-1-
بعد خروج الحملة الفرنسية من مصر مطلع القرن التاسع عشر الميلادي والثالث عشر الهجري ( 1216-03-02هـ = 1801-07-13م) انكشفت فجوة حضارية في شؤون الاجتماع والعمران البشري لدى مجتمعات الشرق العربي والإسلامي، جاءت على إِثْرها إصلاحاتُ محمد علي(تـ/1849م=1265هـ) في مصر، وتزامنت مع إصلاحاته بدايات تكوين النُّخبة العالِمة الحديثة وقتئِذ= وعلى إثرِ ذلك الانكشاف الحضاري نشأت ردود أفعال متنوعةً بتعدد قضايا مجتمعات الشرق، وبتنوع توجهات أعلام النخبة والإصلاح والتجديد والنهضة، ما بين إحيائية إسلامية، وليبرالية، وعلمانية.
ومن ذلك الجدل في شؤون الإصلاح الاجتماعي=الجدل حول قضايا الأسرة الشرقية المسلمة، وفي شأن وضع المرأة خصوصًا، وهو سجال تراكم لدى بعض المثقفين، حتى انفجر في نهاية القرن التاسع عشر مع إصدار قاسم أمين (تـ/1908م=1325هـ) لكتابيه المثيرَيـْن((تحرير المرأة)) عام 1899م=1316هـ، ثـم ((المرأة الجديدة)) عام 1900م=1317هـ. رغم أن الالتفات لشأن المرأة المسلمة في العالم الحديث بدأت بواكير الوعي به قبل قاسم أمين=عند رفاعة رافع الطهطاوي(تـ/1873م=1290هـ) في رحلته الشهيرة إلى باريس.
وقاسم أمين شخصية وقع حولها استقطابُ حادٌ= بين من جعَله من رُواد التَّنوير الليبرالي، وبين من ألحقه بأفواجِ الـتَّغريب، وما كتبه قاسم يـُنبئُ عن غيرِ ما أرادَ له أنصارُه، أو وصَمهُ به خُصومُه= فالذي لا شك في ثبوته أن كتاباتهِ حول المرأة تم توظيفُها من قِبَلِ أنصارِه لصالحِ طموحاتهم التَّحَرُرِيَّة، ثم إن خصومه في الـمُجمَل لم يُكوِّنُوا صورةً عنه من خلالِ أعماله، بل من خلالِ توظيفِ أنصارهِ لمقولاته.
كما أن أحد عوامل الاستقطاب حول أطروحة قاسم أمين سببها أن مقارباته لمسألة المرأة جاءت قابلة للتأويل والتوظيف: “فقد قدم صورةً ورديَّةً لحياةِ المرأةِ الـغربيةِ – وخاصة في كتابه (المرأة الجديدة) وحينئذ يجب أن يُنظر إلى تلك الصورة في إطار عصره، وطبيعة ثقافته، كواحدٍ من النخبة التي انطبع عقلها بطابع الفكر الغربي إلى حد كبير… كما يجب أن يـُنظر إلى هذه القضية في ضوء موقف الرجل حيال وضع المرأة العربية والمسلمة المزرى والمهين[1][حينذاك]”.
-2-
بعد معارك الحجاب وقضايا المرأة والتحرر الاجتماعي في مطلع القرن العشرين حصلت مستجداتٌ في الشأن السياسي والاجتماعي العام= أهمها التيارات الفكرية ذات المرجعية الغربية: بين ليبرالية غربية، واشتراكية شرقية= الأمر الذي سيجد له صداه ولا بد في موضوع المرأة والأسرة، وقد حصل.
فحين راقَ التوجه الاشتراكي لدى نفرٍ من مثقفي العصر، طـــَفِقَ العديد منهم ينبش في تراث الإسلام عن مستنداتٍ تبريرية، لتسويغ التوجه الفكري الاشتراكي في شؤون الأسرة، تحت شعار (الإسلامية الاشتراكية) لدى بعض الإسلاميين، وشعار (الاشتراكية العربية) لدى بعض العُروبيين
-3-
واليوم تموج المجتمعات العربية والإسلامية في منتجات العولمة، وفلسفة السوق الرأسمالية، والمرأة تقع في مركز هذا العالم تأويلاً وتوظيفًا = فحديث الجسد، والتوجهات المثلية (=الشذوذ) وقضايا المرأة في المجال الاجتماعي العام، بل والعودة الفلسفية لسؤال الوجود الأنثوي، وجدل الطبيعي والثقافي لا يتوقف بين الأنصار والخصوم.
كل ذلك ولَّدَ أسئلةً جديدةً لم تكن مطروحة في الجدل القديم حول المرأة في الفكر العربي والإسلامي الحديث في القرنين الماضيين= لأن المرجعية التي كانت تصدر عنها أسئلة المرأة في الماضي لم تعد هي ذات المرجعية في الحاضر. فاليوم المرجعية لأسئلة المرأة تتشكل في المطبخ الثقافي والاجتماعي الرأسمالي الغربي ثم تعبر لمجتمعات الهامش العربي والإسلامي.
إن أي إجابةٍ عن أسئلةِ المرأةِ في الفكر العربي والإسلامي المعاصر -إذا ما أرادَ الوعي بالحظة التاريخية، واكتشاف الوجهة القادمة لشؤون الأسرة- من المفترض أن يستحضرَ هذا الفكر إرثهُ الثقافي العام: وهو الإسلام ونصوصه القرآنية، والنبوية، والفقهية، وتجربته الاجتماعية عبر التاريخ.
والأمر الآخر الذي بدونه لا يستطيع العقل المسلم بدونه أن يستبصر موقعه وطريقه في العالم الحديث: أن يقوم بعملية مسح شامل لتاريخ الأفكار الحديثة في مهدها الغربي= وهي أفكار الاجتماع، والتربية، والنفس، والقانون، والأخلاق، وفلسفة العلوم الحديثة[2].
-4-
من الأسئلة الجديدة في شأن الاجتماع الأسري على العقل المسلم: سؤال الـ أولية بين الفرد والأسرة (هل الأصل في المجتمع هو الفرد أم الأسرة؟)، وهذا السؤال هو طرح استشكالي يشتملُ على تصورٍ ثنائي مغلوط. والسبب في مغالطة ثنائية الفرد والأسرة راجعة إلى معنى الــ(أصل): فمالمقصود بالأصالة هنا بين الفرد والأسرة؟
إن كانت الأصالة الوجودية للفرد فهل هو المرأة أم الرجل؟ وإن كانت المرأة هي الأصل فما الذي يترتب على ذلك؟ وإن كانت الأصالة للرجل فما الذي ينبني عليها؟
وإن كانت الأصالة الوجودية للأسرة لا لمجموع أفرادها؛ فما الذي يترتب على آحاد أفرادها ضمن مجموع أفرادها؟ إلخ أسئلة لا تخرج عن الظن والتخمين، ولا تؤدي إلى ثمرة يمكن البناء العملي من خلالها.
إن الإجابة عن سؤال نواة المجتمع-في رأيي- ليست الأسرة وليس الفرد = بل هو معيارٌ يتعالى على الفرد كما يتعالى على الأسرة، يتركب هذا المعيار من شيئين أولهما نظري وثانيهما عملي، فالأول: ((نـِـــظام الـــقِــــيم[3])): وهو الـمُحدِّد الَّنظَري الرئيس لتمايز الوجود الإنساني على الوجود البهيمي والغرزي. فبقيمة العدل مثلا يتجاوز الإنسان نزعة الظلم، وشهوة الاستحواذ. وبقيمة الــعفة يتماسك الوجود الأسري.
والثاني: هي ((منـــظومة الـحقـوق والواجبات)): والتي تُشَكِّل الـمُحَدِّد العَملي الوحيد والممكن، ومن خلالها يمكن لنا العثور على برنامجٍ عمليٍ في مُستطاع الفرد والأسرة الاحتكام إليه عند الاختلاف، والاجتماع عليها عند الوفاق.
وسبب تعالي هذين المعيارين على معياريَّة الفرد والأسرة= أن الإنسان الفرد في منظور القرآن الكريم هو نفخةٌ من رُوحِ الله، وبهذهِ الروح احتاج الإنسان فردًا وأسرةً إلى شأنٍ يتعالى على وجودِهما المحدود، وهذا الشأن هو نفخة الروح الإلهية من عالم الغيب إلى عالم الشهادة.
وعندئِذ نُدرِك أن طبيعةَ نظام الاجتماع الأسري في الإسلام ليست فردَانِيَّة، وليست رأسمالية، وليست اشتراكية، وليست تلفيقًا بينهَا= إنه نظامٌ تحكمه مِعيارية قيَميَّة، وتُسنِدُه منظومةٌ حقوقية، وكلا المنظومتين يُحاول السمو بالوجود الأسري الاجتماعي في عالَم الشهادة إلى عالم الغيب الأوَّل، ومن الإخلاد المادي إلى الأرض إلى الرقي الوجودي لمستوى الروح الغيبي.
————
* الإحــالات:
[1] قاسم أمين، الأعمال الكاملة، جمع وتحرير: محمد عمارة، ط، الثانية، دار الشروق، القاهرة – مصر، 1988م، (مقدمة المحرر: ص11). بتصرف.
[2] راندال، جون هرمان، تكوين العقل الحديث، ترجمة: جورج طعمه، ط، الأولى، المشروع القومي للترجمة (سلسلة: ميراث الترجمة)، القاهرة – مصر، 2013م، (1/325-386)، جيرجوري، براد س، الإصلاح غير المنشود: الثورة الدينية وعلمنة المجتمع، ترجمة: محمد كمال، ط، الأولى، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت – لبنان، 2022م، (2/7-313).
[3] محمد أبو القاسم حاج حمد، تشريعات العائلة في الإسلام، ط، الأولى، دار الساقي، بيروت – لبنان، 2011م، (ص104).