المؤلف: الدكتور سلمان بونعمان؛
الناشر: مركز نماء للبحوث والدراسات؛
سنة النشر: 2014م؛
عدد الصفحات: 274؛
مــــــدخــــل:
اهتم الدكتور سلمان بونعمان بشكل مبكر بالموضوعات المفصلية ذات الطابع الاستشرافي الجامع بين استيعاب عمق الإشكالات وامتداداتها، واستئناف النظر المعرفي المفضي إلى ارتياد الآفاق المستقبلية، فكتب في النهضة اليابانية باعتبارها تجربة حضارية ملهمة في بناء أنموذج تنموي مبدع ومستقل[1]؛ وهو طرح ينطلق من الرغبة في توسيع مجال الإفادة من التجارب الحضارية الرائدة، وعدم قصره على التجربة الغربية، بما يعني ذلك من إلحاح على التحرر من الاستتباع الثقافي والفكاك من التبعية الإدراكية.
كما كتب في فلسفة الثورات العربية وأسئلة دولة الربيع العربي، مقتحما لجة القضايا الراهنة والحارقة، ومستبطنا خلفية منهجية ورؤية معرفية لمجاوزة المقاربات الاختزالية والتجزيئية[2].
وهكذا قاده وجع الانشغال بأسئلة النهضة ومداخلها، إلى ولوج غمار المسألة اللغوية وإشكالاتها المعقدة وقضاياها المتشابكة، فأبدع في رد العناصر المتفرقة إلى أطرها المرجعية الناظمة، واقتدر على توظيف واستثمار الخلاصات التي انتهت إليها علوم اللغة في إسناد أطروحته، مما جعل أستاذه المقرئ أبا زيد يصف الكتاب بقوله: “هذا العمل المتميز الذي لا يُغني عنه أي كتاب في الموضوع، وإن كان يُغني الـمُبتدأ عن كثير من الكتب التي صدرت في الموضوع بسبب تشعبها أو تناولها لقضايا جزئية، أو انزلاقها إلى رؤية غير سديدة[3].
أطروحة المؤلف:
يكتنز العنوان المركز والدال والمكثف للكتاب أطروحة المؤلف بونعمان، والمتمثلة في مقاربة موضوع الاستقلال الثقافي من خلال المدخل اللغوي، والبحث المعرفي في خلفيات ومآلات خطاب التلهيج، مؤكدا أن هذه الأطروحة تسعى “إلى الاشتباك مع موضوع حساس للغاية، يتعلق بمدى حضور الأبعاد الثقافية والحضارية في مجتمعات ما بعد الربيع الديمقراطي، عبر طرح قضية استرجاع السيادة اللغوية الثقافية المفقودة واستكمال معركة الاستقلال اللغوي والثقافي وتفكيك رواسب الاستعمار الثقافي(…)ليست قضية الهيمنة الأجنبية والاستعمار اللغوي قضيةً لغويةً أو ثقافيةً أو أخلاقيةً أو سياسيةً فحسب، بل هي قضية مصير الإنسان العربي والمسلم، ومستقبل نهضة الوطن والأمة بأكملها؛ فإذا كان كسب معركة التحرير اللغوي والتحرر الثقافي مرتبطا بالإصلاح اللغوي الشامل، فإن بناء الهوية لا يكون بدون التحرير الثقافي الذي شرطه التحرير اللغوي المرتكز على الإصلاح الثقافي اللغوي؛ فلا استقلالَ ولا نهضةَ ولا ديمقراطيةَ بدون استقلالٍ ثقافيٍّ يرتكز على استقلالٍ لغويٍّ. ومن ثم، فإصلاح أوضاع اللغة العربية تأهيلاً وتطويراً، جزءٌ جوهريٌّ في مشروع التجديد والإصلاح والدمقرطة واستئناف النهضة المرجوة؛ بهذا المعنى يُفهم إلحاحنا على ضرورة الوعي الحارق للصراع الحاد حول القيم والثقافة والهوية”[4].
وفي ضوء ذلك ينطلق الكاتب ليؤكد أن اللغة تعكس رؤية للوجود والعالم، ولها أثر بالغ في (بَنيَنة) الفكر وصياغة الوعي وصورنة العقل، وهي نسق معقد وبنية مركبة يتداخل فيها المعرفي بالمنهجي والثقافي بالسياسي والاقتصادي بالاجتماعي، وليست معطى محايدا.
سياق تأليف الكتاب:
الكتاب مساوق لظرفه ولزمانه، مستجيب لعصره وإبانه، ذلك أن ما تشهده المسألة اللغوية في المغرب من نقاشات حادة واستقطابات مقلقة تفرض على المختصين مقاربتها بعيدا عن الانغلاق الإيديولوجي المؤدي إلى ردود أفعال متسرعة وانفعالية.
كما يأتي الكتاب في سياق الوعي بأهمية السؤال الثقافي في النهوض الحضاري، خصوصا إذا استحضرنا الصحوة الهوياتية بعد الربيع العربي، واحتدام الجدل في قضايا الكونية والخصوصية. فحرص المؤلف على الانخراط في النقاش الجاد والمسؤول، تنقيبا عن المفاصل الحقيقية للنهوض الحضاري، ووعيا منه بأن مشاريع الإصلاح والتغيير ليست مجرد أرقام وإحصائيات، وليست نماذج تستورد وتستنبت جاهزة كما يرى رواد الحداثة الذين يقللون من الأبعاد الحضارية للمسألة اللغوية، واعتبار الدفاع عنها نمطا من الانغلاق المعيق للمشاريع التنموية.
المضامين الرئيسة للكتاب:
ليس من المنهج الإتيان على جميع أفكار الكتاب لأنه ممتنع كما وكيفا، وإنما سنرشح للقراءة أصول المضامين وأهمها، وذلك قصد تكوين رؤية مختصرة عنه تيسيرا على القراء وتحفيزا على قراءته والاستفصال فيه.
جعل المؤلف الكتاب في مدخل عام وأربعة فصول وخاتمة، وسنشير إلى ما قصدنا إليه في المعالم التالية:
قضايا المدخل: إن المتأمل في المدخل وما حواه من أفكار، يلفيه في مقام الشرط للمشروط والمقدمات للنتائج، فقد ركز المؤلف فيه على إبراز راهنية بحثه ومعالم الجدة فيه وأهم المسوغات لكتابته، معتبرا أن قضية التلهيج ليست أمرا عفويا ولا بسيطا، بل هي “موضوع حساس للغاية، يتعلق بمدى حضور الأبعاد الثقافية والحضارية في مجتمعات ما بعد الربيع الديمقراطي، عبر طرح قضية استرجاع السياسة اللغوية والثقافية المفقودة”[5]، وهي معركة لا تقل أهمية عن معركة استرجاع التداول السلمي على السلطة والمعركة الديمقراطية بكل قيمها الأصيلة من عدل وحرية وكرامة وغيرها، ويَعُدها سلمان إحدى الوظائف الحضارية الملقاة على عاتق الشعوب والمصلحين، بل هو الأهم في نظره، لكون الاستعمار غير المباشر قد حقق نجاحا كبيرا على مستوى القيم والهوية والأولويات الثقافية والمجتمعية عبر آلة الإعلام والسلطة وغيرها.
ويرى المؤلف أن التركيز على هذا النوع من التدافع تمليه المسوغات الذاتية للأمة، كما يمليه الاعتبار بتجارب البلدان المتقدمة ذات “السيادة اللغوية”[6]، بتمظهراتها الإعلامية والتعليمية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وذلك بإعطاء اللغة الوطنية الصدارة في المجالات المذكورة.
كما نبه المؤلف على أمر غاية في الأهمية قد لا يكون ذا جدوى في ما مضى من تاريخ الأمة، غير أنه يلقي بثقله وضرورته في العصر الراهن، وهو أن “اللغة من المسؤوليات المباشرة للدولة”[7] عبر توفير الحماية بسن القوانين والأنظمة والسهر على تطبيق مقتضياتها وتنفيذها في كل مجالات الحياة ومفاصلها، وهو مسوغ من مسوغات وجود هذه الدولة/الوطن لكون العنصر اللغوي من الدعامات الأساسية للهوية إلى جانب عناصر ومكونات أخرى.
ولإسناد هذه القضية بيّن الكاتب أن الاهتمام باللغة لا يقف عند حد كونها لغة، بل لما تكتنزه اللغات جميعا من خلفيات نفسية وثقافية ورمزية، ولما تكونه من أدوات تفكير لدى أصحابها، فاللغة إذن -حسب بونعمان- لسان الفكر والثقافة والعلم والحضارة، تلعب دورا مركزيا “في وقاية النسيج الاجتماعي من التفكك، وفي تهذيب السلوك الفردي، وترسيخ القيم الجمالية والحضارية الرفيعة وخلق التوازنات النفسية”[8] ، وهذا لا ينفي تداول اللهجات في التواصل اليومي والمعيشي[9].
تفكيك مرتكزات الخطاب التلهيجي: عرض المؤلف في الفصل الأول لمرتكزات المروجين للهجات العامية والانتصار لها لتحتل مقام اللغات العالمة في مجالات التعليم وغيره، ويمكن تلخيص هذه المرتكزات في:
أولا: الاستناد على أبحاث سوسيولوجية ودراسات نفسية ولسانية لتبرير كون اللهجات هي أم اللغات، وعليه لا ينبغي الاستعاضة عنها إلى لغة أخرى ولو كانت العربية[10].
ثانيا: الخلفية الإيديولوجية والعنصرية لمروجي خطابات التلهيج والدعوة إلى اعتماد العامية في التعليم وغيره، ويظهر ذلك في اتهاماتهم للعربية بالعقم والانفصام عن الهوية والبيئة المغربية…[11]
ثالثا: البعد الدستوري في الدعوة إلى العامية لإكسابها الصفة القانونية والإلزامية وخاصة في التعليم[12].
رابعا: التوجه الهوياتي المرتكز على الخصوصية المغربية[13].
وقد اعتمد المؤلف منهجا علميا صارما لتفكيك هذه المرتكزات لبيان تهافتها وعدم قدرتها على الصمود أمام حقائق التاريخ والواقع والعلم، لأن هذا الطرح المتجسد في المرتكزات الأربعة في نظر المؤلف “يسعى في جوهره إلى خلق الصراع بين العربية ومحيطها اللغوي الوطني، مع استعمال فزاعة الإسلام المتطرف والإرهاب حجة لدعم موقفه، وهي أيضا حجة استعمارية فرنسية كلاسيكية”[14].
ثم توجه سلمان بونعمان بالنقد والتفكيك لمقولات هذا التوجه، وذلك في مناح خمسة:
أولا- حول فعالية لغة الأم: وقد استند في نقد هذا الزعم بكشف خلفيته الأسطورية ونأيه عن الواقعية وضعف مستنداته العلمية، وتناقضه مع مطالب الانفتاح الثقافي والإنساني على اللغات الحية، مثل الإنجليزية وغيرها، وقد عمد إلى مقارنة هذا السلوك مع ما تخطه البلدان المتقدمة اقتصاديا وعلميا من مناهج تنفتح بها على لغات حية كما سبق، ومثل بتجربة فرنسا اقتصاديا، وتجربة إسرائيل في تنشئة الأطفال على اللغة الرسمية (العبرية) مع اختلاف لغاتهم الأم باختلاف أصولهم وبلدانهم…[15]
كما توجه في هذا النقد إلى تفكيكه في أصوله وطريقة التسليم به، فـ”مصطلح لغة الأمّ لم يتحدد بعد، لأنه قد نجد في البلد الواحد مجموعة من اللغات، فأيها تعد لغة الأم؟ عندما نقول لغة الأمّ فإننا نفهم من ذلك – من الناحية اللغوية- أنها اللغة التي يأخذها الطفل من والدته، ولكن في واقع الأمر ليس بهذه البساطة، لأن لغة الأمّ تراث مكتسب بعد الولادة، مأخوذ بواسطة الشخص الحاضن أُماًّ كان أو شخصا آخر من نفس الجماعة التي ولد فيها الطفل، أو من أية جماعة بشرية أخرى”[16]،وعليه يكون الأخذ بهذا الزعم إقصاء للغات أخرى، ويكون ترجيحا بلا مرجح وهو التحكم بعينه، إلى غير ذلك من الاعتبارات المنهجية التي توسل بها المؤلف في نقض هذا المرتكز.
ثانيا- في نقد سياسة تلهيج التدريس: وهي من أخطر المرامي وأخطر المزاعم، لما لها من التأثير الأفقي على الأمة في أجيالها المتعاقبة، ولما تحمله من مشاريع هدم للهوية في أعظم عناصرها، وهي اللسان/اللغة، وقد وصف المؤلف هذا السعي مرددا عبارة كبير العلماء اللسانيين المغاربة الدكتور الفاسي الفهري بأنه “تلوث بيئي لغوي أساسه نبذ وظيفية اللغة العربية بإذكاء صراع سلبي بينها وبين اللهجات المحلية واللغات الأجنبية” (ص 106-107)، وهي عبارة استنجد بها المؤلف لبيان أصل المشكلة المفتعلة تمهيدا لنقض هذه المسعى وتفكيك هذا المطلب بسؤال مشكل ومنبه على طبيعة التناقض الثاوي في هذا الزعم الخطير، يقول: “هل اعتماد الدارجة لغة الكتابة والتعليم سيمكن من تحقيق التقدم المرغوب فيه وتدارك التأخر الذي نعاني منه وحل مشاكل الفشل الدراسي والأمية؟
وهو سؤال يحمل في ثناياه جوابه القاضي بالنفي علميا وواقعيا، لكون تداولها على الصورة المرغوبة عند تيار التلهيجيين الفرنكفونيين سيزيد مساحة الأمية اتساعا.[17]
ثالثا- نقد النزعة الحلولية لوظائف اللهجات الدارجة: والمقصود بالحلولية ههنا أن تحل اللهجات الدارجة محل الوظائف الأساس للغة العربية، مع ما بين الأمرين من فروق وخصائص مؤثرة في الوظائف، وهذه الحلولية بتعبير المؤلف هي “ما يسمى بـ”الازدواج اللغوي””-كما هو في تعريف اللغوي الأمريكي (تشارلز فرغيسون) – ومكمن الفروق الجوهرية بينهما أن “اللغة العربية الفصحى تستحوذ على المجالات التواصلية الرسمية كالمجال الديني والمؤسسات التربوية والإدارية، كما تستعمل أداة تعبيرية في الثقافة العالمة والآداب المكتوبة، ومن هنا فهي تكتسب طابع اللغة الرفيعة؛ أما الدارجة المغربية فهي لغة الاستعمال اليومي في المجالات المتسمة بالحميمية، خاصة في الوسط الأسري وبين الأصدقاء كما تستعمل في مجال الآداب الشفوية الشعبية؛ من زجل وأمثال وألغاز وحكايات وأساطير شعبية.. من خلال هذه الاستعمالات تكتسب طابع اللغة الدنيا”[18]، وعليه لا يعدو هذا الزعم، وهذا المرتكز أن يكون سوى دعوى لا دليل ولا برهان عليها.
رابعا- في نقد خطاب التعارض بين العربية واللهجات الدارجة: وفي نقده لهذا المرتكز بناء على سابقه، لأنه قد يخيل إلى القارئ أن هناك تعارضا بين اللهجات والعربية، والحق أن الاختلاف بينهما اختلاف في الخصائص والوظائف، ولا شك أنهما يشتركان في بعضها، وقد قرر الكاتب في دحض هذه الشبهة أن “وجود العامية إلى جانب الفصحى لم يكن أبدا ظاهرة تهدد اللغة العربية، فقد ظلت هذه اللغة لغة الفكر والثقافة والعلوم على مر العصور، كما ظلت العاميات موجودة في كل الأقطار العربية قائمة بوظائفها الطبيعية، من غير أن تضار إحداهما بالأخرى، إن لم نقل باستفادة كل منهما من الأخرى، لأن هذه العاميات كانت تجسيدا للعفوية اللسانية، التي لا تحتاج إلى تعليم أو تكوين بين أفراد المجتمع، والتعبير عن المشاعر والأغراض اليومية. بينما ظلت العربية الفصحى لغة الفكر والعلم والأدب، أي لغة متميزة بمعجمها وضوابطها ومقومات استمرارها، محتاجة إلى التعلم والتعليم، وإتقان الضوابط التي تحفظها بين الأجيال، ناقلة للتراث الفكري والعلمي والحضاري بأمانة عبر العصور”[19].
خامسا- في شروط ترسيم اللغات: ومقدمة الكلام في هذا الزعم أن الدستور المغربي الحالي أحرز تقدما على مستوى تمكين العربية من المقام اللائق بها وما ينبغي أن تبوأه في سلم الترسيم، وهو تماما ما يتناقض مع دعوات ترسيم اللهجات، وخاصة إذا علمنا بأن الترسيم ليس قرارا يتخذ بإجراءات قانونية بسيطة، بل هو قرار شعبي استفتائي بامتياز، وخاصة أن نص الدستور لم يهمش اللهجات، بل وطنها في حيزها الطبيعي احتراما لها واعترافا بوجودها في النسيج المجتمعي المغربي، ويلخص د. سلمان هذا بقوله: “هذه المقتضيات الجديدة التي جمعت بين تعزيز مكانة اللغة العربية وترسيم اللغة الأمازيغية وحماية اللهجات مع تأكيد الدستور على ضرورة تعلم وإتقان اللغات الأجنبية الأكثر تداولا، ستضع المسألة اللغوية في صلب التدافع المجتمعي، باعتبار أن أي سياسة لغوية لا يمكن أن تقوم بتحقيق هدف من هذه الأهداف دون أن يكون ذلك على حساب هدف آخر، وهو التحدي الذي سيطرح على السياسة اللغوية في البلاد التي يطلب منها تعزيز وتفعيل وحماية اللغة العربية في الوقت الذي يطلب منها حماية مختلف التعبيرات الثقافية المغربية، كما يطلب منها في الآن نفسه تقوية تعلم اللغات الأجنبية وإتقانها. وهو المأزق الذي حرص الدستور على محاولة الإجابة عنه من خلال التأكيد على ضرورة السهر على انسجام السياسة اللغوية والثقافية الوطنية”[20].
وفي الفصل الثالث من الكتاب عرض المؤلف للخلفيات المسكوت عنها في مخطط التلهيج المزعوم، فاعتبر مستغربا “أن هذا الدفاع عن العامية كان عن طريق الهجوم على العربية حصراً، ولم يكن احتجاجا على هيمنة لسان أجنبي مثل الفرنسية على التعليم والإدارة والاقتصاد والإعلام. لكن مشكلة المغاربة الجوهرية ليست مع العربية والأمازيغية، وإنما مع لغة أجنبية فُرضت على بلادنا ـ في عهد الاستضعاف ـ بالقوة والإكراه. والاعتراض هنا ليس على اللغة الفرنسية الأجنبية، وإنما على سيطرتها غير المشروعة على الحاضر والمستقبل، خاصة في زمن لم تعد تتمتع فيه بأية قيمة في العالم بعد أن تغيرت خريطة القوى وانحدرتْ مرتبُتها إلى لغة قليلة الشأن في الاقتصاد والثقافة والعلاقات الدولية”[21].
كما تعرض الكاتب في الفصل الرابع إلى بيان تحديات سياسة التلهيج الفرنكفونية المرتقبة على المشهد اللغوي والثقافي المغربي إذا ما تم تنزيل مقتضياتها على أرض الواقع، وحصرها بنوع من الاستقراء في :
- التخلف اللغوي الثقافي.
- المزج اللغوي: العرنسية والدارجنسية.
- التفكك القيمي والتمييع اللساني.
- الافتراس اللغوي والهيمنة الفرنكفونية.
- تعميق اغتراب اللغة العربية.
- انقطاع الصلة مع التراث والقرآن.[22]
- ثم ختم المؤلف كتابه بنص جامع لقضايا الكتاب ملخص لهمومه ومقاصده، يقول فيه: “نختم بقولة الدكتور نبيل علي-رائد معالجة اللغة العربية حاسوبيا وتعريب نظم المعلومات عربيا وعالميا- في كون:”اللغة بأدواتها هي وسيلتنا لإصلاح عقولنا: إنسانية وآلية وجمعية، ولتنمية تفكيرنا: نقديا وإبداعيا، ولزيادة إسهامنا في إنتاج المعرفة: فلسفة وعلما وفنا وتكنولوجيا،(…)فلا أمل في إقامة مجتمع معرفي عربي دون تكامل إقليمي، ولا سبيل لتحقيق ذلك إلا من خلال مدخل ثقافي معلوماتي ينطلق من اللغة العربية بصفتها البوابة الملكية لتحقيق هذه الغاية”[23].
منهجية الكتاب:
أسهم غنى الروافد المتعددة والمنفتحة على المدارس الفكرية والتصورات الثقافية الوازنة في تبرعم الإنتاج بشكل يانع وجذاب. وأفضى الوعي بأهمية المنهج في تراص الأفكار واتساق الاستنتاجات والتركيب المحكم بعد التفكيك البارع، والانسيابية في الطرح من أول الكتاب إلى منتهاه؛ حيث نأى الباحث عن الخطاب العاطفي أو مصادرة الآراء موظفا عدة مفاهيمية ذات جذور معرفية مختلفة ساعدت على تخصيب النص وتدقيق المعطيات والتمكن من الاستنتاجات العلمية الصارمة والوازنة، فجاء المنتوج موسوما بالعمق والوضوح ومطبوعا بنفس استشكالي وأفق استشرافي.
مراجع الكتاب:
يعد الكتاب حصيلة الإبحار الماهر -المحقق للمعرفة الوظيفية بالمعنى البيداغوجي- في أمهات المظان والمصادر المعتبرة، العربية منها والأجنبية، القديمة والحديثة، وهي مصادر ومراجع مؤسسة في الموضوع المشتبَك معه، فاقتدر المؤلف على هضمها واستيعابها بل واختراقها من أجل الدفاع عن أطروحته والاستدلال على أفكاره وتصوراته.
بل لا نبالغ إذا قلنا:إن الكتاب أفادها بقدر ما أفاد منها، إذ أحسن صاحبه استثمار كنه ما جادت به فجاء على سنخها، مزودا القارئ بمفاتيح لقراءتها والرجوع إليها، وينتهي وقد تولدت عنده رغبة ملحة في الرجوع إلى تلك المصادر، كما يتخلق عنده فضول علمي وتنبجس لديه إشكالات وأسئلة حافزة على البحث والتنقيب.
الآفاق:
استطاع المؤلف أن يفتح آفاقا واسعة للنظر المركب والبحث التكاملي أمام الدارسين والباحثين وسائر المهتمين بالمسألة اللغوية في علاقتها بأسئلة النهضة وقضايا التنمية والتحرر، والانتقال من منطق الدفاع العاطفي وخطاب إنتاج المظلومية والمؤامرة إلى ضرورة اجتراح بدائل وحلول في شكل مشاريع حضارية كبرى تجعل التاريخ والحضارة والقانون والسياسة والبيداغوجيا منطلقا لها وتستفيد من التحولات الرقمية الهائلة لخدمة تطوير اللغات الوطنية.
وبقدر ما قدم الكتاب من إجابات بقدر ما أثار من تساؤلات عريضة وعميقة، وهذا شأنالكتابات البانية المؤسسة للوعي.
على سبيل الختم:
يعد الكتاب إضافة نوعية للمكتبة المعاصرة بما اشتمل عليه من أفكار وازنة، وبما أثار من قضايا وإشكالات، اتسم تناوله بالجدة والجدية، ساعد على ذلك التكوين الأكاديمي للمؤلف في مجالات معرفية معاصرة، فاستوعبها ولم تستوعبه.
الفهرس:
[1] سلمان بونعمان، التجربة اليابانية: دراسة في أسس النموذج النهضوي، مركز نماء للبحوث والدراسات، ط1، 2012م.
[2] سلمان بونعمان، فلسفة الثورات: مقاربة تفسيرية لنموذج انتفاضي جديد، مركز نماء للبحوث والدراسات، ط1، 2012م/ أسئلة دولة الربيع العربي: نحو نموذج لاستعادة نهضة الأمة، مركز نماء للبحوث والدراسات، ط1، 2013م.
[3]سلمان بونعمان، النهضة اللغوية وخطاب التلهيج الفرنكفوني : في نقد الاستعمار اللغوي الجديد – حالة المغرب- مركز نماء للبحوث والدراسات؛ ط1، 2014م، ص 11.
[4]نفسه، 15.
[5] نفسه (ص 15).
[6]نفسه (ص 19).
[7] نفسه (ص 21).
[8] نفسه (ص22).
[9] نفسه (ص 22).
[10]نفسه (ص 78).
[11] نفسه (ص 80).
[12] نفسه (ص 85).
[13] وهو مرتكز للدعاة إلى الدارجة/اللهجة تحت ثوب الانتماء الهوياتي المغربي بما يحمله من ثقافات وخصوصيات.
[14] نفسه (ص 91).
[15]نفسه (ص 93)
[16]نفسه،(ص 95) .
[17] نفسه(ص 107-108).
[18] نفسه (132-133.).
[19] نفسه (ص 139).
[20] نفسه (ص 166).
[21] نفسه (ص 178-179).
[22] نفسه، (ص 210-258).
[23] نفسه (ص 267).