاركة سكان الأحياء داخل حركة اجتماعية ما وتحقيق استمراريتها يصعب في ظل انهيار الثقة فيما بين قاطنيها، فحتى الفعل الجماعي داخل هذه الأحياء يتسم بردود أفعال ليس إلا، وغالبا ما ينصب في جزء كبير منه على المطالبة بتوسيع شبكة الكهرباء، أو بناء قنوات للصرف الصحي، أو بناء مسجد… فحتى الانتفاضة التي يمكن أن تقوم نتيجة ضعف الوساطة الاجتماعية في رحاب هذه الأحياء، سرعان ما تختفي ويكون مصيرها في جل الأحيان الاضمحلال.
إلى جانب العوامل السابقة والتي تعسّر من مأمورية نجاح التعبئة الاحتجاجية داخل الأحياء، يكشف لنا المؤلف عنصرا آخر يكمن في التصور العتيق الذي يتمثل في علاقات الخوف والاستبعاد التي يغذيها الأفراد اتجاه ممثلي مختلف أجهزة الدولة، فالخوف وانعدام الثقة يطفوان على السطح عند كلّ محاولة للتنظيم الاجتماعي للاحتجاج.
بعد قراءة الكتاب، يمكن الخروج بنتائج وخلاصات أبرزها أن الاحتلال السلمي للفضاء العمومي صار بعد مختلف أعمال التمرد العنيفة لثمانينيات القرن الماضي، رهانا سياسيا كبيرا جدا. فقد شهدنا خلال تسعينيات القرن الماضي تحول الإضراب إلى شيء مألوف وعادي. فلم تعد تخلق الدعوة إلى الإضراب العام أو الوطني (القطاعي)، التي تطلقها الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، جوا متوترا في المدينة، ولم تعد تلك الدعوة تدرك من قبل المجتمع، ولا من قبل السلطات الرسمية بوصفها تربة مواتية لاندلاع أعمال التمرد القاتلة.
لقد نجح المغرب في غرس عادة الاحتجاج الاجتماعي السلمي في الفضاء العمومي بداية من النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، و حلت الوقفة والمظاهرة والمسيرة، محل التمرد. وما جرى في منطقة الحسيمة (2016-2017) لخير دليل على هذا الأمر. فعلى الرغم من أن المظاهرات كانت “غير قانونية”، إلا أن الحراك استمر لعدة أشهر دون تسجيل أي ضحايا أو تدخل قمعي لفض تلك المظاهرات .
لكن مع عودة السياسة السلطوية منذ 2013-2014 و التي حاولت الحدّ من الاحتلال السلمي للفضاء العام بدون ترخيص إداري مسبق، وإصدار أحكام قاسية على زعماء الحركات الاجتماعية، بدأ الاحتجاج الاجتماعي يتقلص عدديا في الشارع، غير أنّه وفي نفس الآن أصبح ممتدا زمنيا، وأشدّ كثافة.
من غير الممكن أن أوفي الكتاب حقه مهما حاولت، لأجل ذلك سعت هذه المراجعة لفهم معمق لموضوع لا زال يفرض نفسه بقوة في حقل علم الاجتماع، إذ أن القارئ لواقع الدراسات المنجزة لا سيما التي بين أيدينا، سيكتشف أن النهج الذي سلكه عبد الرحمان رشيق يسعى لتسليط الضوء و التأسيس لإدراك عمل الحركات الاجتماعية واستراتيجية الشارع بالمغرب، والبناء الدقيق الذي يسمح بتفكيك موضوع عدّ من الموضوعات الأكثر حيوية في حياة الاجتماع الإنساني.
إن الكتاب جدير بالقراءة ، واستنتاجاته تفيد في فهم ما يحدث اليوم في مناطق متعددة من المغرب من احتجاجات، وقراءته من طرف الناشطين الميدانيين والمناضلين الديمقراطيين ، تسعفهم كما أسعفتني في استيعاب قصور هذه الحركات الاحتجاجية وأعطابها من أجل تجاوزها مستقبلا، والعمل على بناء حركات اجتماعية تكون في مستوى طموحات الشعب لتجسيد الكرامة ، الحرية والعدالة الاجتماعية.
الهوامش
[1] عبد الرحمان رشيق، المجتمع ضد الدولة، الحركات الاجتماعية واستراتيجية الشارع بالمغرب، ترجمة عز الدين العلام، الطبعة الأولى (الدار البيضاء، ملتقى الطرق، 2021)، ص 15.
[2] ص11.
[3] ص135 .
[4] ص127.
[5] ص 172.
[6] ص 178.
[7] ص 178.
[8] ص196 وما بعدها.