يأتي هذا المقال تخليدا للذكرى السادسة لوفاة المفكر العالمي المغربي الكبير المهدي المنجرة رحمه الله، مفكر يعتز بهويته وحضارته الإسلامية، لم يقع في أسر بريق الحضارة الغربية، وهو الخبير بخباياها عن قرب ومعاينة كما فعل كثير من “المثقفين المرتزقة” الذين خانوا قضايا أمتهم وشعوبهم، فحلوا محل الاستعمار في فترة ما بعد الاستعمار.
أولى المنجرة العالم الإسلامي وقضاياه اهتماما كبيرا في مشروعه الفكري، مشخصا لأحواله بعمق ودقة، ومقترحا الحلول والعلاج في أطباق من ذهب.
تتلخص أطروحته في تقديم إجابات عميقة من زوايا مختلفة لهذا السؤال الكبير والعظيم عن واقع الأمة الإسلامية[1]حين تساءل: “كيف نلحق بالركب الحضاري الإسلامي، ونستدرك ما فاتنا من الوقت الضائع[2]؟”[3] [4].
غير أن تقديم الحلول والعلاجات لا بد أن يسبقها تشخيص الأعطال والأعطاب التي أصابت جسد العالم الإسلامي، وهذا ما سأتناوله في هذا المقال باختصار مقتصرا على بعضها على أن يتم تخصيص المقال الثاني لتناول الحلول المهمة التي قدمها.
-1- الاستبداد السياسي وانعدام ديمقراطية حقيقية أصل كل داء[5]:
يعد الاستبداد أم الأعطاب والمشاكل التي تفرعت عنها باقي الأعطاب الأخرى[6]؛ ففي مرحلة ما بعد الاستعمار عمل الاستعمار على خلق نخبة حاكمة ومثقفة مستلبة ثقافيا في أغلب الدول، تقلت تكوينها في جامعاته، في حين كانت الطبقات الشعبية تجاهد من أجل الاستقلال، وبخروجه المادي بأدواته العسكرية وجنوده أحل تلك النخبة المثقفة المستلبة مكانه بعد أن ضمن ولاءها وإخلاصها، ووضع كل الترتيبات اللازمة لذلك حفاظا على مصالحه بأقل التكاليف، وتحولت إلى خادمة لمشروعاته التي يمليها ضدا على إرادة الشعوب التي اتسعت الهوة بينها وبين الطبقات النافذة المتسلطة، وهو ما أدى إلى انعدام بعد النظر، وغياب رؤية واضحة لدى الطبقات الحاكمة عن كيفية التقدم الحضاري، بسبب جهلها بواقع شعوبها ومجرياته وتياراته السائدة، وخوفها من كل مبادرة يقوم بها المجتمع خشية تقليص سلطتها ونفوذها؛ فما يميز أغلب دول العالم الإسلامي خصوصا منها العربية، هو الخضوع لكل إملاءات الخارج، وصم الآذان عن مطالب الشعوب ورغباتها وإقصاء كفاءاتها.
وقد قامت النخب المرتزقة في العالم الثالث التي تعمل ضد إرادة شعوبها بخيانة أمانة التوعية والبناء الديمقراطي لبلدانها، وارتمت في أحضان الاستبداد ساكتة عنه، ومشرعة ومبررة لجرائمه، ومحاربة لكل صوت حر ومثقف أمين.
وهو ما أنتج في النهاية أزمة القيم الاجتماعية والثقافية لدى النخب الحاكمة، حيث تفشى الفساد، وعم الظلم والزبونية والتفاهة كل المجالات الاجتماعية، وتصدر المفسدون، فعاثوا فسادا في البلاد والعباد، حتى بلغت الودائع المالية لكثير من دوله في الخارج أكثر من مديونيتها الدولية[7].
ويلخص المنجرة رحمه الله الوضع القاتم الذي تعيشه معظم دول العالم الإسلامي في كلمتين مفتاحيتين هما “الخوفقراطية” التي كرس “الذلقراطية”[8] لسنوات من الزمن حتى استمرأت العبودية، عبودية الطبقات الحاكمة للخارج، جعلت بعضها يتآمر على بعض وخيانة قضاياها الرئيسة، كالحرب الحضارية الأولى على العراق والحرب الثانية عليه، والقضية الفلسطينية، وعبودية الشعوب لها.
إن تاريخ العالم الثالث في الخمسين سنة الأخيرة هو سلسلة لا متناهية من الذل والمهانات[9]، وقد نال العالم العربي والإسلامي منها النصيب الأكبر[10].
-2- معضلة الأمية:
لما كان العلم والمعرفة مفتاح أي تقدم حضاري، لما لهما من دور فعال في إخراج المواطنين من ظلمات الجهل والأمية إلى نور المعرفة والعلم، مما يساعدهم على معرفة ما لهم وما عليهم، رأت فيه كثير من الأنظمة خطرا يتهددها، فلم توله عنايتها الكاملة، ولم تكن لديها إرادة سياسية حقيقية للقضاء على الأمية، فبقيت نصف شعوب العالم الإسلامي أمية، ولا تزال هذه النسب مرتفعة، وقد نتج عن ذلك نتائج سلبية خطيرة في مجالات لها صلة بالموضوع: من ضعف الاهتمام بالكتاب، ونشره، وبناء الجامعات والمعاهد ودور الثقافة، والاهتمام بالثقافة والقراءة…، يضاف إلى ذلك أمية المتعلمين الذي يجهلون ما يجري في بلدانهم ومحيطهم.
إن الأمية مكابح قوية تعوق أي حركة لنمو المجتمعات، كيف لا والمرأة التي هي نصف المجتمع؛ أو هو كله هي الضحية الأولى للأمية، فكيف سيتحرك مجتمع حالته هذه؟.
-3- غياب البحث العلمي:
يرى المنجرة أن غياب البحث العلمي أمر طبيعي عند الشعوب الأمية، فمن مقوماته الأساسية التي لا محيد عنها حرية التعبير والتمتع بالحقوق، وهما معدومتان بسبب غياب الأسس التربوية التي تشجع على الإبداع والابتكار، فحرية البحث العلمي تعني البحث في الطابوهات، وتسليط الضوء على المناطق المظلمة، وتوعية الأفراد بحقوقهم، وبناء الفكر النقدي، وهذا ما لا تحبه السلطة المستبدة في أي مكان، هذا الواقع المر هو أدى ماضيا ويؤدي حاليا إلى نزيف مستمر للعقول المبدعة التي ترحل مكرهة للخارج.
ومن الآثار الكارثية لغياب البحث العلمي في العالم الإسلامي في نظر المرحوم المنجرة عدم الاهتمام بالدراسات المستقبلية[11]، لذلك فهو يسير أزماته، دون أن تكون له القدرة على توقعها، ويسير معتمدا على العفوية والصدف بدون نموذج اجتماعي وتنموي قادر على توقعات تتراوح مدتها بين 15 أو 20 سنة، ما يجعل دوله رهينة النماذج الغربية، مع يستتبعها من الحد من حرية الشعوب في اختيار نموذجها الملائم[12]، بسبب انعدام المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عند أغلب دوله، واهتمام مراكز البحث الغربية بهذا الموضوع[13].
فقد خضع تاريخ العالم الإسلامي وحاضره للاستعمار، ورهنت الطبقات المستبدة مستقبله للدراسات التي تنجزها مراكز البحث الغربي ومؤسساته لصالح هذه الدول، هذه الدراسات التي يتلقفها مسؤولوه بكل حفاوة ودون أدنى شك في مصداقيتها[14] يوشك مستقبلنا بسببها أن يكون نسخة مشوهة وغير صالحة لماضي الآخرين[15].
إن هذا الأمر كله نتح عنه فشل النماذج التنموية المستوردة في كل القطاعات عموما؛ لاعتمادها على التقليد والإعانات والمساعدات المشروطة، فالنموذج التنموي لا يستورد، كما لا تستورد التكنولوجيا كذلك، فالاستيراد معناه أن تنقل نخلة من المغرب أو تونس وتزرعها في سيبيريا ثم تنتظر ثمارها لتفطر بها في رمضان.
فالتنمية ليست برنامجا لتوزيع الدخل وتأمين الخدمات؛ بل “هي العلم حين يصبح ثقافة “[16]و”جزءا من الحضارة، أي حين يكون هناك مكان للعلم داخل القيم التي تسير المجتمع” على حد تعبير “ماهو” المدير السابق لليونسكو[17].
تلك بعض أهم الأعطاب التي تعاني منها كثير من دول العالم الإسلامي، تناولتها بشيء من الاختصار كما عرضها المرحوم المهدي المنجرة، وسيليها مقال آخر يعرض بقيتها والحلول التي قدمها علاجا لها.
[1] تشخيصه لهذا الواقع تم في فترات زمنية مختلفة منذ بداية التسعينيات، وتفرغه للبحث العلمي بعد استقالته من العمل في الأمم المتحدة ومنظماتها، من خلال مقالات وحوارات صحفية وتلفزيونية، منها ما هو عربي وأجنبي، تم جمع كثير منها في كتب منشورة، ورغم أن كثيرا منها كتبه قبل عدة سنوات، غير أن تشخيصه لايزال ساري المفعول وصالحا للتحليل، إذ لم يتغير الحال عما كان عليه إلا قليلا.
[2] السؤال نفسه أثاره جملة من المفكرين العرب منذ بداية ما سمي بعصر النهضة بصيغ مختلفة: لماذا تقدم الغرب وتأخر الشرق؟ لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ عند شكيب أرسلان، وقد تفاوتت الإجابة عنه بحسب زوايا النظر والتحليل، غير أن ما يميز رؤية المنجرة رحمه الله في الجواب عنه هو عمق التحليل في التشخيص وتقديم الحلول الذي اكتسبه بخبرته الطويلة في الأمم المتحدة وعيشه في الغرب؛ الأمر الذي وفر له فرصة الاطلاع الكبير على كثير من المعطيات المهمة.
[3] أثار هذا السؤال في ندوة “قضايا المستقبل العربي” المنعقدة بالجزائر بتاريخ 4-5 ماي 1990
[4] الحرب الحضارية الأولى، الطبعة المصرية الأولى، مكتبة الشروق، قصر النيل، 1995ص:172.(الكتاب بصيغة pdf )
[5] أولى القرآن الكريم عناية عظيمة لهذا الموضوع من خلال القصص القرآني من خلال قصة موسى و فرعون وبني إسرائيل .
[6] من أجود الكتب التي تناولت هذا الموضوع كتاب: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد للمفكر السوري الكبير عبد الرحمن الكواكبي، حيث شخص داء الاستبداد السياسي، ووصف أقبح أنواعه، وهي: استبداد الجهل على العلم واستبداد النفس على العقل، قائلا:
“إن خلق الله الإنسان حرّا، قائده العقل؛ فكفر وأبى إلا أن يكون عبدا قائده الجهل، ويرى أن المستبد فرد عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه أعداء العدل وأنصار الجور، وإن تراكم الثروات المفرطة، مولد للاستبداد، ومضر بأخلاق الأفراد، وإن الاستبداد أصل لكل فساد”.
[7] الحرب الحضارية الأولى، ص: 180.
[8] استعمل هذا المفهوم أول مرة في كتابه:” انتفاضات في عهد الذلقراطية”، منشورات البوكيلي، القنيطرة، 2001.
[9] الإهانة في عهد الميغا إمبريالية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 5، 2007، ص: 8.
[10] نفسه، ص: 9
[11] فصل تفصيلا مهما أهمية الدراسات المستقبلية من منظور القرآن والسنة، وهذا مما يتميز به المرحوم حيث لا تخلو مقالاته وكتبه من استشهاد بنصوصهما في تحليل عميق.
[12] الحرب الحضارية، ص:11
[13] مما يؤسف له فيهذا السياق أنه حتى عدد المسلمين حول العالم لم يقدره المسلمون بل الفاتيكان الذي نشر إحصائيات بعد بحوث أجراها في أوائل ثمانينيات القرن الماضي
[14] خير مثال على ذلك التقزيم الهيكلي، والمغادرة الطوعية التي أفرغت قطاعات حيوية من خيرة أطرها دون استفادة من خبرتها الطويلة في مجالها، وكذا الوصفات والخلطات العجيبة لإصلاح التعليم المستوردة.
[15] الحرب الحضارية الأولى، ص182
[16] نفسه،ص:183
[17] الإهانة في عهد الميغا إمبريالية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 5، 2007، ص:68