الحمد لله الذي أرسل رسله بالبينات، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزل الحديد فيه بأسٌ شديد ومنافع للناس، والصلاة والسلام على صاحب الوسيلة الذي استجاب لقول ربِّه جلَّ وعلا: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون” (سورةالأنفال- الآية 60)، فاعتمد منهجه النَّبوي في الفعل الاستراتيجي نسقاً متصلاً في التدبير السياسي، قوامه التقدير الدقيق لموازين القوَّة،كما كان واقعياً في تقدير الموقف، وعملياً في وضع الخطط، يرى الأمور كما هي وينفذ إلى جوهر المسائل. لقد كان مسؤولاً مسؤولية تامَّة عن التفاعل مع الواقع، وعن فهمه وتقديره والتعامل معه ومع نتائجه؛ لذلك استخدم كل الأدوات اللازمة لإنجاز المهمات على أكمل وجه، فبنى التحالفات ونظَّم الجيوش وأسَّس شبكات استخبارية، ورصد ردود الفعل، وابتعث السفراء ووظَّف القوَّة الناعمة من شعراء وخطباء. وبنى نظماً دستورية وقضائية وشورية. كل ذلك في سياق متكامل من التخطيط والفعل الإنساني، وإذا كانت النتيجة غير مُرضية فإنه يأخذ العبر ويصلِح الخلل، ويتجاوز تداعيات الكبوة ثم يواصل المسير.([1])
كنت قد عزمت بعون الله على استقراء المقاصد الخاصة بنظام الحكم في الإسلام، وبعد مطالعتي لبعض الكتب المتخصِّصة تبيَّن لي أن معرفة هذه المقاصد باتت شبه بديهية، من إقامة العدل وعمارة الأرض وتحكيم شرع الله والإصلاح وفق مبادئ شورية، إلا أن تحقيق هذه المقاصد مرهون بتوفير وسائلها وأدواتها اللازمة، وهذه الوسائل لا تتأمَّن إلا إذا توفرت القوة لتطبيقها وتفعيلها، وصيانتها وحمايتها. ولأن هناك تهوين من أمر الوسائل بالبحث والإعداد، وبما أنه ليس هناك حدود واضحة للوسيلة المعتبرة شرعاً في تحقيق المقاصد السياسة، ولأن هناك جمود وقلَّة حيلة في استعمال وسائل مضى عليها الزمن _ وكأنها توقيفية تعبديَّة_ دون تمييز حتى في بعض الأحيان بين الوسيلة والمقصد. كان لا بد من التركيز على الوسائل ابتغاء تحقيق المقاصد.
وإذا تصفَّحنا آيات الله في كتابه المسطور، وفي كونه المنظور، وفي حركة الأنبياء مع أقوامهم، يتبين لنا سنن منها أن: (الله يمكِّن في حكم الأرض بإرادته وقدرته من يتخذ أسباب القوَّة ووسائلها). فكم من نبيٍ مَكَر به قومه ليثبتوه أو يُخرجوه أو يقتلوه، فما كان من لسان حال الـمُرسل إلا قوله: “قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ” (سورة هود -الآية 80).
وكذا العصر الحديث، شاهد على سقوط الخلافة الإسلامية بسبب تخلُّفها عن وسائل القوَّة، ومن ثم ما تبعها من محاولات إحيائية كانت خاتمتها مأساوية، فإما انقلابات عسكرية على الشرعية، وإما مجازر دموية. وكل ذلك يعود لسبب أساسي، وهو فقدانهم لشوكة تمنعهم وقوة تصونهم، أو أنهم امتلكوها لكن أساؤوا استخدامها.
لهذا سنكون سوياً في سلسلة مقالات بعناوين مفصلة، ضمن عنوان عام: (وسائل القوة السياسية بمنظور مقاصد الشريعة الإسلاميَّة). لنحاول معالجة الإشكالية التالية: “ما هي وسائل القوة السياسية الواردة في محكم الآيات القرآنية وسيرة الأنبياء، لا سيما سنة النبي الخاتم الصحيحة القولية والعمليَّة؛ بغية تحقيق مقصد الإستخلاف والتمكين في عصرنا؟”.
___________________________________________________
[1] – انظر: خنفر، وضَّاح. الربيع الأول: قراءة سياسية واستراتيجية في السيرة النبوية. بيروت. جسور للترجمة، ط1- 1441هـ = 2020م. المقدمة بتصرف.