الملخص:
تحاول هذه الورقة البحثية الوقوف عند البدايات الأولى للصحافة في المغرب. وتسلط الضوء على أدب الرحلة الذي تعرف من خلاله المغاربة على الصحافة. وتوضح مساهمة ظهور الطباعة في بروز مجموعة من الصحف. وتتوقف عند انبثاق الفكرة الدستورية في المغرب. وترصد جوانب التأثر بالحركة الدستورية في الإمبراطورية العثمانية، وبالأفكار الإصلاحية لرواد النهضة وفكرة الجامعة الإسلامية. كما تقدم نماذج من مشاريع الدساتير التي تقدمت بها شخصيات مثقفة مغربية وعربية وعثمانية استقرت بالمغرب للسلطان آنذاك قبل الاستعمار. وتبين كيفية مساهمة الصحف المغربية في نشر الفكرة الدستورية والدفاع عن الأفكار الإصلاحية. وتكشف عن ما تعرضت له الصحافة من مضايقات نتيجة نشرها.
تمهيد:
تزامن ميلاد الصحافة في المغرب مع نشأة الفكرة الدستورية بالمملكة، وقد ساهمت الصحف في نشر الأفكار الإصلاحية والدفاع عن الفكرة الدستورية، وأدى ظهور المطبعة إلى انتشار الصحف، التي عممت بدورها الأفكار التحديثية لدى الشعب المغربي قبل الاستعمار، وقد استطاعت الصحافة المغربية، التي أصدرها لبنانيون بدعم من السلطان المغربي كما سيأتي بيانه، منافسة الصحف التي بدأت القوى الاستعمارية بنشرها. ويتميز سياق ظهور الصحف بالمغرب مع ضغط القوى الاستعمارية، ومع توالي الهزائم في الميادين العسكرية والعلمية والتقنية، وتراجع إشعاع المملكة مقابل بروغ الحضارة الغربية. فإلى أي حد استطاعت الصحافة بالمغرب النجاح في معركة الترويج للأفكار الدستورية؟
أولا: المغاربة والصحافة
يُرجع بعض الباحثين المحاولات الأولى لإنشاء أول جريدة بالمغرب[1] إلى 852هـ/ 1448م على يد النابغة محمد بن الغازي المكناسي[2]. ويتزامن ذلك من الناحية التاريخية مع اختراع “يوهان غوتنبرغ” آلة الطباعة. وقد تعرف المغاربة لاحقا على الصحافة من خلال أدب الرحلات، وبعد ذلك مارست نخبة مثقفة الصحافة عبر جرائد ومجلات ثقافية اتخذت طابعا إصلاحيا، حيث كانت تدعو إلى النهوض الحضاري وتحذر من خطورة الاحتلال.
1-الصحافة من خلال أدب الرحلة
تعرف المغاربة على الصحافة من خلال أدب الرحلة[3]، وتجسد ذلك في اطلاع النخب المثقفة على الصحف الصادرة في أوروبا حين زيارتهم لها ضمن بعثات دبلوماسية، أو تعليمية أو استطلاعية، وبعد رجوعهم إلى المغرب تحدثوا عن التطور العلمي والحضاري لتلك الأقطار في كتبهم، ومن ذلك نشأة المؤسسات الصحفية، وعبرهم كوّن المغاربة فكرة عن الصحافة. فنجد محمد الغساني في رحلته إلى إسبانيا (1690م-1691م) يصف للمغاربة “الكاسيطة/ GACETA؛ أي الجريدة”، التي عاينها هناك “فتجد في يد الرجل منها شيء كثيرا ينادي عليها ويقول: من يشتري أخبار البلاد الفلانية والبلاد الفلانية، فمن أحب الاطلاع على ذلك يشتري منها قرطاساُ، ويسمونها الكاسيطة، فيطلع الإنسان منها على أخبار كثيرة، إلا أن فيها من الزيادة والكذب ما تحمل عليه الشهوة النفسانية”[4]، وهنا يتضح أن الغساني لا ينقل المعلومة نقل الأعمى أو المنبهر بالغرب، بل ينتقد الممارسات الصحفية بحسه المعرفي وخلفيته الفكرية.
ونجد أن محمد الصفار خصص حيزا كبيرا في كتاب رحلته إلى فرنسا (1845م-1846م) لوصف جرائد باريس، من حيث الكتابة والتوزيع والاشتراك، علاوة على القوانين المؤطرة للعمل الصحفي، إذ عقد مبحثا بعنوان “الكوازيط/ الجرائد”: “ولأهل باريز كغيرهم من سائر الفرنسيس بل وسائر الروم، تشوف لما يتجدد من الأخبار ويحدث من الوقائع في سائر الأقطار، فاتخذوا لذالك الكوازيط، وهي ورقات يُكتب فيها كل ما وصل إليهم علمه من الحوادث والوقائع في بلدهم أو غيرها من البلدان النائية أو القريبة”[5]. ويصف أبو الجمال الفاسي في رحلته إلى بريطانيا (1860م) الآليات التي ساهمت في ازدهار الصحافة وتناقل الأخبار، ومنها “التلغراف فيقول: وبعد هذا ذهبنا لمحل السلك (مكتب البرق أي التلغراف) المعد لورود الأخبار من المحال وتوجيهها، وسبب دخولنا إليه أن أصحابنا الذين كانوا –ببريز- سمعوا بخبر الريح الأصفر (الكوليرا) بفاس وما والاها، وبقوا على شك من ذلك، فأرادوا أن يحققوا الخبر عن ذلك ويسألونا عنه..”[6].
ويصف إدريس العمراوي الفاسي في مؤلف رحلته إلى فرنسا (1860م) واحدة من الآليات التي ساهمت في ازدهار الصحافة وانتشارها إلى جانب التلغراف وغيرها وهي دار الطباعة[7]، وبعده جاء إدريس السلوي الذي أسهب في وصف دار الطباعة ومكتبة الكتب في رحلته إلى فرنسا، بلجيكا، انجلترا، إيطاليا (1876م) بالقول: “وفي يوم الثلاثاء السابع والعشرين من جمادى الأولى المذكور (أي 20 يونيو سنة 1876م) خرجنا لدار المطبعة (يقصد المطبعة الوطنية وهي معمل ضخم أسسه الملك لويز الثالث عشر سنة 1640) فدخلنا لبيت منها وجدنا في وسطه تأليف سيدي خليل (اين إسحاق، فقيه مالكي من مؤلفاته “المختصر” بخط المطبعة بالعربي، والقاموس (المحيط ألفه الفيروزابادي). لكنه مميز بخطهم، وهذا البيت مربع يحيط به خزانات عديدة، قيل إن جميع الخطوط التي تقدمت في سالف الدهر، مع الموجود منها اليوم، كلها مقيدة محفوظة هنا حتى الخط السرياني..”[8].
وتحدث أحمد الكردودي في كتاب رحلته إلى إسبانيا (1884م) عن المراسيم الخاصة بالملك وتعيين الوزراء، وتراتيب نشر الأخبار قائلا: “وللملك عندهم مرتب عظيم يقوم به وبتعلقاته ويفضل، وللوزراء كذلك، نعم أول ما فعلوه هو تأخير الوزراء وتعيين غيرهم، ثم الاتفاق على من يتولى أمر ملكهم، وبعد تمام الأمر وانبرامه وتأسيس الملك واحكامه، أشاعوا ذلك في ورقات أخبارهم، وأخبروا بمن ولى السلطنة والوزارة منهم”[9]. ومن خلال كتب الرحلات المنتقاة من عشرات الكتب، يتضح أن المغاربة اطلعوا على الصحافة من خلال مؤلفات نخبة من المثقفين والسفراء والمبعوثين للتعرف على أسباب نهضة الغرب، وقد نقلوا إلى السلطان وإلى النخب الوطنية أهم عوامل النهوض، ووصفوا تطور الصحافة وتقاليد نشرها ونظام الاشتراك فيها وكيفية طباعتها وتوزيعها، وقد طلبوا من السلطان السماح بإدخال المطبعة إلى المغرب من أجل نشر الكتب والمعارف وحتى الصحف التي ستظهر في هذا الطور.
2-ظهور الصحافة في المغرب
إذا كان المغاربة قد اطلعوا على الصحافة عبر أدب الرحلة خلال القرن 17 و18، فإن القرن التاسع عشر عرف بداية إدخال التجربة الصحفية الأوروبية إلى الدول العربية والإسلامية، بما فيها المغرب، و”كان الإسبان أول من أصدر صحيفة في المغرب، ففي أول ماي 1820م صدرت صحيفة “أل ليبرال أفريكانو” أي “الإفريقي الحر” باللغة الإسبانية”[10]، وبالتالي “لم تظهر الصحافة العربية –في هذا الطور- على يد المغاربة، وإنما كان يتولى إدارتها أفراد من الجالية الغربية بالمغرب، والجريدة الوحيدة التي صدرت –إذ ذاك- هي: “المغرب“[11]. فـ”جريدة (المغرب): هي أول جريدة صدرت باللغة العربية بالمغرب بمدينة طنجة أصدرها الصحافيان العربيان عيسى فرج وسليم كسباتي. صدر أول عدد منها يوم الأربعاء 14 رمضان 1306 الموافق ل 15 مايو 1889، ولا نتوفر لحد الآن إلا على عدد واحد من هذه الصحيفة”[12].
وقد حقق المؤرخ محمد المنوني في هذه التجربة، فلاحظ أن “هذه الجريدة كانت تحمل اسم “المغرب”، وتعتبر نفسها أول جريدة عربية طبعت بمراكش، كما تكتب هذا بجانب عنوانها، كانت تصدر بمدينة طنجة مرة في الأسبوع، ويرجع تاريخ صدور أول عدد منها إلى يوم الأربعاء 14 رمضان عام 1306 الموافق 15 مايو سنة 1889، وقد ثبت في خاتمة العدد الأول منها أسماء: عيسى –كلارجى-كسباني- كأصحاب لجريدة المغرب، وفي عدد آخر منها كتب –في طليعة الجريدة- أسماء أصحابها هكذا: عيسى فرج، وسليم كسبانى، وقد كانت هذه كلها أسماء مستعارة”[13]. وأضاف ” الذي وقفت عليه من هذه الجريدة عددان اثنان لا غير: العدد الأول الذي تكرر الحديث عنه في هذا الباب، وهو محفوظ ضمن المجموعة القيمة للصحف العربية التي تنفرد بها مكتبة مؤرخ تطوان العلامة الجليل سيدي محمد داود حفظه الله، أما العدد الثاني فهو محفوظ بمكتبة كاتب السطور ويحمل تاريخ السبت 4 ذي الحجة عام 1306= 3 غشت 1889 وهو العدد “11”، وما سوى هذين العدين لم أقف عليه”[14].
ويرجع الفضل في ولادة تجربة جريدة “المغرب” إلى الطباعة، والملاحظ أنه كانت تطبع صفحاتها في الطباعة السلكية، والمسجل أن “الطباعة السلكية قد تأخر ظهورها بالمغرب المستقل عن الطباعة الحجرية، وكان نشاطها محدودا. وفي مدينة طنجة بالخصوص حيث كان يُطبع بها جريدة “المغرب” التي صدر أول عدد منها عام 1306هـ/ 1889 م”[15]، وهذا يعارض ظاهريا ما تحدث عنه صاحب كتاب “الصحافة المغربية نشأتها وتطورها”، حين قال: “وأنه بالرغم من ظهور المطبعة في المغرب سنة (1276هـ/ 1756 م) بفاس على عهد السلطان سيدي محمد ابن عبد الرحمان بن هشام فإن التاريخ لم يحتفظ لنا بشي ثابت عن محاولات لظهور الصحافة في هذه الظروف”[16].
وفي هذا الطور ظهرت جريدة (النفحات الزكية في الأخبار المغربية) سنة (1306هـ 1889م)[17]، “ثم صدرت (لسان المغرب) في طنجة التي كانت ملتقى الصراع بين الوطنية والدعوة الاستعمارية التي تعمل على تفويض دعائم الاستقلال”[18]، والمسجل هنا أن هذه الجريدة كانت رسمية، وقد قدم صاحب كتاب “مظاهر يقظة المغرب” مجموعة من الوثائق والمعطيات التي تفيد أن هذه الجريدة تقف وراء إصدارها جهات رسمية، قائلا: “نستنتج أن صحيفة “لسان المغرب” كانت ناطقة بلسان الدولة العزيزية باللغة العربية. وكان صدور العدد الأول منها يوم الجمعة 24 ذي الحجة 1324/ 8 فبراير 1907، ووقفت عن الصدور عند العدد 84 حيث عطلت نهائيا، ثم سافر صاحباها إلى خارج المغرب أوائل جمادة اآخرة 1327 / أو اخر جوان 1909″[19]. و”جريدة (لسان المغرب): صدرت بمدينة طنجة.. بإدارة فرج الله نمور، ومساعدة شقيقه أرتو نمور وهما معا من لبنان”[20].
تتميز التجارب السابقة بكونها من أوائل الصحف الصادرة بالمغرب سواء من طرف الإسبان في سبتة، أو من طرف مغاربة أو عرب استقروا بالمغرب، كما أن اختيارها نابع من كون بعضها حمل لواء الدفاع عن الفكرة الدستورية بالمغرب، علاوة على مساهمتها في إشاعة الأفكار الإصلاحية بين النخب المثقفة، رغم كون تلك التجارب الصحفية لم تعمر طويلا.
ثانيا- الصحافة والفكرة الدستورية
تأثرت النخب المثقفة المغربية بالفكرة الدستورية، وساعد على ذلك بروز تيار “رواد النهضة” وأصداء الحركة الدستورية العثمانية، علاوة على الرحلات[21] التي قام بها المغاربة وسجلوا تفاصيلها في مؤلفاتهم.
1-بزوغ الفكرة الدستورية في المغرب
برزت الفكرة الدستورية في المغرب بفعل انتقالها من الغرب نحو الشرق “وكان حدث الدستور حريا أن يقلب الأوضاع في المغرب رأسا على عقب، لولا أنه متأخر جدا على إثر مبايعة السلطان مولاي الحفيظ (1325هـ/1908) وكانت مبايعته ثورة على الفساد، والاستغلال، وامتداد النفوذ الأجنبي في أيام مولاي عبد العزيز، ومع ما يمكن أن يقال في أصالة هذه الحركة وتعبيراتها عن الرأي العام المغربي الذي لم يفتأ السلاطين يعيرونه كل اهتمامهم، ويصدرون عنه في جميع المواقف الحرجة التي يرون أنه لابد من الأخذ باشارته فيها، فإن صدى الحركة الدستورية التي كانت قائمة في المملكة العثمانية، في هذا الوقت بالذات، لابد أن يكون بلغ إلى المغرب وأن يكون هو المحرك القوي للمطالبة بالدستور”[22]، ويفهم من هذا النص وجود سبب آخر لتبني الفكرة الدستورية، إذ إن “ظهور وتطور فكرة الدستور في بعض البلدان المسلمة كالدولة العثمانية وتونس ومصر وفارس، التي أصبحت فيما بعد نموذجا تحتذي به البلدان الساعية إلى الالتحاق بالركب لاسيما المغرب”[23].
وقد بين المؤرخ عبد الحق المريني مقدار تأثر إحدى مشاريع الدستور المقترحة في المغرب بالحركة الدستورية العثمانية وبأفكار رواد النهضة قائلا: “ولا شك أن مفاهيم فصول الدستور المقترح جاءت نتيجة انتشار أصداء الحركة الدستورية العثمانية، والإصلاحات السياسية التي كان يدعو إليها المصلحون السلفيون كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبدو التي أخذت تنتشر في ربوع الأقطار العربية والإسلامية”[24]، وقد لاحظ مجموعة من الباحثين أن هذا الطور شهد تقاربا في العلاقات المغربية العثمانية في إطار فكرة “الجامعة الإسلامية”، وارتفع التمثيل الدبلوماسي بين الإمبراطوريتين، ووجد ذلك صدى في الصحافة المغرب، “وقد نشرت جريدة “المغرب” التي تطبع بطنجة فصلا مطولا أعربت فيه عن الفوائد الدينية والتجارية التي تنجم من إنشاء تلك المامورية العثمانية بحكومة مراكش”[25]. ويبدو أن المغاربة والعثمانيين حاولوا في هذا الطور استباق تأجيل السقوط في براثين الاحتلال بالقيام بإصلاحات للدولة وعلى رأسها الدستور.
ويسجل التاريخ ظهور أول مذكرة دستورية في المغرب لعبد الله بن سعيد[26] عام 1901م، غير أنها لم تجد طريقا إلى التنفيذ، بعدها “ظهر في هذه الفترة وقريبا منها ثلاثة مشاريع دستورية، وكان أولها هو الذي اقترحه مواطن من سلا: الحاج علي زنيبر[27]. بينما الثاني من وضع ولفد سوري أقام بفاس طويلا: الشيخ عبد الكريم مراد[28]. أما الثالث: فلا يزال واضعوه غير معروفين بالضبط..”[29]، وتسارعت الأحداث بفعل الضغط الأجنبي، بعدها شهد المغرب “البيعة المشروطة” عام 1908م، وقد “انتشرت الأفكار الدستورية بشكل كبير بين البرجوازية التجارية في فاس وطنجة إلى جانب العناصر المتعلمة، وشكل مشروع دستور 8 أكتوبر 1908 الذي قدمه علماء وأعيان مدينة فاس للمولى عبد الحفيظ أثناء بيعتهم المشروطة له، والذي نشرته جريدة لسان المغرب، التي كان ينشطها سوريون ولبنانيون بمدينة طنجة، أول محاولة حقيقية لإقامة نظام دستوري في المغرب، تفوض فيه السلطة التقريرية إلى مجلس منتخب، ويحتفظ السلطان من خلاله بصلاحية التصديق على القرارات”[30]، وقبلها بسنوات قليلة قبل الاستعمار ظهرت مذكرة محمد الأمين التركي عام 1910م.
ويلاحظ أن هذه المرحلة عرفت انتقالا من التأثر بالفكرة الدستورية، إلى المبادرة إلى طرح مقترحات ومذكرات دستورية سواء من شخصيات مغربية أو عربية أو عثمانية استقرت بالمغرب. كما يلاحظ أن كل تلك المبادرات كانت تستهدف تفويت الفرصة أمام القوى الأجنبية وتأجيل الاحتلال، وسجل أن الصحافة ساهمت في هذا الطور في تقاسم الأفكار الدستورية وطرح بعض المسودات.
2- الصحافة والدفاع عن الفكرة الدستورية
وجدت الصحافة المغربية الناشئة نفسها في صلب معركة الدفاع عن الفكرة الدستورية، خصوصا جريدة “المغرب” و”لسان المغرب”، ولم تسلم الجريدة الأخيرة من المضايقات، بفعل التدخل الفرنسي، رغم أنها كانت جريدة مدعومة من الجهات العليا في المغرب، إذ أنه “في ثاني ماي 1902م، أمر الجباص بمنع جريدة لسان المغرب، واعتقال الإخوة نمور[31]، وفي هذا الموضوع يروي السيد أحمد الزيدي: لقد تنبه الفرنسيون إلى الدور الذي تقوم به جريدة لسان المغرب فأوعزوا إلى صديقهم الجباص وكان إذ ذاك نائب السلطان بطنجة، بالقضاء على هذه الجريدة، فكتب لمولاي حفيظ ليستأذنه في إيقافها لأنها تنشر مشروع دستور مغربي، وفي ذلك خطر على نفوذ السلطان، فأذن له السلطان في توقيف تلك الجريدة فأوقفها وفتش مركزها ونفى صاحبيها من طنجة”[32].
وبالرجوع إلى جريدة “لسان-المغرب” نجد أنها نشرت مشروع دستوري مغربي من 11 بابا موزعة إلى 93 مادة “في أعداد أربعة مؤرخة بـ11 و18 و25 أكتوبر وأول نونبر 1908 لصاحبها فرج الله نمور اللبناني القاطن بمدينة طنجة، بعدما مهدت لهذا الدستور بترويجها في محاوراتها وأحاديثها “للفكرة الدستورية البرلمانية”[33]. وتتجلى هنا الملاحظة السابقة المتعلقة بتأثر المشروع الدستوري في المغرب بالأفكار الدستورية العثمانية، و”إن ما يؤكد تأثر الحياة الدستورية العثمانية في المغرب أن الجريدة الطنجية التي كانت تصدر باللغة العربية عرضت -يوم 11 أكتوبر 1908 على الرأي العام المغربي “آنذاك مشروع الدستور” مستمدا من حيث الشكل والجوهر- من دستور 1876 التركي”[34].
وقد اتجهت الجرائد التي كانت تحمل مشعل الإصلاحات السياسية والدستورية في تلك الحقبة إلى دعوة السلطان إلى إقرار دستور للمملكة على غرار الدستور العثماني، يدلنا على ذلك هذه الفقرات التي جاءت في مقال لجريدة “لسان المغرب” التي كانت تصدر بطنجة آنذاك والتي تقول: “.. وغير بعيد عنا الانقلاب العجيب الذي حصل في دولة تركيا العلية، إثر منح جلالة أمير المؤمنين لشعبه الدستور، وأمره بجمع مجلس المبعوثان، فعسى أن نقتدي بهم ونقوم بخدمة بلادنا ونسعى جهدنا في إصلاح حالتنا” [35]، ونجد أن الجريدة ذاتها نشرت “مشروع دستور 8 أكتوبر 1908 الذي قدمه علماء وأعيان مدينة فاس للمولى عبد الحفيظ أثناء بيعتهم المشروطة له، والتي كان ينشطها سوريون ولبنانيون بمدينة طنجة، وكانت أول محاولة حقيقية لإقامة نظام دستوري في المغرب، تفوض فيه السلطة التقريرية إلى مجلس منتخب، ويحتفظ السلطان من خلاله بصلاحية التصديق على القرارات”[36].
وبالتالي، فإن الصحف حاولت مواكبة النقاش النخبوي حول الدستور، وعرضت نماذج لمشاريع دستورية قبل الاحتلال الأجنبي للمغرب، كما دعت السلطان المغربي إلى الاقتداء بالدول التي أقرت الدستور، “وقد حملت هذه الصحف الوطنية الدعوة إلى الإصلاح القضائي والمالي والعسكري والدستور والتعليم..”[37].
ويستنتج من سرد المعطيات السابقة عدة نتائج وخلاصات، تؤكد أن المغرب شهد محاولة إصدار جريدة رسمية في تزامن مع اختراع المطبع بالغرب، رغم عدم وجود معطيات وافية عن تلك المحاولة التي لو تم توثيقها ستكون سابقة حتى على الدول الغربية التي يرجع إليها الفضل في إبداع الصحافة، كما يستنتج منها أن المغاربة تعرفواعلى الصحافة من خلال أدب الرحلة، بحيث خلف مجموعة من الكتاب والأدباء الكثير من المؤلفات التي تحفل بتوصيف دقيق للصحافة في الغرب وأنظمتها القانونية وطرق توزيعها وطبعها واشتغالها، إلى جانب وصف دار الطباعة والتلغراف باعتبارها ضمن الآليات التي ساهمت في انتشار الصحافة في الغرب، من جهة أخرى؛ ساهم ظهور المطبعة بالمملكة في ميلاد الصحف المغربية الناطقة بالعربية لتنضاف إلى الصحف الصادرة في المغرب من الدول الاستعمارية كإسبانيا وفرنسا وبريطانيا وغيرها، وفي هذا الصدد سجل التاريخ قيام مجموعة من أوائل الصحف المغربية بالترويج للأفكارالإصلاحية والدستورية، ونشر بعض مشاريع الدستور لبناء نخب فكرية مدافعة عن الدستور والصرح الدستوري.
خاتمة
ويستخلص من المعطيات السابقة كذلك أن بعض الصحف المغربية تعرضت إلى مضايقات بسبب المساهمة في نشر الأفكار الدستورية وتعريف الشعب على الأفكار الإصلاحية الداعية إلى النهوض الحضاري، في تأثرمن الحركة الدستورية المغربية بالحركة الدستورية في الإمبراطورية العثمانية والأفكار الإصلاحية لرواد النهضة من أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدو والكواكبي وغيرهم، وهنا نجد أن التاريخ المغربي يحتفظ بعدة مذكرات دستورية تقدمت بها النخب المثقفة إلى السلطان قبل التدخل الاستعمار واستمرت خلال طيلة الاحتلال، ولم تصدر تلك المذكرات عن مغاربة فقط بل من أتراك وعرب استقروا بالمغرب.
قائمة المراجع:
[1] – وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، الصحافة المغربية نشأتها وتطورها لزين العابدين الكتاني، مجلة دعوة الحق، العدد 124، على الرابط التالي: https://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/3009. وقد ورد في المقال ما يلي “فمنذ أول محاولة لإصدار نشرة عمومية بالمغرب سنة 852هـ 1448م، على يد الفقيه محمد بن الغازي المكناسي، والصحافة المغربية، تنتقل في شتى الأطوار، من حسن إلى أحسن، حتى آلت إلى ما نراها عليه الآن… والدول التي كانت تصدر صحفها بالمغرب هي إسبانيا وفرنسا وإنجلترا وبلجيكا وألمانيا، بالإضافة إلى الجرائد التي صدرت باللغة العربية، أو التي أصدرها المغاربة”، يلاحظ وجود اضطراب بين التاريخ المذكور والتاريخ الراجح لولادة ابن غازي المكناسي.
[2] – “محمد ابن غازي المكناسي أبرز شخصية علمية بالمغرب في أواخر القرن الهجري التاسع وأوائل العاشر، لِما كان له من اتساع في الرواية، ووفرة في عدد التلاميذ بمختلف جهات المغرب، وانتشار مؤلفاته في أنحاء العالم الإسلامي غربا وشرقا… والراجح أن ابن غازي ولد سنة 841هـ استنادا إلى ما ذكره هو نفسه في كتابه “الروض الهتون في أخبار مكناسة الزيتون”.. وتوفي رحمه الله يوم الأربعاء تاسع جمادى الأولى من سنة 910هـ، وكانت جنازته جنازة مشهودة حضرها العلماء والسلطان والأعيان، وقبره مزارة مشهورة بعدوة الأندلس بفاس”، جمال بومي، 2012، محمد بن غازي المكناسي، موقع الرابطة المحمدية للعلماء، على الرابط: https://www.arrabita.ma/blog/%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A8%D9%86-%D8%BA%D8%A7%D8%B2%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%83%D9%86%D8%A7%D8%B3%D9%8A/.
[3] – تفوق المغاربة في مؤلفات أدب الرحلة، واشتهر من بينهم ابن بطوطة والشريف الإدريسي وعبد الله الصفار وغيرهم.
[4] – الغساني، محمد الأندلسي، 2002، رحلة الوزير في افتكاك الأسير (1690-1691م)، دار السويدي للنشر والتوزيع الإمارات العربية المتحدة، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت لبنان، ص94.
[5] – الصفار، محمد بن عبد الله الأندلسي التطواني، 2007، رحلة الصفار إلي فرنسا (1845-1846م)، دار السويدي للنشر والتوزيع الإمارات العربية المتحدة، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت لبنان، ص189 و190.
[6] – الفاسي، أبو الجمال محمد الطاهر بن عبد الرحمان،1967، الرحلة الإبريزية للديار الإنجليزية (1275هـ/ 1860م)، منشورات جامعة محمد الخامس، مطبعة جامعة محمد الخامس فاس/المغرب، ص36.
[7] – مكتبة الرحلات المغربية، تحفة الملك العزيز بمملكة باريز للسفير إدريس بن إدريس العمراوي، 2012، منشور في الرابط: http://rihlamaroc.blogspot.com/2012/01/blog-post_3803.html.
[8] – السلاوي، إدريس بن محمد الجعايدي، 2004، الإخبار بغرائب الأخبار: فرنسا، بلجيكا، انجلترا، إيطاليا (1876م)، دار السويدي للنشر والتوزيع الإمارات العربية المتحدة، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت لبنان، ص190 و191.
[9] – الكردوي، أحمد بن محمد، 1963، التحفة السنية للحضرة الحسنية بالمملكة الإصبنيولية، المطبعة الملكية بالرباط المغرب، مطبوعات القصر الملكي، ص44.
[10] – طلحة، إلياس، تاريخ الصحافة المكتوبة في بلدان شمال إفريقيا (ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب)، مجلة المعارف للبحوث والدراسات التاريخية، ص190.
[11] – المنوني، محمد، 1973، مظاهر يقظة المغرب، الجزء الأول، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والثقافة، مطبعة الأمنية الرباط المغرب، ص 281 و282، وقد وضع التعليق التالي: (ورد ذكرها ضمن دراسة عن نشاط الصحافة بطنجة في القرن 19 وأوائل 20م، مجلة “هيسبريس” سنة 1954).
[12]– وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ، الصحافة المغربية في الموسوعة العربية الميسرة، مجلة دعوة الحق، العدد 200، على الرابط التالي: https://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/5156.
[13] – المرجع نفسه، ج1، ص282.
[14] – المرجع نفسه، ج1، ص 285.
[15] – المرجع نفسه، ج1، ص247 و248.
[16] – الكتاني، زين العابدين، الصحافة المغربية نشأتها وتطورها 1820-1912، منشورات وزارة الأنباء، الرباط/ المغرب، ص 14.
[17] – وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، مدخل لدراسة الصحافة المغربية بعد سنة 1332 هـ 1912م، مجلة دعوة الحق، العدد 176، على الرابط التالي: https://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/4692 ورد فيها ما يلي: “بالرغم من أن المغرب كان من أول الدول العربية التي عرفت الصحافة الوطنية العربية خصوصا بعد الوقوف على خبر صدور جريدة (النفحات الزكية في الأخبار المغربية) سنة (1306هـ 1889م) من طرف مغربي، وربما من طرف حكومة المغرب.. فإن الدارس لهذه الصحافة قبل سنة 1956 يجد نفسه أمام فترتين كل واحدة تستقل عن الأخرى من جميع الجوانب، وكل من الفترتين هي:1ـ فترة ظهور الصحافة من سنة (1820م إلى 1912م)، 2ـ أما الفترة الثانية فهي من سنة (1912م إلى سنة 1956م)”.
[18] – وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، دور الصحافة العربية في الفكر الحديث وتطورها بين الحربين (1918-1939)، مجلة دعوة الحق، العدد 66، على الرابط التالي: https://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/1451 وقد ورد فيها “وكان للمغرب (مراكش) صحافة عربية لها وزنها في معركة الأمة العربية مع الاستعمار ووضع أسس بناء المجتمع، وقد صدرت أول صحيفة باللغة العربية سنة 1889 (المغرب) في مراكش، ثم صدرت (لسان العرب) في طنجة التي كانت ملتقى الصراع بين الوطنية والدعوة الاستعمارية التي تعمل على تفويض دعائم الاستقلال”.
[19] – المنوني، محمد، مرجع سابق، الجزء 2، الصفحة 284.
[20] – وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، الصحافة المغربية في الموسوعة العربية الميسرة، مجلة دعوة الحق، العدد 200، على الرابط التالي: https://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/5156.
[21] – ورد في كتاب لمحة تاريخية عن الحركة الدستورية ص10 ما يلي: “كما نلمس نفس الأفكار والتوجهات في كتابات ثلة من المغاربة أرسلوا سفراء أو أعضاء في سفارات مغربية إلى عدد من الأقطار الأوروبية خلال القرن التاسع عشر، كإدريس محمد بن إدريس العمراوي الفاسي في مؤلفه “تحفة الملك العزيز بمملكة باريز”، ومحمود بن عبد الله الصفار الأندلسي في رحلته إلى فرنسا، وأحمد بن محمد الكردوي في مؤلفه: “التحفة السنية للحضرة الحسنية بالمملكة الإسبنيولية”، ومحمد الطاهر بن عبد الرحمان الفهري في مؤلفه: “الرحلة الأبريزية إلى الديار الأنجليزية، وإدريس بن محمد الجعايدي السلاوي في مؤلفه: “الإخبار بغرائب الأخبار”.
[22] – الكتاني، زين العابدين، مرجع سابق، ص31-32
[23] – ملين، محمد نبيل، 2011، فكرة الدستور في المغرب وثائق ونصوص (1901-2011)، جامعة محمد السادس متعددة التخصصات، ومركز جاك بارك، والسفارة الفرنسية بالمغرب، تيل كيل ميديا، ص8.
[24] – المريني، عبد الحق، 2011، لمحة تاريخية عن الحركة الدستورية بالمملكة المغربية 1906-2011، المطبعة الملكية الرباط ، منشورات القصر الملكي، ص18 و18.
[25] – المنوني، محمد، الجزء 1، ص49.
[26] – ملين، محمد نبيل، مرجع سابق، ص10.
[27] – مذكرة علي زنيبر عام 1906.
[28] – مذكرة عبد الكريم مراد عام 1906.
[29] – المنوني، محمد، مرجع سابق، الجزء2، الصفحة 399.
[30] – كركيش، بلال، 2020، العلاقات المغربية العثمانية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مركز التاريخ العربي للنشر، اسطنبول تركيا، ص 164.
[31] – “هما أخوان لبنانيان، وفدا إلى طنجة وأصدرا بها جريدة “لسان المغرب”. فرج الله بن سليم نّمور من أدباء صيدا، ولد فيها سنة 1865م.. أما أخوه أرتورنمور فكان صحافيا نبيها، لين المعشر يجيد الكتابة نثرا وشعرا”. من مقال لرشيد العفافي، 2014، الصحافة اللبنانية المهاجرة إلى طنجة (1889-1911م)، مجلة تفاهم، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية العمانية، العدد 44، ص 369، على الرابط: https://tafahom.mara.gov.om/storage/al-tafahom/ar/2014/044/pdf/17.pdf.
[32] – كركيش، بلال، نفس المرجع، ص 167.
[33] – المريني، عبد الحق، نفس المرجع، ص16 و17.
[34] – بلال كركيش، نفس المرجع،ص 168.
[35] – الكتاني، زين العابدين ، مرجع سابق، ص33.
[36] – بلال، كركيش، نفس المرجع ص 164.
[37] – وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، دور الصحافة العربية في الفكر الحديث وتطورها بين الحربين (1918-1939)، مجلة دعوة الحق، العدد 66، على الرابط التالي: https://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/1451