لن تحتاج إلى خلفيّة سياسيّة واسعة واطلاع جوهري، حتّى تلاحظ وتستنتج انحياز موقف الكاتب فلاديمير فيدوروفسكي من الصراع الدائر بين روسيا وأكرانيا. هذا الصراع الذي خفت بريق الحديث عنه إعلاميا وسياسيا رغم استمرار المعارك، ولذلك حتما أسبابه وتداعياته.
بعد الانتهاء من مطالعته، ولكوني لست محلّلة متخصّصة، إذ للنقد أهله، أكتفي بعرض أبرز ما ورد وما وصلني من انطباع.
كتاب بوتينأوكرانيا الأوجه الخفيّة، الصادر عن دار النهار لعام 2023، يهديه الكاتب إلى “والدته الروسيّة ووالده الأوكراني”. إهداء يكشف لك القهر النفسي الذي يكابده ويعلنه صراحة: “أراني أشهد في أيام قليلة على انهيار عملي برمّته! خلال حياتي كلّها عملت جاهدا لتجنّب هذا التصعيد”، فهو دبلوماسي ومؤرّخ جاهد طيلة حياته لحفر “قبر الحرب البادرة”، تلك الحرب التي نعيش اليوم مرحلة أخطر منها بكثير إذا ما قارنا المرحلتين وما يحيطهما من بروباغندا لا يُميّز فيها الحد الفاصل بين الكذب والواقع من هنا ينصحنا بـ “التنبّه إلى كيفية استخدام الإعلام خلال الحرب”.
يبدأ فيدوروفسكي مقدّمته بلفت النظر إلى عالم تشوبه كل المخاطر، ويصدر حكمه باعتبار أوكرانيا فشل بوتين الأعظم تاريخيا وكأنها غدت عقدة. يسرد الوقائع والتحليلات بلغة الأدب البوليسي، فهو روائي أيضا، وبالتالي تطبع العناصر الأدبيّة سرده الموزّع على محاور تؤطّرها عناصر تاريخيّة ونفسيّة جيو-استراتيجيّة.
يحكي عن أخطاء الغرب في عدم احتواء روسيا من البداية، والرهان الغربي الفاشل على انقلاب الشعب الروسي، فيما التجارب السابقة تؤكّد وطنية الروس وعدائهم لفوقية الغرب تجاههم، وأنّهم إذا ما انقبلوا على رئيسهم فسيكون ذلك حصرا بسبب هزيمة عسكرية، فالصراع جيو-استراتيجي بامتياز، والجيوبوليتك هو رأس الحربة والمطمع لجل الحروب.
يعرف الكاتب بوتين منذ بداياته في السلك العسكري، بوصفه ما كان لأحد أن يتوقّع له هذا التقدّم الصاعق، وينعته بصفات قويّة على مستوى اللغة وتكوين الانطباع النفسي للقارئ: “حرباء بالفطرة- شرس وحاد، مهووس بالسيطرة….” وبوصفه: “مشكلة روسيا الأساسيّة”.
وعلى الصعيد السيكولوجي يحلّل شخصيته المتأثّرة بمراجع تاريخية يمثّلها الرؤساء السابقين، ولكل منهم أثره في شخصيته بين من أُعجب به ومن نقم عليه، وخاصّة ستالين، فهو مثاله الأعلى وكأنّه يريد تقمّص شخصيته. يخصّص لكل رئيس حيزا ولا يتوانى عن توصيف الفساد في حكمهم وعن غيرتهم من بعضهم، مركّزا على سالتين عارضا مقولته الشهيرة: “بعد موتي، سترمى على قبري أكوام من النفايات، لكنّ رياح التاريخ ستبدّدها”.
يخبرنا عن أوجه نفسية شخصية تكوّن بوتين الحالية: “الطفل والرياضي والجاسوس والسياسي والقيصر” ولكل أثرها وخاصّة عمله كجاسوس مخادع يجيد التماهي مع من حوله لكسب ثقته المطلقة.
يكرّر فلسفة بوتين مرتين غايةً منه بترسيخ الفكرة:” من لا يتأسف على الاتحاد السوفياتي لا يملك قلبا. ومن يتأسف فاقد الذكاء..” وفي معرض آخر يتحدّث عن شخصيته الخطيرة، ففيما كان يتحضّر له أن يكون دمية متحرّكة، صار هو محرّك الدمى.
كتاب جدير بالمطالعة على أي حال، سواء كان ما يقدّمه جديدا أو مستهلكا خاصّة لمن هو جديد على هذا العالم ولفهم عالم الجيوبولتيك والصراعات حتّى من الناحية الديموغرافية وسباق القوّة العظمى لئلا لتبقى الولايات المتحدة وحدها المستفردة بعرض القرارات الدولية ويفهمنا لماذا هذه المنطقة بالتحديد تشهد صراعات انسجاما مع مقولة الخبير الهولندي نيكولا سبيكمان: “الإمساك بشرق أوروبا هو الإمساك بقلب العالم ومن يملك قلب العالم يملك العالم”.
ومن أخطر الأفكار التي تمّر معك، هي النزعة المستمرة لدى قادة العالم لإبقاء الحروب مشتعلة بهدف البقاء في السلطة.
“هي ساحة حرب مرعبة يتصارع فيها الجميع مع الجميع”، أختم بهذا المقتطف الذي يجعلك تتأمل الوجود وسط مع ما يدور اليوم في فل-س:@طي-/ن لصراعات ولّادة لن تنتهي ما دامت المطامع الجيو-بوليتيكية تحكم الحاضر بتجارب الماضي المتحكّم بمستقبلنا، كما يختم الكاتب بخلاصته المستشرفة لـ”ماضٍ لن ينتهي أبدا”.