هذه سطور مختصرة في التأصيل للفعل النقابي باعتباره صورة من صور التضامن والتآزر بين أفراد الأمة ومؤسساتها، ووسيلة للدفاع عن الحقوق وتحصينها، كما يعتبر وسيلة سلمية قانونية في كثير من البلدان التي يسمح فيها بالتجمهر والتنظيم والتكتل، وهو فعل مسموح به حسب القدر الممكن من الحريات، معنى ذلك أن ممارسة الفعل النقابي رهينة بالحرية والاستبداد.
ولا شك أن البلدان المسلمة شهدت وتشهد توسع العمل النقابي الفئوي والعام، وهو رجع صدى للتحولات المجتمعية والسياسية الحديثة، فانخرطت فئام من الناس في تنظيمات نقابية وأشكال حقوقية مختلفة ومتنوعة، غير أن كثيرا من المتحفظين على الانخراط التنظيمي في هياكل العمل النقابي أو بعض الممتنعين عن ممارسته بشكل فطري دون الانضواء تحت هيكل معين، مازالت بعض الشبه عندهم عالقة بخصوصه، فتراهم يعتبرونه من البدع أو من المهددات للأمن القومي، بل يرى بعضهم بأنه نوع من التشويش على الأنظمة السلطوية، فهو عندهم خروج عن الطاعة، وشق لعصاها.
ومن ههنا أرى التعريج على تأصيل العمل النقابي في الإسلام، وبيان مشروعيته وأدلة القول به والاعتماد عليه وسيلة لاسترجاع الحقوق المهضومة. فما مفهوم النقابة في التداول المعجم العربي؟ وما حكم وأدلة مشروعية العمل النقابي؟
أولا: معنى النقابة في اللغة.
أورد ابن فارس في مقاييسه أن: “النون والقاف والباء أصلٌ صحيح يدلُّ على فَتح في شيء”، ومنه النقب أي الفتح، يقول تعالى: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا).
ومن الباب: النقَّاب: وهو (العالم بالأمور)، كأنَّه نَقَّب عليها فاستَنْبَطَها، أو العالم بها المُنقِّب عنها. قال: مليحٌ نجيحٌ أخو مأْقِطٍ نقابٌ يحدِّث بالغائبِ
ونقيب القَوم: شاهِدُهم وضَمِينُهم. ومن موارد أصل (نقب) في القرآن الكريم قوله تعالى: ( وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا) [المائدة : 12 والنقيب هنا هو الأمين.
فمن خلال هذا البيان اللغوي لكلمة (نقيب) يمكن الخلوص إلى المعاني الآتية: الفتح، والعلم بالأمور، والشهادة والضمان، ثم الأمانة.
ولا شك أن هذه المعاني لها تجليات على مفهوم النقيب في معناه التداولي اليوم، فالمتصدر للعمل النقابي غايته فتح ما استغلق من المطالب بعلم وخبرة محفوفين بالأمانة وضمان العمل المتعاقد عليه.
ثانيا: التأصيل الشرعي للعمل النقابي.
يرى طائفة من الأصوليين أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد المنع، وخاصة إذا كان المبحوث فيه من العادات التي تتجاذبها المصالح والمفاسد، ومن ههنا فإن سؤال شرعية العمل النقابي باستصحاب هذا الأصل لا يحتاج إلى كثير عناء وتتبع، إلا من جهة الاستزادة في البيان التفصيلي فقط. وأرى عرض بعض المبادئ المؤصلة للعمل النقابي ممزوجة بأدلتها في الآتي:
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل للعمل النقابي:
لا شك أن الحقوق من حيث جلبها معروف يعرفه الطبع والشرع، كما أن هضمها منكر تمجه العقول قبل الشرع، وقد جعل الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قاعدة الولاء بين المؤمنين بل جعل ذلك علامة على الإيمان، ومن ذلك قوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة : 71].
وجعل من علامات المنافقين عكس ما ذكر في الآية، يقول تعالى: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [التوبة : 67].
ومن النصوص المحفوظة في هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن رَأَى مِنكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلكَ أضْعَفُ الإيمانِ). (أخرجه مسلم)، فالعمل النقابي في عمومه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، شريطة الانضباط إلى القواعد والآداب الشرعية المؤطرة لذلك.
- التعاون على البر قاعدة العمل النقابي:
ومن المبادئ المؤطرة للعمل النقابي والمؤصلة لمشروعيته: مبدأ التعاون على البر، وهو مبدأ أصيل كلي وقطعي، لا يخرمه شيء أقل منه كلية وقوة، وأصل هذا المبدأ قول الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، فلفظ البر يعم كل ما هو خير وفيه منفعة عاجلة أو آجلة، فهو يعم التقوى كذلك، كما أن الإثم عام في كل ما فيه مفسدة عاجلة أو آجلة، وهو يعم العدوان كذلك. فالآية تأمر بمطلق التعاون على تحقيق ما فيه مصلحة وخير، وتنهى عن التعاون في كل شيء فيه مفسدة وشر، ولا شك أن العمل النقابي الراشد مرماه تحقيق المصالح وتحصينها، ودفع المفاسد وتقليلها.
- الجهر بالحق والتواصي به أسلوب العمل النقابي:
المقصود بالحق هنا: ما أقره الشرع وطلب تحصيله والانضمام إلى صفوف أهله والتعاون على تحقيقه، فهو يعني أمرين في هذا السياق، الأول: نقيض الباطل، والثاني خلاف الواجب، والمعنيان مقصودان لنا في هذه المقالة القصيرة.
ولا شك أن التواصي بالحق بمعناه العام والخاص سبيل إلى الفلاح والنجاح، يقول الله تعالى: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) يقول الإمام الطبري رحمه الله: “وقوله : { وَتَوَاصَوْا بالْحَقّ } وأوصى بعضهم بعضا بلزوم العمل بما أنزل الله في كتابه ، من أمره ، واجتناب ما نهى عنه فيه”[1]، يقول الدكتور محمد عزة دروزة: “والتواصي بالحق يستهدف تضامن أفراد المجتمع في الحق وإحقاقه بحيث يكون الحق هو القائم الحاكم المؤيد من مجموعهم”. انظر: التفسير الحديث، عند تفسيره للآية.
ومن الآيات المنبهة على ما نحن بصدد بيانه قوله تعالى: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) [النساء : 148]، فلا شك أن كلمة السوء هنا محتملة لمعان كثيرة، غير أن السياق يفهم معناها ويحدده، والآية موضوع الدراسة تدل بعبارتها أن الجهر بالسوء جائز استثناء.
إن قول الحق من المظلوم للظالم والتشهير به يعد سوءا لكن عند الظالم، أما في ميزان الشرع فهو خير وحق، ولذلك جاءت الآية مرخصة ومجيزة للجهر بالمظالم وإعلانها أمام الناس وبالأحرى أمام القضاء ومن له الصلاحية في ردع الظالم، ولم يعتبر الشارع ذلك مفسدة تدفع، يقول الإمام الطبري رحمه الله بعد سرده لتفسيرات السابقين له للآية: “فالصواب في تأويل ذلك : لا يحبّ الله أيها الناس أن يجهر أحد لأحد بالسوء من القول إلاّ مَنْ ظُلِمَ بمعنى: إلا من ظُلم فلا حرج عليه أن يخبر بما أسيء إليه . وإذا كان ذلك معناه ، دخل فيه إخبار من لم يُقْرَ أو أسيء قِرَاه ، أو نيل بظلم في نفسه أو ماله عَنوة من سائر الناس ، وكذلك دعاؤه على من ناله بظلم أن ينصره الله عليه ، لأن في دعائه عليه إعلاما منه لمن سمع دعاءه عليه بالسوء له”[2].
[1] – انظر: تفسير الطبري عند تأويليه للآية.
[2] – نفس المصدر.