التقدم في مشروع العروي يحتاج إلى استيعاب التفاوت بين منطقين، وفي الأصل بين واقعين؛ ردم هذا التفاوت يحتاج امتلاك أدوات الردم، وهذه في نظر العروي هي أسباب الحداثة ووسائل التحديث… كل الدول التي قد تُعتبر اليوم حضارات، كالصين وروسيا والغرب، أخذت بهذه الأسباب وجربت هذه الوسائل؛ كل دولة حسب خصوصيتها، ولكنها جربتها جميعا.. هذا ما يدعو إليه العروي، التجريب دون إهمال الخصوصية؛ ومن أراد أن يتأكد وجب عليه الرجوع إلى عدد من إشاراته، كالتي في “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” عندما دعا إلى استثمار الجدل الوجداني في استنبات جدل اجتماعي، أو تلك التي في “السنة والإصلاح” حين دعا إلى إصلاح السنة بالتاريخ لتصبح فاعلة فيه بدل أن يمكر هو بها. وليست هذه مهمة الشعوب، بل القادة “مهندسي الدولة القومية”، وذلك حتى لا تُبتذَل وجهة نظر العروي.
-ولا يحتاج العروي إلى تذكير بعلاقة المفهوم بشرطه التاريخي، فقد أشار إلى ذلك في كل كتبه حول “المفاهيم”، إلا أنها إشارات لم يرد أن يسقط بها في مباحث الماركسيين حيث التنقيب عن الجذور الاجتماعية والاقتصادية للمفاهيم والتصورات، مخافة أن يهمل “البنى الفوقية” وقواعدها الخاصة. ولذلك تجده يستغرق في البنى الفوقية لا يقصد بإثبات التفاوت بينها إهمال شروطها التاريخية التي أملته، بل إقرار نوع من التفاوت يحيل على أصله الاجتماعي.
-لا حاجة أيضا إلى تذكير العروي بإشكاليته، وأنها إشكالية تاريخية موضوعية؛ فهو نفسه يقول في أحد هوامش “مفهوم العقل” إن “فكرنا هذا دنيوي محض”؛ يهتم بالميتافيزيقيات بعد أن يكون قد استوعب التاريخيات (راجع كتابه الجديد “الفلسفة والتاريخ”)… ولنتساءل أيضا: “هل التفكير في العقائد (وليس العقيدة) منفصل عن شرطه التاريخي، لا تربطه علاقة جدلية بهذا الشرط؟”، في كتابات العروي أجوبة على هذا السؤال، خاصة إذا تعلق الأمر بالتصوف والكلاميات؛ فهو يربط تطورها بتطورٍ ما في التاريخ، ويربط ديناميتها في نفس الشرط به.. لم يتوصل الغزالي إلى وعي بمفهوم الإيديلوجيا لأن فكره عقائدي، ولكن: لمَ كان هذا الفكر كذلك؟ لأن شروط الوعي بالإيديولوجيا كأفكار ثم كقناع ثم كنظرة كونية لم تكن قد تحققت بعد، فإيجادها يحتاج درجات عالية من التمييز النظري، وهذا نتاج شروطه من تقدم القوى والعلاقات الإنتاجية، وبالتالي تفاعل العقل الإنساني معها. هل يجهل العروي هذا التحليل؟ من العيب أن نطرح هذا السؤال..
-هل يَعتبر العروي الفكر الأوروبي كاملا؟ بعبارة أدق: هل يعتبر الحداثة، فكرا وواقعا، نموذجا كاملا؟ لو كان كذلك لما كشف هو نفسه عن عيوب الحداثة، تلك التي أنتجت ما أسميه فكر “الموجة الأولى لما بعد الحداثة”، أو “نقاد الحداثة الأوائل”؛ أي الماركسية والفرويدية والفاشية (راجع “عوائق التحديث”)، كما تدخل رومانسية نيتشه العدمية في نفس الاتجاه (راجع: “مفهوم الإيديولوجيا” و”الفلسفة والتاريخ”)… ومن ثم فإن حقيقة ما يدعو إليه العروي هو ردم الهوة، أو ما يمكن تسميته اختصار التطور الذهني عند النخبة، بغرض “اختصار الزمن” في الواقع (راجع “التجربة الفيتنامية” لياسين الحافظ، وهو الذي يقول عنه العروي إنه أحد المفكرين العرب الذين فهموا إشكاليته)… لا يتم ذلك عند العروي ب”القطيعة مع التراث” كما هو رائج، بل ب”القطيعة مع نوع من التفكير في التراث”؛ وليس لدى عامة الناس، بل لدى نخبتهم وقيادتهم التي لها القدرة على التغيير في البنى الفوقية والتحتية، أي في الذهن والواقع، وهم من يسميهم العروي في “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” “مهندسي الدولة القومية”..
-لا يهمل العروي التفاصيل، ولا يقول ذلك من قرأ فكر العروي كاملا لا شذرات هنا وهناك؛ وذلك مكتسب لديه من “صنعة المؤرخ” حيث تصبح للجزئيات والتفاصيل الدقيقة في الشواهد معانٍ كلية إذا ما وُصِلت بجزئيات أخرى (راجع الجزء الأول من “مفهوم التاريخ”)… يهتم العروي بالتفاصيل، بل عرف بالدقة أكثر من معاصريه جميعا، ليس في التأريخ فحسب، وإنما في الفلسفات والتمييز بين الأفكار، وفي متابعته للشأن السياسي (راجع “خواطر الصباح”)، كذا في الحكم على شخصه ومساره وسيرته (راجع: “أوراق” و”خواطر الصباح” و”الفلسفة والتاريخ”)… ومن رأى غياب القطيعة في الفكر الإسلامي ووجودها في الفكر الأوروبي تفصيلا غاب عن العروي، فهو المسؤول عن مدى صحة هذا الاستنتاج؛ لأن القطيعة أمر نسبي، ليس في الفكر فحسب، بل في الواقع أيضا؛ وليس في الخصوصية الأوروبية فحسب، بل في كل الخصوصيات بما فيها الإسلامية. وقد كان العروي أكثر جرأة في طرح نسبيتها والتشكيك فيها فيما هي فيه أكثر وضوحا، أي في العلوم الدقيقة (راجع قراءته في “قصة فاوست” كما “رسمه غوتة” في “مفهوم العقل”)..