الكتاب الذي قمت بترجمته ونشره للسيد باسكال بونيفاس تحت عنوان: “من يجرؤ على نقد إسرائيل؟” (عام 2004) حدث سوء فهم كبير لدى البعض بشأن ترجمتي لعنوان الكتاب على النحو المذكور، وهنا أعيد نشر مقدمتي لهذا الكتاب لمن أساء فهم العنوان عن حسن نية، أما أصحاب النوايا السيئة فلا يشرفني التواصل معهم.
كانت المرة الأولى، منذ عشرين عاما، مع المحامي الأمريكي بول فندلي، عندما أصدر كتابه الشهير: “من يجرؤ على الكلام؟” والذي كشف علانية ما كان يفكر فيه الكثيرون سرا، عن طريقة عمل اللوبي الصهيوني في أمريكا، وكيف يسيطر هذا اللوبي ويؤثر على كافة الأجهزة الفعالة في المجتمع الأمريكي، بدءا من الكونجرس إلى الإدرات المختلفة وحتى وسائل الإعلام، وما أعقب ذلك من حملة شرسة شنتها الدوائر الصهيونية ضد المؤلف الذيلم يستطع مزاولة مهنته مرة أخرى.
كان هذا منذ عشرين عاما تقريبا، وما كان غريبا آنذاك يكاد يصبح اليوم من المسلمات أو البديهيات التي لا تستثير الدهشة والعجب، ولو عاد بول فندلي لتأليف كتابه من جديد أو إصدار طبعة ثانية منقحة ومعدلة، سيجد العجب العجاب، وسيكتشف أن ما أزاح النقاب عنه قبل عشرين سنة لم يكن سوى غيض من فيض، ونقطة من بحر مما هو قائم الآن من هيمنة تامة على مفاصل الدولة والإدارات والمؤسسات، ووقاحة علنية غير مسبوقة، حيث صار كل شئ على المكشوف بعد أن كانت الهيمنة سرية وغير معترف بها، ويخجل من الاعتراف بوجودها أطراف التحالف في واشنطن وتل أبيب ودوائر اللوبي الصهيوني المنتشرة في كل مكان
بالطبع، لم يكتب بول فندلي كتابا جديدا، ولم يطبع كتابه السابق طبعة جديدة، لكن فعلها الكاتب والباحث الاستراتيجي الفرنسي باسكال بونيفاس، الذي أصدر في الصيف الماضي، كتابا يطرح علانية، ومن جديد، التساؤل ذاته الذي طرحه من قبل بول فندلي:” من يجرؤ على الكلام؟”، لكن تساؤل بونيفاس صار: ” من يجرؤ على نقد إسرائيل؟ أو هل من المسموح به نقد إسرائيل؟ إذا التزمنا الترجمة الحرفية للعنوان، والعنوان كما هو واضح يلخص بصورة بليغة فكرة الكتاب وقضيته الأساسية، أي صعوبة ومخاطر ممارسة الحق في نقد إسرائيل وسياستها.
يعرف المؤلف جيدا أن من حقه نقد إسرائيل، لكنه يعرف أيضا، وبصورة ملموسة، ما يترتب على هذا النقد من مصاعب وأخطار، وكتابه الذي تجرأ ومارس هذا الحق يحكي قصة هذا “الردع الاستباقي” الذي يمارسه اللوبي الصهيوني في المجتمعات الغربية لإفشال أي نقد يوجه لإسرائيل، لا سيما في فرنسا. ويقدم لنا بونيفاس توثيقا هاما يعكس تطور الوعي السياسي الفرنسي والأوروبي اتجاه إسرائيل مع ازداد قمعها للفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وردود أفعال غلاة الموالين لإسرائيل على هذا التغير في مواقف شرائح كبيرة داخل الرأي العام الفرنسي والأوروبي لغير صالح إسرائيل
… يرصد بونيفاس في كتابه الوقائع والأحداث والتصريحات، وبعضها يتعلق بما عايشه شخصيا، وبعضها الأخر ينتمي إلى مجال التحليل السياسي والاستراتيجي لأزمة الشرق الأوسط وتداعياتها. ويروي قصة صراعه مع غلاة الموالين لإسرائيل، وكيف بدأ الصراع بمذكرته السياسية التي أرسلها إلى قادة الحزب الاشتراكي الفرنسي قبل انتخابات الرئاسة الفرنسية الماضية (2002)، والتي حذر فيها قادة الحزب من أن دعمهم المطلق لإسرائيل عن حق وعن باطل، سيؤثر على نجاحهم الانتخابي، وأن أبناء الطائفة العربية والمسلمة، من المقيميين على الأراضي الفرنسية، والذين يملكون حق التصويت، ينظمون أنفسهم الآن، وينبغي أن يؤخذوا في الاعتبار، وأن الساحة الفرنسية، لا سيما لدى الشباب، تشهد تراجعا واضحا وانحسارا للتعاطف مع إسرائيل بالقياس إلى ما كان عليه الأمر في الماضي.
وقامت القيامة ولم تقعد كما يقولون. وانطلقت الحملة مع سفير إسرائيل السابق في باريس ايلي بارنافي، الذي وصف بونيفاس، في جريدة لوموند، بأنه يقف على حدود العداء للسامية. ثم تطورت الحملة في الصحف والمجلات والإذاعات والقنوات التليفزيونية، وصار بونيفاس، منذ هذا الوقت، هدفا دائما لغلاة الموالين لإسرائيل، وتعرض لحملة تشويه وتشهير، وتلقى تهديدات بالقتل، ومورست ضغوط كبيرة لإقصائه من عمله كمدير لمعهد العلاقات الدولية والاستراتيجية، كما مورست ضغوط على أقرانه ورؤسائه للتخلي والابتعاد عنه، كما وجهت طلبات لبعض الهيئات الممولة لمشاريع بحثية حتى تلغي عقودها مع المعهد الذي يديره السيد بونيفاس.
يصف بونيفاس في كتابه آليات الضغوط التي تعرض لها، والتي تعرض لها غيره، بدءا من تجاهل القضايا المطروحة والحديث عن أمور أخرى، مرورا بالاتهامات ومحاولات القتل المعنوي والتدمير الشخصي، وصولا إلى حجب الآراء وعدم النشر، ورفع دعاوى قضائية لإسكات الأصوات الناقدة، وممارسة الضغوط المهنية وتصعيد مشاعر الخوف، وتحويل بعض المؤسسات عن الدور المناط بها إلى أدوار أخرى بعيدة عن منطق عملها، وتهديد الناقدين بشتى أنواع التهديدات، حتى يختاروا طريق الصمت.
ويحلل بونيفاس، في أكثر من موقع، أحد أشهر آليات الضغط، وهي الاتهام بالعداء للسامية. ويناقش الكتب الجديدة التي تناولت معاداة السامية في الوقت الحاضر. ويناقش كذلك الإحصاءات التي أعدها المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا. ويتبنى بونيفاس في هذا الشأن استراتيجية تكشف أولا عن مبالغات غلاة الموالين لإسرائيل بشأن ما يحدث من اعتداءات على يهود فرنسا، ويفسر ثانيا ما يحدث من اعتداءات على أبناء وممتلكات الطائفة اليهودية بأنه عائد إلى نزاع الشرق الأوسط، وانعكاساته على أبناء المهاجرين العرب والأفارقة الذين يضعون على عاتق اليهود الفرنسيين مسؤولية ما يفعله الجيش الإسرائيلي ضد أبناء الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة.
ويؤكد بونيفاس أن التركيز على فزاعة العداء للسامية يخدم أغراضا أخرى قد لا تكون لها علاقة مباشرة بقضية معاداة السامية. فإسرائيل أمام التحدي الديموغرافي الذي يواجهها، والذي يسير في غير صالحها، تقوم -كما يرى المؤلف- بتصعيد الشعور بالخطر لدي يهود فرنسا حتى يهاجروا إلى إسرائيل، كما يسمح لها الحديث عن اللاسامية في فرنسا بالتهرب من الحوار مع الفلسطينيين الذي تؤيده وتدعمه السياسة الفرنسية. ويدخل المؤلف في سجال مع غلاة الموالين لإسرائيل، ويقدم وجهات نظر مغايرة بشان الحديث عن كراهية اليهود وعن الأشكال الجديدة لمعاداة السامية، وينتقد بشدة الذين يصورون فرنسا وكانه بلد معاد للسامية، ويتعرض فيه اليهود إلى شتى أصناف الإضطهاد والعذاب، أمثال: تاجييفن ارنو كلارسيفلد، آن سنكلي، بيير لولوش، جاك تارنيرو، الكساندر أدلر وكوكيرمان وغيرهم.”
… يقدم أيضا صورا غير معروفة لنا عن الإعلام الفرنسي الذي عادة ما ينظر له، في واقعنا العربي على أنه موال لإسرائيل بينما الوقائع والأحداث التي يشير إليها بونيفاس تقدم صورة مغايرة إلى حد ما، حيث نجد دعاوى قضائية ضد بعض الإعلاميين وضد أجهزة الإعلام التي لا تسير في فلك الرؤى والمواقف الإسرائيلية (محاكمة الصحفي ميرميه، مظاهرات أمام وكالة الصحافة الفرنسية، تهديدات بمقاطعة الصحف والمجلات التي تدعو للسلام في الشرق الأوسط، تحميل الإعلام الذي ينشر مظاهر القمع الإسرائيلي للفلسطنيين مسؤولية الأحداث المعادية للسامية في فرنسا).
يرفض بونيفاس، أيضا، محاولات تصدير صراع الشرق الأوسط إلى الساحة الفرنسية وينتقد الذين ينتهجون هذا الطريق، لا سيما غلاة الموالين لإسرائيل الذين يرفضون عمليات الخلط بين يهود فرنسا والإسرائيليين، في الوقت الذي يعملون فيه على تحويل المؤسسات اليهودية الدينية والاجتماعية في فرنسا إلى ملحقات لسفارة إسرائيل في باريس، كما ينتقد في هذا الشأن بعض قادة إسرائيل الذين يخاطبون يهود فرنسا أحيانا كما لو أنهم من المجندين تحت إمرتهم وعليهم أن يتصرفوا ويتضامنوا مع دولة إسرائيل بدون قيد أو شرط، وهو ما دفع المؤلف إلى الحديث – وهذه هي إحدى النقاط الرئيسية في الكتاب- عن مخاطر تأثير الطوائف المقيمة في فرنسا على القرار والسياسات الفرنسية، ومحذرا من خطر أن تتحول سياسة فرنسا الداخلية والخارجية إلى رهينة لمصالح وأغراض هذه الطوائف.
وإذا كانت هذه هي بعض الخطوط الرئيسية للكتاب، فإن من حقنا أن نتسائل: لماذا إذن كل هذه الضجة حول الكتاب ومؤلفه؟ وتزداد الدهشة عندما نعلم أن المؤلف يصر على أنه ينتقد سياسة شارون فقط. وأنه يقر أولا بحق إسرائيل في الوجود والأمن، ولا يعتبر إسرائيل دولة عنصرية، ولا يرى الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية، ولم يتحدث أبدا عن اليهود ككتلة واحدة، ولم يتحدث عن لوبي يهودي، وإنما عن لوبي صهيوني موال لإسرائيل يضم يهودا وغير يهود، وكان يتحدث دائما عن صراع إسرائيلي – فلسطيني وليس صراع إسرائيلي- عربي، ولم يقل بالانحياز لصالح الطائفة العربية والمسلمة في فرنسا، وإنما بوضعها في الاعتبار، ولم ينحز إلى مواقف بعض الدول العربية، وإنما طالب فقط بتطبيق المعايير ذاتها على صراع الشرق الأوسط مثلما هو الحال في بعض الصراعات الأخرى، ناهيك عن بعض كتاباته ومواقفه الأخرى التي تبنى فيها وجهات نظر أقرب إلى وجهة النظر الإسرائيلية، كما في انتقاداته لمؤتمر دوربان ضد العنصرية، وغيرها من المواقف المشابهة، ومع ذلك لم يشفع له كل ذلك، ولم يخفف من حدة الحملة الموجهة ضده منذ أن كتب مذكرته الشهيرة في (2001)، ثم مع صدور كتابه “من يجرؤ على نقد إسرائيل؟ “(2003).
وإذا كان الأمر على هذا النحو، وإذا كان هذا سجالا سياسيا داخل فرنسا، وإذا كان ما يطرحه بونيفاس يدركه عالمنا العربي جيدا، فما الجديد إذن في هذه القضية؟ ولماذا فكَّرنا في نقل الكتاب إلى اللغة العربية؟ وهل نحن في حاجة لمن يؤكد لنا سيطرة اللوبي الصهيوني في أوروبا وأمريكا؟ وهل ما تزال هناك أسرار لم يكشف النقاب عنها في هذا الشأن؟ وهل نحن في حاجة إلى من يجرؤ على نقد إسرائيل؟ ونحن نعيش عمليا -وليس نظريا- ما يفرز أفعالا تتجاوز التنديد بسطوة اللوبي الصهيوني هنا أو هناك.
في الحقيقة كان دافعي وراء نقل هذا الكتاب إلى اللغة العربية، هو أننا في العالم العربي لم نعد نعيش فقط آثار التدمير والتخريب المادي في المجتمعات العربية، على أكثر من صعيد، من جراء القوة الصهيونية المتشعبة، بل أصبحنا نعيش ظاهرة الخوف والخشية من آثار اللوبي الصهيوني في بلادنا -وهذه هي الطامة الكبرى- والذي يحتل مواقع هامة في أروقة الأجهزة الفعالة في المجتمعات العربية، ليس أقلها أهمية أجهزة الإعلام العربية الرسمية وغير الرسمية..
(…) وإذا كان بول فندلي قد كشف منذ عشرين عاما آليات عمل هذا اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، وإذا كان باسكال بونيفاس قام بدوره بكشف آليات عمل هذا اللوبي في فرنسا، فإنه ربما جاء دورنا في الكشف عن آليات عمل هذا اللوبي داخل المجتمعات العربية.. وهذه قصة كبيرة تحتاج وقفة تأمل لا يتسع المجال هنا سوى للإعلان عنها، في انتظار لحظة جديدة للكشف عن تفاصيلها.
في هذا الإطار وجدنا من المناسب نقل محاولة باسكال بونيفاس الأخيرة إلى العربية لما تكشفه، وما تساعد على إضاءته فيما يحدث داخل مجتمعاتنا وداخل المجتمع الفرنسي ذاته. فالكتاب يقدم معرفة دقيقة وموثقة لما يحدث داخل المجتمع السياسي الفرنسي من صراعات وضغوط تهدف إلى تهريب النقد بعيدا عن إسرائيل، ومنع أي مساءلة لها رغم توافر الأدلة والبراهين السياسية لذلك. وأهمية الكتاب تكمن في أنه يضيء بالمعرفة الموثقة حقائق ووقائع ليس كما نتصورها نحن في مجتمعاتنا، وإنما كما هي في الواقع فعلا.
في الحقيقة يندرج كتاب بونيفاس :”من يجرؤ على نقد إسرائيل؟” ضمن الكتب المعاشة، أي تلك الكتب التي تتناول قضايا جارية أمام أبصار الناس يتابعون تفاصيلها لحظة بلحظة، ولا يقف بونيفاس عند حدود رسم خرائط تفصيلية لقضايا الصراع التي يتناولها، وإنما يمارس تحليلا عقلانيا للأحداث والتصريحات السياسية، ويبحث داخلها عن صحة الدليل أو البرهان السياسي، ويفتش عن مدى اتساقه أو تناقضه. وهو في كتابه يكشف عن براعة حقيقية في اصطياد التناقضات، فلا توجد صفحة من صفحات كتابه إلا ونجد أمامنا الحدث السياسي وقد نزعت عنه الأقنعة التي كان يتلبسها من قبل تبريرا وتزويرا.
نحن هنا أمام عقلانية سياسية تحاول أن تحلل وتحكم على أحداث وتصريحات تتسم بغباوة شديدة وعنجهية عسكرية تعود إلى ما قبل التاريخ الحديث للبشر. والكشف الذي يقدمه هذا المنهج في التحليل العقلي للحدث السياسي يشكل في نظرنا إضافة جديدة ينبغي أن تتبعها إضافات أخرى.
غير أن الذهاب بعيدا في منطق التحليل العقلي للسياسة، قد يغيب أحيانا الموقع والتكوين والانتماء الحضاري والديني والسياسي لمن يمارس مثل هذا التحليل. لا شك أن بونيفاس باحث وطني، وليس في هذا ما يعيب، وهو يدافع عن مواقف وسياسات بلاده، وليس في هذا ما يعيب أيضا. لكنه عندما يفعل ذلك نجده ينطق باسم مبادئ عالمية وعامة قد تخفي تحت طياتها بعض التاقضات أحيانا، وهو أمر يجعلنا نختلف مع المؤلف في بعض القضايا.
يتحدث بونيفاس لغة واحدة ويخشى اللغة المزدوجة، وهو محق في ذلك، لكن الأزدواجية والتناقضات قد تنبع، في المقام الأول، من أن العالم ليس موحدا ولا متناغما ولا يقبل أحيانا اللغة الواحدة المنسقة. وخير نموذج لذلك هو عنوان كتابه الذي قد يكون مقبولا بالفرنسية، أما في الحياة السياسية العربية، فإن نقد إسرائيل يعتبر من المسلمات التي تحظى بإجماع شامل. وإذا ذهبنا أبعد من العنوان، سنجد أن النقد الذي مارسه بونيفاس ضد السياسة الإسرائيلية قد يكون من الأمور المألوفة في العالم العربي، وربما يستغرب القارئ العربي من هذه الضجة المثارة ضد بونيفاس، بل ربما أزعم أن كتاب بونيفاس رغم ما فيه من نقد شديد لسياسة شارون إلا أنه قد يغضب بعض الدوائر والاتجاهات في العالم العربي، لأنه لم يذهب مسافة أبعد في النقد الذي مارسه، وأنه يقبل بأشياء ما زالت بعيدة عن منطق البرهان السياسي.
في الحقيقة، فإن ما يحاسب عليه باسكال بونيفاس ليس ما أدلى به من آراء ومواقف وإنما لاختراقه سياسة “الردع الاستباقي” التي يمارسها غلاة الموالين لإسرائيل. فمنذ سنوات واللوبي الموالي لإسرائيل ينجح في خلق مناخ سياسي عام لا يسمح إلا بتأييد إسرائيل عن حق وعن باطل، ولا يسمح بأي نقد جاد وعقلاني لسياسات هذه الدولة، لذلك عندما نشر بونيفاس مذكرته ثم كتابه – رغم اعتدال النقد الموجه لإسرائيل وأنصارها – بدا بحكم ما هو سائد في الساحة السياسية الفرنسية وكأنه يحدث انقلابا في الرؤية والمواقف لم تتعود عليه الأوساط السياسية السائدة. وعوقب السيد بونيفاس ليس على ما قاله وإنما للأثر الذي تتركه أقواله على ساحة ظن البعض أنها ثابتة ولا يمكن تغييرها. وهنا تكمن المفارقة: فالنقد الذي عبر عنه بونيفاس يبدو متواضعا، من وجهة النظر العربية، ومتطرفا من وجهة النظر الفرنسية السائدة. والذين يتابعون عن كثب ما يحدث في العاصمة الفرنسية يعرفون جيدا بحكم موازين القوى السائدة أن ما قاله بونيفاس يعتبر بالفعل تجاوزا بارزا للقناعات السياسية المهيمنة في فرنسا فيما يتعلق بإسرائيل والعداء للسامية وما شابه هذه الأمور.
وربما يكمن سر هذه المفارقة في أن بونيفاس لا يتعرض مباشرة للصراع في الشرق الأوسط، وإنما إلى انعكاساته على الأوضاع الفرنسية الداخلية. وكذلك الأمر ذاته عندما يتعرض لظاهرة العداء للسامية، فهو لا يبحث في جذور المشكلة وأبعادها التاريخية وإنما يلتقط انعكاسات الصراع في منطقة الشرق الأوسط أيضا على أبناء المهاجرين العرب والمسلمين. وربما يفسر هذا عدم اكتمال التفسير أو توازنه لدي المؤلف في مثل هذه القضايا. فتركيز المؤلف انصب على مسؤولية سياسة إسرائيل في الشرق الأوسط وما تعكسه من ردود فعل لدى أبناء الطائفة العربية والمسلمة الذين يندفعون في اعتداءات لا سامية، وهو قول قد لا يمكن دحضه لكنه في الوقت ذاته لا يفسر هذه الظاهرة تفسيرا شاملا. ويلاحظ أن المؤلف لم يناقش أبعادا أخرى كثيرة. فالبعض يرى أن معاداة السامية تعد نتاجا للثقافة الأوروبية التي تبلورت وتطورت كجزء من الديانة المسيحية، وتبلور القوميات الأوروبية منذ ألف وخمسمائة عام. وهذا هو السبب في أن معاداة السامية والتي تتوطن في أساس الدين والمجتمع الأوروبي سوف تستمر في الازدهار دون عائق.
كذلك غاب عن المؤلف ظاهرة العداء الإسرائيلي للسامية، وهي الوجه الآخر لهذه الظاهرة، التي يتم تناولها في العادة على أساس أنها موجهة فقط ضد اليهود، ويتم التغاضي عن واقع العرب والمسلمين كساميين، وهو ما يعترف به بعض الإسرائيليين أنفسهم، فنجد على الموقع الالكتروني لصحيفة معاريف بتاريخ 9 نوفمبر (2003) مقالا كتبه شموئيل جوردون بعنوان معاداة إسرائيلية للسامية حيث يقول :” وضعت دائرة المعارف العبرية معاداة السامية بأنها كل مظاهر الكراهية والعنصرية الموجهة ضد الساميين… ومن هنا فإن معاداة السامية تشمل أيضا كل مظاهر الكراهية والعنصرية الموجهة ضد العرب … لقد تطورت معاداة العرب في إسرائيل وتكونت من الاحتقار لمظاهر التخلف والاستهانة بالطبيعة البشرية … وبرزت شحنات عميقة من العنصرية … حيث تسمع أقوالا عنصرية من قبيل : قتلة..عديموا الأخلاق…حذار من الثقة بهم…الورقة التي يوقعون عليها لا تساوي ثمنها..الموت للعرب..العربي الجيد هو العربي الميت”.
وربما يكون للمنهج الذي سار عليه بونيفاس في تأليف كتابه أثر واضح في عدم اكتمال تفسير بعض الظواهر الهامة التي تطرق إليها. فهو يجمع في كتابه بين التحليل السياسي والسيرة السياسية الذاتية، ويتحدث بلغة الدراسة الأكاديمية وتارة أخرى يتحدث لغة المعايشة الشخصية للأحداث والقضايا.
وبالرغم من الملاحظات السابقة، إلا أنه يظل للكتاب قيمة كبرى. وكان مؤلفه من أوائل الذين رصدوا ظاهرة انحسار التعاطف مع اليهود في فرنسا، وقبل أن تظهر النتائج المدوية لاستطلاع الرأي في دول الاتحاد الأوروبي، والذي أكد ما أشار إليه بونيفاس قبل ذلك بعامين. كما أنه قدم نقدا عقلانيا للسياسة الإسرائيلية وغلاة المتعاطفين معها.
والكتاب، في النهاية، يقدم توثيقا هاما ومعاشا، وليس تحليلا نظريا مجردا لآليات عمل اللوبي الصهيوني في فرنسا، وكان لمؤلفه جرأة التصدي لتيار سياسي غالب في الحياة السياسية الفرنسية، ولم يتراجع أمام قوة الضغط المتشعبة في ميادين مختلفة وظل وفيا لقناعاته الخاصة، لذا ينبغي علينا أن نهتم بهذه المحاولة الجادة من باحث فرنسي في مجال العلاقات الدولية والاستراتيجية، وعلينا أن نتأمل بعمق هذا المنطق السياسي في نقد إسرائيل، وهو نقد من المفيد التعرف عليه وبناء جسور مع صاحبه، ومع الذين يسيرون في الاتجاه ذاته، وهم يشكلون تيارا جديدا صاعدا في الحياة السياسية الفرنسية، وأن نمضي معهم في الطريق إلى الحدود المسموح بها، وأن لا ننتظر من الآخرين ما ننتظره من أنفسنا.
نهاية المقدمة التي قدمت بها ترجمتي لكتاب بونيفاس “من يجرؤ على نقد إسرائيل؟” الصادرعن المركز العربي للدراسات الغربية وبالتعاون مع دار الفارابي في (2004) – أحمد الشيخ