كانت الفترة التي قضاها السوسيولوجي المعروف والمستشرق المشهور جاك بيرك بإمنتانوت كمراقب مدني (contrôle civil) وكحاكم استعماري بإمنتانوت( 1947- 1954) ، من أغنى مراحل حياته العلمية، فهي التي قام خلالها بإعداد أطروحته لنيل الدكتورة بكوليج دوفراس في السوسيولوجيا بدراسته المشهورة “Les structures sociales du Haut-Atlas”(البنيات السوسيولوجية للأطلس الكبير: سكساوة )” وغيرها من المقالات العلمية.
وقد نهج طريقتين من أجل جمع كمّ هائل من المعطيات المفيدة له في أبحاثه العلمية و دراساته السوسيولوجية :
– الأولى : تدوين الرواية الشفوية وما تجود به ذاكرة كبار السنّ بالمنطقة، وممّا يرويه بعض كبار السنّ من شيوخ إمنتانوت أنّ جاك بيرك عندما كان بصدد جمعِه للمادة الأولية لدراساته و أبحاثه السيولوجية من معلومات ومعطيات حول المنطقة كان يستدعي الكثير من الشيوخ ومن النّاس المعروفين بخبرتهم في شؤون القبائل وبذاكرتهم القوية، حيث ينتقيهم بعناية من مختلف قبائل المنطقة، ويقوم بعقد جلسات مسامرة و محاورة ومناقشة معهم في بيته حول براريد الشاي المُنَعْنَع وصحون مختلف أنواع الحلويات واللوز و الجوز ، ومختلف أشكال الأطعمة، جلسات يطغى عليها طابع المرح والفكاهة، وبحضور كاتبه الخاص العارف بتاشلحيت، والذي يجلس جانبا وهو يسجّل بالآلة الكاتبة كلّ ما يصدر عن هؤلاء الشيوخ كل كبيرة وصغيرة من معلومات حول مختلف جوانب حياة القبائل بالمنطقة، في الوقت الذي يوجّه فيه جاك بيرك النقاش نحو القضايا والمواضيع التي يريد التزّود بالمعلومات حولها.
– الثانية: تتمثل في الاطلاع على تزخر به المنطقة من مخطوطات وتقدييدات وعقود قديمة، والموجودة في خزائن الزوايا الصوفية والمدارس العتيقة، والتي غالبا ما تكون متراكمة في الصناديق والعلب الكارتونية، كما تكون العقود محفوظة في القصب، ولما كانت هذه الوضعيات التي توجد عليها هذه الوثائق لا تسمح بالولوج إليها وتحول دون الإطلاع عليها، فقام جاك بيرك بإعداد مجموعة من الخزانات الخشبية برفوفها العديدة، فسلّلمها لشيوخ الزوايا والمدارس العتيقة من أجل وضع مخطوطاتهم وكتبهم فيها بشكل منظّم ومرتّب، و هذا ما تمّ بالفعل ، ممّا سمح لجاك بيرك عند زياراته المتكررة لهذه المدارس والزّوايا بالولوج إليها بسهولة والاطلاع عليها بيسر على تلك المخطوطات والعقود والكتب، وبالتالي التعرف على مضامينها، على عكس الوضعية السابقة التي كانت عليها عندما كانت متراكمة في الصناديق والعلب الكارتونية، ممّا مكّنه أيضا من الاستيلاء على بعض هذه المخطوطات، حيث لم يقم بإرجاعها لأصحابها بعدما وعدهم بذلك.
هذا إلى جانب الأرشيف الضخم من المعطيات المختلفة، الذي وجده جاك بيرك في مقر دائرة إمنتانوت، والذي كوّنته مديرية الشؤون الأهلية في كل الدوائر، دون إغفال ما تركه في إمنتانوت سلفَيْه في الإدارة المحلية الاستعمارية بإمنتانوت، الملازمين بيير دوبّا( Pierre Dupas) وفريديريك دو لاشبيل(Frédéric de la Chapelle) من منوغرافيات القبائل وبحوث ودراسات غير مكتملة.
كلّ هذا ساهم جعل دراسة جاك بيرك السوسيولوجية حول ” البنيات الاجتماعية للأطلس الكبير” دراسة ضخمة وفريدة من نوعها ، حيث لا يمكن أن يُنجِزَ مثلَها إلا من يتوفّر على نفس الوسائل والفرص التي أتيحتْ لجاك بيرك ، بما فيها السلطة، وإلّا لمنْ نهج نفس نهجه في جمع المعطيات والمادة الإثنوغرافية الأولية لدراسته، على غرار ما قام به سلفه في السوسيولوجيا القبلية روبير مونطاني(Robert Montagne ) في دراسته الهامة: ” المخزن و البربر في جنوب المغرب”. فجاك بيرك يجمع بين السلطة والمعرفة إلى حدّ أنّه من الصعب التّمييز في شخصيته بين المثقّف الباحث ورجل العلم والمعرفة من جهة وبين رجل السلطة والسياسة والحاكم المنفّذ للسياسة الاستعمارية في المنطقة من جهة ثانية، وفي طريقة جمعه للمعطيات حيث تتداخل الوسائل الإدارية والإستخباراتية (العسكرية) وبين أدوات ومنهج الدّارس والباحث في السوسيولوجيا القروية.