إن المتأمل لبداية القرن 21 سيتأكد له بالملموس أن هذا القرن استطاع بالفعل أن يفتح “صندوق بندورا”* بالمعنى الذي تصورته الميثولوجيا اليونانية، هذا الصندوق الذي كان مغلقاً بإحكام لقرون عدة، تسرّبت منه اليوم مختلف أشكال الشر الاجتماعي والبيولوجي والمخاوف التي توغلت في نفوسنا بشكل عميق، حيث أصبحنا نعيش في عالم بلا بدائل؛ عالم تتخلله كثير من الرؤى والتحليلات المخيفة والمروعة حول نهاية العالم، بحيث لم يعد يوجد بديل للمنطق السياسي المعاصر ولا بديل أيضا للاستبداد الاقتصادي ولا للعلم والتكنولوجيا، فالكل خاضع للقدرية والحتمية. (زيجمونت باومان، الشر السائل: ص. 23)
كل الصور التي رسمت في البال لأعوام، بل ولعقود، تلاشت، من خلال هذه الأنواع المقيتة للشر؛ بدءاً بالشرور المدمرة للاجتماع البشري، وانتهاءً بالشرور البيولوجية الفتاكة بجسد الإنسان، هذه الشرور التي عصفت بالبشرية فيما مضى، زادت حدتها مع مطلع الألفية الثالثة بشكل لم يعد من الممكن استقراء مسارها.
فلم يعد هناك “مكان للهرب” أو مأوى آمن يمكن الاختباء فيه كما قال “ميلان كونديرا”، فالأخطار التي تحوم حولنا لا يمكن التنبؤ بها ولا حسابها، ولم يعد من الممكن احتواؤها في أية حاوية، كما أننا لم نعد في حاجة اليوم إلى “وزارة المحبة” التي صورها “جورج أورويل” في روايته “1984” من أجل إرغامنا على الاعتقاد بأن الحرب هي السلام، وأن الخوف هو الطمأنينة، وأن الإكراه هو الرعاية الحنونة والعون الودود. فالحداثة بشكلها الحالي، حالها كحال شخصية “يوهان جورج فاوست” في مسرحية “فاوست” لــ”جوته”، حيث يبرم “فاوست” صفقة مع الشيطان يسلم إليه روحه في مقابل الحصول على المعرفة المطلقة وكافة الملذات دون وازع أخلاقي.
في رواية “المحاكمة” لــ”فرانز كافكا” تستيقظ الشخصية الرئيسية في الرواية المسماة بــ”جوزيف ك.” على عميلين يقومان باعتقاله ومقاضاته على جريمة لا يعرفها ولن يعرفها، وحال البشرية اليوم لا يختلف بشكل كبير عن حال “جوزيف ك.”، فإذا كان هذا الأخير لم يهتم بالبحث عن التهمة المعتقل بسببها!!! وضيع معظم وقته في البحث عن أعضاء المحكمة، أملا في أن يقنعهم ببراءته من تهمة لا يعرفها حتى، فإنه على العكس من ذلك، لزاماً على البشرية اليوم، أن تقوم بتحطيم الجدران، والتعرية، والكشف عن الشبكة المعقدة للعلاقات والصلات السببية بين الآلام التي يحياها الناس على نحو فردي والظروف التي تصدر وتتشكل على نحو جمعي، إذا ما أرادت أن تبقى داخل الوضع الإنساني الذي تحاول أن ترسمه منذ قرون، فكما يقول أولريش بيك بالإمكان تسكين الجوع وتأمين الحاجات، أما المخاطر التي تهددنا اليوم هي “برميل لا قعر له، أزلي ولا نهائي” (أولريش بيك، مجتمع المخاطرة: ص. 119).
وقبل كافكا بعقود، وبالضبط في عام 1893، أطلق الرسام النرويجي “إدفارد مونش” صرخته الشهيرة على لوحة حملت في ظهرها أبياتا من الشعر المأساوي، وحمل اسمها هذه “الصرخة”، معبّرا عما اختلجه من الشعور حِيال هذا العصر، تاركا إشاراته عما أحسّ به إنسان العصر الحديث، حيث تصور تلك اللوحة آلام الحياة المعاصرة، هذه الآلام الممزوجة بالقلق والهلع بدأت في السادس والعشرين من أبريل عام 1986 عندما انفجر مفاعل نووي في تشرنوبيل، فهذه الكارثة لم تدمر المناعة البشرية، والبنية الجينية لخلايا البشر فحسب، بل لوثت الوعي الإنساني والفعل السياسي، حيث صاحب هذا الانفجار انفجارا للجهل وعدم المعرفة (أولريش بيك، مجتمع المخاطر العالمي: ص. 228).
ونحن نغرق اليوم في مستنقع فيروس “الكورونا”، ويتساقط الناس بين مريض وميت، يتضح أن الأخطار التي كانت تهدد البشرية والمتمثلة في مفاتيح الصواريخ النووية الموجودة في يدي بوتين وترامب لا تعد أكثر خطورة من العدو الجديد الذي يختبئ في كل خلية من أنوفنا، وبعبارة أوضح إن ما يهددنا الآن هي حرب بيولوجية عالمية يشنها فيروس تافه ولكنه يتحدانا جميعا دون أن يراه أحد. فمن منا سيصدق اليوم أن الموت يحوم في خلايا أنوفنا وليس في القنبلة الذرية التي تمتلكها أمريكا وروسيا؟
فعلا، لقد دخلنا هذا العصر “بلا بوصلة” كما قال أمين معلوف (أمين معلوف، اختلال العالم: حضارتنا المتهافتة، ص.11)، والإحداثيات ضاعت بين ثنائية المعرفة والجهل، ففي رواية “كل رجال الملك” لــ”روبرت وارين” تتجسد هذه الثنائية في اقتباس يفرض نفسه علينا بقوة نظرا لراهنيته في هذه الجائحة التي تعصف بالبشرية جمعاء: “نهاية الإنسان هي المعرفة، لكن شيئا واحدا لا يمكنه أن يعرفه: إنه لا يستطيع أن يعرف ما إذا كانت المعرفة ستنقذه أم أنها ستقتله، سيقتل، نعم، لكنه لا يستطيع أن يعرف ما إذا كان قد قتل بسبب المعرفة التي اكتسبها أم بسبب المعرفة التي لم يكتسبها، والتي كانت لتنقذه لو أنه عرفها”. و”نهاية الإنسان هي المعرفة” هو ما كان يخشاه كذلك “فرانسيس فوكوياما” حينما كتب كتابه المعنون بــ” نهاية الإنسان: عواقب الثورة البيوتكنولوجية”.
إن سياسة “إضافة الأقفال على الأبواب”، التي تنهجها البشرية هذه الأيام، خوفا من المجهول المرعب المختبئ خلفها، يجعلنا نتساءل بقلق مفعم بصرخة إنسانية: هل بالفعل صرنا نتعامل مع القيم الإنسانية، بالمبدأ القائل: إن موت شخص واحد إنما هو مأساة، وموت الملايين من الناس هو فقط عملية إحصائية؟ وهل تسير البشرية اليوم نحو حتفها؟ ومن المسؤول عن كل هذا الخوف والهلع الذي أصبحنا نقتات عليه كل يوم؟
لقد جاء الرد عن هذه الأسئلة في سنتي 1932 و2003 من خلال نبوءتين تنبأ بهمها كل من “ألدوس هكسلي” وعالم الفلك البريطاني “مارتن ريس”، الأول في روايته “عالم جديد شجاع” والثاني في كتابه “ساعتنا الأخيرة”.
برسالة تحذيرية من مستقبل يطغى عليه العلم على كل ما هو إنساني، حاول “ألدوس هكسلي” في روايته “عالم جديد شجاع” أن يتنبأ بمستقبل البشرية، الذي يرى فيه عالما شديد التحرر، يصل فيه العلم لمرحلة مخيفة من التقدم؛ فالعلماء لهم مدنهم الخاصة، والناس يستعينون بالعلم في تلبية كل احتياجاتهم ورغباتهم الإنسانية؛ لا حاجة إلى الزواج لأنهم يتكاثرون عن طريق وضع الأجنة في أوعية خاصة بدلا من أرحام الأمهات، ويكون شاغل الناس الأكبر هو المتعة بكل أشكالها، ومفهوم الموت لا يؤثر فيهم على الإطلاق، ويتعاملون معه بمشاعر هادئة خالية من الانفعالات، كأنهم آلات وإن احتفظوا بــ”المظهر البشري”.
أما “مارتن ريس” فيرى أن أهم المخاطر التي ستهدد البشرية هي “إرهاب نووي وفيروسات مميتة معدلة وراثيا، وانفلات أجهزة من صنع الإنسان وهندسة وراثية تغير طبيعة البشر.. كما أن عام 2020 سيكون عام الخطأ البيولوجي الذي يتسبب بمقتل مليون إنسان” (نقلا عن: هشام طالب، بناء الكون ومصير الإنسان، ص. 671).
ختاما ما عسانا إلا أن نردد مع “أولريش بيك” العبارة التالية: “إن مشروع الحداثة بحاجة لإسعافات أولية، فهو مهدد أن يموت مختنقا بفعل تشوهاته الخاصة، والعلم بشكله الحالي هو أحد هذه التشوهات” (أولريش بيك، مجتمع المخاطر العالمي، ص. 383).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* صندوق بندورا هو مصطلح ظهر في الميثولوجيا اليونانية القديمة، وكان المقصود منه الصندوق الذي خرجت منه كل المخاوف والأحقاد والضغائن والخصومات والأشرار إلى العالم عندما تم فتحه.
المراجع:
_ أمين معلوف، اختلال العالم: حضارتنا المتهافتة، ترجمة ميشال كرم، دار الفارابي، الطبعة الأول، بيروت لبنان 2009.
_ أولريش بيك، مجتمع المخاطرة، ترجمة جورج كتورة والهام الشعراني، المكتبة الشرقية، الطبعة الأولى، بيروت 2009.
_ أولريش بيك، مجتمع المخاطر العالمي: بحثا عن الأمان المفقود، ترجمة علا عادل، المركز القومي للترجمة، لقاهرة 2013.
_ هشام طالب، بناء الكون ومصير الإنسان: نقض لنظرية الانفجار الكبير، دار المعرفة، بيروت لبنان، 2006.
_ زيجمونت باومان، الشر السائل: العيش مع اللابديل، ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، بيروت 2018.