“رأس المَال والإيديولوجيا”، كتاب مكون من ألف ومئتي صفحة مشبعةٍ بأفكار تهدف إلى إعادة تشكيل تصور جديد لنظام أضحى يوصف بأنه متهالك، خصوصا في خضم الأزمة الصحية والاقتصادية التي نعيشها اليوم. مؤلف الكتاب، وهو المفكر الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي Thomas Piketty ،افتتح كتابه بمقدمة عبر فيها عن اعتذاره عن الإطالة حيث قال: “إن الكتاب طويل نوعا ما” ليستدرك بعد ذلك قائلا: “ولكنه يسير القراءة! لأن الاقتصاد ليس هو الفيزياء الكمية، فنحن هنا لسنا بصدد إرسال صاروخ إلى القمر”.
لقد أطلق هذا البروفيسور -الذي يدرس في معهد الاقتصاد بباريس- معركته منذ بداية جائحة كورونا، من أجل الدفاع عن وجهات نظره، متمسكا بمواقفه اليسارية التي يهدف من خلالها إلى تقليص الفوارق واللامساواة، فكان من أهم تصوراته في هذا الشأن: النهوض الاقتصادي الأخضر، وفرض ضرائب أكثر على الفئات الأكثر غنى، و”الميراث الشامل” “patrimoine universel”…
لقد سار الكاتب على درب طويل من النضال الذي عرف صيتا كبيرا منذ 2013، خصوصا عندما أصدر كتابه “رأس المال في القرن الواحد والعشرين”، وهو كتاب لا تقل صفحاته بكثير عن نظيره الذي ذكرنا سالفا، والذي بيعت منه أكثر من مليوني نسخة. وبعد ثمان سنوات من الأسفار حول العالم، والتي صاحبت خروج هذا الكتاب، أكمل المؤلف -الذي كان قريبا من الحزب الاشتراكي الفرنسي لمدة طويلة- معركته حيث صرح “إن المسألة الأهم تكمن في عدم التخلي عن دراسة القضايا الاقتصادية للآخرين” ويؤكد أن “التغير التاريخي حسب اعتقاده يحصل في المقام الأول بهذه الطريقة”.
- فرانس أنفو: قبل كل شيء، كيف حالكم، وكيف تعملون خلال فترة الرفع التدريجي للحجر؟
توماس بيكيتي: أنا حاليا ملتزم بالحجر الصحي في باريس، في المقاطعة العاشرة منذ ثمانية أسابيع، وأنا أنتمي إلى الطبقة التي تعتبر ميسورة بشكل عام. فلدي عمل ممتاز، وراتب جيد حتى خلال فترة الحجر، وبالنسبة للباحث في العلوم الاجتماعية، فإن تواجده في الحجر مع ما يكفي من الكتب والأرشيف المُرَقْمَن يمكنه من العمل بشكل عادي. فلذلك ليس عندي ما يستحق الشكوى في الظروف الحالية مقارنة مع من أثرتْ فيهم هذه الأزمة بشكل مؤلم، سواء على مستوى الدخل أو السكن.
- بداية، نود أن نتحدث عن الاضطراب الكبير الذي يحدث في الخارج. ما هي الكلمات التي يمكنك أن تستخدم من أجل وصف الوضع الاقتصادي العالمي حاليا؟
إن أقل ما يقال عن هذا الوضع أنه غير مسبوق، حيث أن البشرية لم يسبق لها أن قررت بشكل جماعي تعطيل نشاطها الاجتماعي والاقتصادي بهذا الشكل من قبل، وأعتقد أننا حققنا هذا الأمر بشكل جيد. ولكن على كل حال، تَلزمنا العودة إلى نقطة البداية: فالذي حصل هو أنه في نهاية فبراير، وبداية مارس، وصلت توقعات الأنماط الوبائية إلى طاولات حكومات دول العالم المختلفة، وكان أهمها الدراسة الاستشرافية لنمط انتشار الوباء الذي وزعته الجامعة الإمبراطورية (l’Imperial College) بلندن، الذي حذر من وفاة أربعين مليون شخص إذا لم يتخذ أي إجراء. وهذا يعني أربعمئة ألف أو خمسمئة ألف حالة وفاة في فرنسا، ومليوني حالة وفاة في الولايات المتحدة الأمريكية…
وكردة فعل أعربت الحكومات عن استعدادها: “إذن، نحن مضطرون لاتخاذ إجراءات غير مسبوقة تماما.”، ولا لوم عليها. ربما، في أحد الأيام، بعد ستة أشهر أو بعد سنة، سوف يفتح الملف من جديد من أجل التوصل إلى أفضل إجراء كان من الممكن القيام به: بدون شك، كان من الأولى الاستثمار في المستشفيات، وفي التجهيزات، وهو الأمر الذي كان من شأنه التمكين من اختبار وعزل الأشخاص الأكثر قابلية للعدوى بشكل رئيسي. ولكن لا بأس، هذا نتركه للقادم. هنا، اتخذنا قرارا غير مسبوق في مواجهة ظرف غير مسبوق، وبالتالي، فإنه من وجهة نظر الاقتصاد العالمي، فإن لدينا انهيارا على مستوى الإنتاج والنشاط الاقتصادي لم نشهد أبدا له نظيرا من قبل. في فترة زمنية قصيرة جدا، لم نقرر أبدا إيقاف عملية الإنتاج بكل بساطة. وبالتالي، لا يجب الاستغراب من هذا الهبوط الحاد للإنتاج عند نهاية الحجر، فالذي سيهم حينئذ هو التطلع إلى ما بعد الأزمة.
هذه الوضعية ستقود أيضا إلى ارتفاع ضخم للدين العام. فمن المعلوم حاليا أن الحكومة لن تتجه إلى إثقال كواهل الناس بالضرائب من أجل الاستمرار في تمويل المدارس، والمستشفيات، والنفقات العمومية بشكل عام. لذلك فإن الحل الوحيد الآني هو الاستدانة، والقليل من خلق الأموال، وسنعود إلى هذه النقطة لاحقا. ما أود قوله هنا هو أن هذه الوضعية ليست وضعية غير مسبوقة بشكل كامل، صحيح أننا لم نشهد جائحة وبائية كهاته من قبل، أو ربما يمكن تشبيهها نوعا ما بالإنفلونزا الإسبانية في الفترة الممتدة بين 1918 و1919، لكن في المقابل، نجد في تاريخنا عدة أمثلة للاستدانة الحكومية الضخمة.
الخبر السار، هو أننا دائما ما ننجح في الخروج من مثل هذه الأزمات. ففي تاريخنا أمثلة مختلفة عن هذا الأمر، ففي القرن العشرين، وبعد الحربين العالميتين، وفي سياقات أخرى أيضا، قد مررنا بأوضاع كانت فيها الديون الحكومية أعلى مما نشهده اليوم، فقد بلغت في بعض الأحيان 200% وحتى 300% من الناتج الداخلي الخام، يعني أكثر من سنتين إلى ثلاث سنوات من الإنتاج، وقد خرجنا منها بفضل عدد من الحلول، لم تكن حلولا سهلة طبعا، ولكنها على الأقل موجودة وممكنة.
إن تاريخنا غني بالسوابق، ومنهجيتي كباحث، تقتضي السعي إلى معرفة الكيفية التي يمكن أن تساعدنا بها السوابق المستمدة من التاريخ الاقتصادي، والسياسي، والتفاوتات وتاريخ المجتمعات الإنسانية، ولا أقصد هنا أن نحذو حذو السابقين بالحرف، فكل حالة تعتبر فريدة من نوعها ولكن قصدي أن نتعلم من التاريخ أن هناك دائما العديد من الخيارات والحلول الممكنة، وربما هذا هو الدرس الأهم الذي يمكننا استفادته من الوضعية الحالية. فالقائل بوجود حل اقتصادي واحد، وحل سياسي واحدا في مواجهة مشكلة الديون العامة مثلا، لا شك أنه مخطئ. فتاريخنا غني بسجل حافل من الحلول الممكنة، وهو ما من شأنه مساعدتنا على استشراف المستقبل.
- سنعود إلى مسألة المديونية فيما بعد، ولنتحدث عن الآن: ما الذي تخبئه لنا هذه الأزمة التي نعيشها اليوم؟ خصوصا على مستوى التفاوت الاجتماعي. ما الذي ترونه من خلال هذه الأزمة؟
للأسف، هذه الأزمة تعبر بشكل واضح عن قسوة التفاوتات الاجتماعية التي تعاني منها مجتمعاتنا، وتقوي الحاجة إلى تقليص هذه الفوارق، وإلى إيجاد نموذج اقتصادي آخر بكل بساطة، فهي تنبهنا إلى ضرورة تغيير نموذجنا الاقتصادي. وما يصدمني حقا هو قسوة هذه الفوارق في مواجهة الأزمة. فبالحديث عن الحجر الصحي، نلاحظ وبشكل واضح أن الوضع مختلف جدا بين من يسكن في شقة كبيرة محاطا بالكتب، وبين من يسكن في شقة ضيقة، أو من لا يتوفر على مأوى أصلا.
ثم إن الوضع يختلف باختلاف قدرتك على توفير حاجياتك. بمعنى، أن الناس الذين يتوفرون على مدخرات مالية، ورواتبهم لا تنقطع، والذين يحصلون على تعويضات عن البطالة، فإن وضعيتهم المالية لا بأس بها. بيد أن الأمر مختلف تماما بالنسبة لجميع من كانت أوضاعهم المهنية هشة، فإذا كنت عاملا موسميا، أو كنت تعمل بعقد ذي مدة محدودة وانتهت مدة سيرانها سيرانه خلال فترة الحجر، فإنك لن تستفيد من تعويضات البطالة الجزئية.
خلال العقد الأخير، شهدنا انتشار ظاهرة “الاستقلال المالي”، حيث أراد الجميع أن يكون رائد أعمال، أي مقاولا له حياته الخاصة، التي تتميز باقتطاعات اجتماعية أقل، وهذا يعني حماية اجتماعية أقل. واليوم، نرى أنه كثيرا من هؤلاء قد اضطروا للاستمرار بالعمل، والقيام بأشغال توزيع السلع بالدراجة، بسبب عدم توفرهم على أي مصدر آخر للدخل.
أما إذا تحدثنا عن البلدان الأكثر فقرا، وأقصد هنا دول الجنوب، فإن هذه المسالة تصبح أكبر فأكبر. فعندما تقرر تطبيق الحجر، وتوقيف النشاط الاقتصادي في بلد كالهند مثلا، أو في بلدان غرب أفريقيا، حيث 90% من السكان يعملون في القطاع غير المهيكل، ولا يتوفرون على أنظمة الحد الأدنى للدخل، أو التعويض عن البطالة، أو التحويلات الاجتماعية، ماذا سيحل بهم؟
لقد رأينا في الهند أن الساكنة المهاجرة، والعمال القرويين قد عوملوا بكثير من العنف، والذين كانوا داخل المدن، أو في أوراش العمل، والذين لم يكونوا يتوفرون على مساكن حقيقية، والذين تم طردهم من المدن لأجل تطبيق الحجر، والذين وجدوا أنفسهم على الطرقات، في اتجاه القرى، دون أي مصدر للدخل. وهنا، نعي إلى أي حد نحن في حاجة ماسة إلى نظام الحماية الاجتماعية، ونظام الحد الأدنى للدخل.
لقد طورت دول الشمال أنظمة كهذه، لكنها مع ذلك ليست كافية، فكثير من الناس لا يصلهم إلا النزر اليسير، أو لا يصلهم شيء أصلا، لأن هذه الأنظمة لم ترقَ إلى المستوى الذي تكون فيه تلقائية. في دول الجنوب يجب استغلال فرصة الأحوال الراهنة من أجل تسريع عملية إرساء أنظمة الدخل الأدنى، وهو أمر ليس بالمستحيل. فالهند مثلا، والتي هي أكبر ديمقراطية في العالم، بالرغم من أنها تمر اليوم بأزمات وانقسامات طائفية ودينية، والتي هي طبعا أزمات مقلقة بشكل كبير، قد دار فيها خلال الحملة الانتخابية للعام الماضي نقاش عميق جدا حول مسألة إرساء نظام للدخل الأدنى وتثبيته في أقصى مستواه الأدنى، لكونه يمكِّن من تجنب الفقر المدقع، كما يمكِّن من إخراج الناس من الاختيار بين الموت جوعا أو الموت بسبب الفيروس في أوضاع كالتي نعيشها اليوم.
إذن، هذه ليست أبدا إيديولوجية الحكومة الحالية. صحيح أن الأحزاب التي تدافع عن الطبقات الأدنى والفئات الأكثر فقرا وهشاشة في المجتمع الهندي، والتي قدمت هذه المقترحات قد خسرت الانتخابات، وهو ما لم يكن متوقعا في البداية. وقد حدث هذا الأمر أيضا بسبب تفجيرات يناير 2019 في كشمير، والتي رُبطت بمسألة صراع الهوية، التي قادت الحزب الوطني الهندي، إلى إعادة تشكيل تصور الصراع السياسي، بمهارة عالية ليس حول القضايا الاجتماعية، ولكن حول قضايا الصراع بين الهندوس والمسلمين. لقد ربحوا الانتخابات بهذه الطريقة، ولحد الآن يستمرون في البقاء على هذا النحو، يعني في زيادة حدة الصراعات على حساب محاولة إيجاد سياسات اجتماعية ناجعة. وربما اليوم، وبسبب الأزمة، حتى حكومات كهذه ستنتهي إلى التحرك في هذا المضمار.
وباختصار، فإن هذه الأزمة تعبر عن حاجتنا إلى الحماية الاجتماعية ونتمنى أن تجد البلدان ذات الأنظمة الاجتماعية الأقل تطورا في هذه الأوضاع مناسبة من أجل تسريع الخطى على هذا الطريق بعد نهاية الأزمة.
- تعتقدون أن هذا التوقف الاقتصادي القوي من شأنه أن يمكن من إعادة تشغيل النظام بطريقة مغايرة. ومن أجل القيام بهذا، تتحدثون عن “إنعاش أخضر”، هل يمكنكم أن تحدثونا عن تصوركم حول هذه “الإنعاش الأخضر”؟ وعمليا، كيف يجب أن تتصرف السلطات العمومية؟
بداية، سوف نكون في حاجة ماسة إلى إنعاش قوي من طرف السلطات الحكومية، لأن مستوى النشاط الاقتصادي سوف ينهار، كما أن مستوى البطالة قد ارتفع إلى نسب عالية جدا، وهو ما حدث في الولايات المتحدة أيضا. أما في فرنسا، فإننا لا نرى هذا الأمر بشكل كلي بعد، لأننا نتوفر على تدابير البطالة القصيرة الأجل، لكننا نلاحظ بشكل واضح أن النشاط سيعود بوتيرة بطيئة في مجموعة من القطاعات. لذلك سنكون بحاجة ماسة إلى قوة السلطة الحكومية من أجل المساعدة على الحد من تزايد البطالة، وخلق فرص شغل جديدة.
وفي هذا المقام، أعتقد أنه من الخطأ دعم القطاعات والأنشطة الصناعية التي تتسبب في الانبعاثات الكربونية القوية والتي نعلم أنها يجب أن تنخفض على المدى المتوسط والبعيد. إننا نعاني نوعا من الفصام في هذه المسائل، لكوننا في نهاية العام 2015 في باريس، كنا قد وقعنا على مجموعة من الأهداف المتعلقة بصحة الكوكب، والتي تنص على ضرورة السعي إلى تجنب ارتفاع حرارة الكوكب إلى أكثر من درجيتين مئويتين، لنجد أنفسنا بعد ذلك وقد انحرفنا عن هذا الطريق. ولذلك، فنحن اليوم قد حصلنا على فرصة لإعادة التفكير من أجل بداية جديدة تولي الأهمية إلى قطاعات أخرى، وأولاها القطاع الصحي.
ويأتي بعد ذلك قطاع الابتكار، والتكوين، والبيئة، وكذلك كل الأشغال التي تهدف إلى تجديد مصادر الطاقة الحرارية، التي نعلم أننا في حاجة ماسة إليها، لأنها واحدة من أهم مصادر انبعاثات الكربون، ثم أنها تشكل قطاعا خصبا لخلق الكثير من فرص الشغل. لذلك يجب استثمار الأموال في هذا الاتجاه، لأن هذا القطاع يشكل ملايين فرص الشغل في قطاعات مرتبطة بالأشغال العمومية، والبناء، والتي عانت من انهيار كبير وهناك العديد من الكفاءات التي هي جاهزة للاستعمال.
كل هذا يقتضي تحمل التغيير الذي سيطال ترتيب الأولويات. وهذا لا يعني إغلاق قطاعي صناعات السيارات والطائرات بشكل نهائي، لأن هذا يجب أن يتم تدريجيا، فكل قطاع إنتاجي لا يشكل على حدة إلا جزءا صغيرا من كمية الانبعاثات الكلية. لذا فإن هذه الحجة كثيراً ما تُـعطى لتبرير عدم القيام بأي تصرف. والصواب هو أن كل قطاع يساهم في الانبعاث عليه أن يقلل نشاطه. وكل القطاعات التي تصدر انبعاثات كربونية بشكل قوي يجب أن نسعى إلى تقليل حصتها من النشاط الاقتصادي الكلي تدريجيا، ولكن بحزم. إذا لم نستغل هذه الفرصة اليوم من أجل مراجعة أولوياتنا، فمتى سنفعل ذلك؟ أتمنى حقا أن يمكِّن الضغط الاجتماعي، والشعبي، والسياسي من توجيه الحركة الاقتصادية للسير على هذا المنوال.
لقد رأينا أن الحكومة قد أعلنت عن خطط مساعدة هائلة لفائدة الخطوط الجوية الفرنسية وشركة السيارات رونو. في نظركم، هل يجب أن نستمر في دعم هذه الشركات على كل حال؟ وفي حالة ما إذا توقف دعم هذه الشركات بشكل كامل، كيف يمكن التعامل مع الحطام الاجتماعي الذي سيخلفه هذا الأمر تلقائيا؟
إن إنتاج قطاع معين لغاز الكربون ليس سببا كافيا لحرمانه من الاستفادة من التعويض عن البطالة. فالعمال يتأثرون بانخفاض النشاط الاقتصادي طبعا، فكل القطاعات مُكَربِنَة بشكل أو بآخر، لأنها أثناء عملية الإنتاج تستخدم سلعا وخدمات يقتضي إنتاجها انبعاثات كربونية. لذلك تَلزمنا سياسة منظمة، تأخذ بعين الاعتبار كمية الانبعاثات التي يصدرها كل قطاع، وتدعم كل قطاع بشكل يتناسب مع التقييم الدقيق لكمية الانبعاثات الكربونية التي يصدرها، كما يجب أيضا أن يصاحَب هذا التقييم برؤية اجتماعية واضحة جدا.
وعمليا، لا يمكننا النجاح في الوصول إلى الحكامة الطاقية إذا لم نقلص الفوارق الطبقية، وإذا لم نسع إلى تحقيق شكل من الحكامة المطلقة، حكامة اجتماعية واقتصادية. فما دام مجتمعنا يعاني من فوارق كبيرة على مستوى الدخل، سيكون من الصعب جدا أن نطلب من ذوي الدخل المحدود تغيير أساليب حياتهم، وبذل جهود أكبر.
ففي جميع القطاعات التي ذكرتموها، يجب السعي إلى الحفاظ على وضعية الأشخاص الذين يتقاضون ما بين الحد الأدنى للأجور أو ضِعفه، بل وتحسين أوضاعهم قدر المستطاع. وحث ذوي الدخل الذي يفوق ثلاثة أو أربعة أضعاف الحد الأدنى للأجور على بذل جهد أعلى. ويجب البدء بمن يتقاضون أكثر من عشرة، أو عشرين، أو خمسين ضعفا، والذين يتوفرون على مداخيل ضخمة، وأملاك هائلة.
إن العدالة شيء يبنى، وشرط بنائها هو التمكن من تطوير معايير جديدة للعدالة البيئية وفي الوقت نفسه، معايير للعدالة الاجتماعية. سيكون حقا من الخطأ تحييد المسألة البيئية، والتصرف على نحو يوحي بأن هناك نوعا من الاتفاق على فصلها عن القضية الاجتماعية أو قضية اللامساواة.
لقد رأينا ما حل في فرنسا في بداية فترة الخمس سنوات حين أردنا زيادة الضريبة على الانبعاثات الكربونية بحجة أن هذا الإجراء سيمكن من تقليصها، إلا أن الناس قد فطنوا إلى أن الأموال التي تدخل من طريق من أجل تمويل ارتفاع الضريبة على الكربون، تخرج من طريق آخر من أجل حذف الضريبة على الثروة التي كانت تفرض على 1% من الفرنسيين الأكثر ثراء. إذن، ما حاولت الحكومة قوله هو: “لا توجد أي علاقة بين الأمرين”، باستثناء أن نفس المليارات الخمسة التي دخلت من جانب هي نفسها التي خرجت من الجانب الآخر من ميزانية الدولة. لذلك، أتى وقت قيل فيه: “ليس من أجل البيئة أبدا تجعلوننا ندفع ضرائب أكثر عن الكربون”. وهذا طبعا، يضر بشكل كبير بفكرة الانتقال المناخي.
وعمليا، ينبغي حث الفئة الأكثر ثراء على بذل الجهد الأكبر، وأقصد هنا الفئة التي تتوفر على أعلى المداخيل، وأيضا الفئة التي تحوز ممتلكات أكثر. ذلك أن الممتلكات هي أيضا مؤشر على القدرة على المساهمة في تحمل النفقات المشتركة. لا يتعلق الأمر هنا بمعاقبة أي كان، بل يتعلق فقط بمحاولة بناء معايير للعدالة تكون مقبولة عند أكبر عدد ممكن من الناس، والتي تأخذ بعين الاعتبار قدرة كل شخص على المساهمة، والتي هي أيضا قدرة كل واحد على إنتاج انبعاثات كربونية، ذلك أن أنماط الحياة التي يعيشها ذوو الدخل المرتفع أو ذوو الأملاك الكثيرة تقتضي طبعا إنتاج انبعاثات أكثر.
لأجل كل هذه الأسباب، نجد أنفسنا في حاجة إلى مواقف قوية على مستوى العدالة. هل الحكومة الفرنسية التي ألغت الضريبة على الثروة في بداية عهدتها، أو حكومة ترامب في الولايات المتحدة التي قامت أيضا بتخفيضات هائلة للضرائب على الأغنياء، هل هي قادرة على التراجع عما فعلته سابقا؟ ترامب يبدو عنيداً حقاً. لكن إيمانويل ماكرون يبدو أكثر عنادا، لكن بطريقة أخرى. فلسان الحكومة الحالية يقول: “لا أحد سيؤدي. سنرفع مستوى الاستدانة، لكن لا حاجة إلى حث الفئات الأغنى على بذل جهود أكثر. سوف ترون، لا أحد في حاجة إلى أداء أي شيء.” هذا أمر غريب، لأن الحكومة قد قالت قبل سنة من الآن: “ليست لدينا أموال من أجل المستشفيات لأن الأموال لا تسقط من السماء.” والآن تقول: “بإمكاننا تمويل كل شيء ولا أحد عليه أداء أي شيء، بما فيهم الأكثر غنى”. حسنا، هل سيصدق الناس هذا؟ وكم من الوقت سنتمسك بهذا الخطاب الهش؟
- إن السؤال الذي يطرح نفسه تلقائيا بعد الإشارة إلى استراتيجية الإنعاش الاقتصادي من خلال النفقات العامة هو: “من الذي سيؤدي الفواتير” إذن؟
أعتقد أننا سنجد أنفسنا مرغمين على الاتجاه نحو نظام ذي عدالة جبائية أكبر. نظام جبائي يطلب من ذوي المداخيل المرتفعة والأملاك الكثيرة بذل جهود أكبر. أما فيما يتعلق بقضية انبعاثات الكربون، فقد اقترحت في كتابي الأخير تطبيق نظام “بطاقة الكربون الشخصية” التي تمكن من منع الانبعاثات الكبرى بحسب الانبعاثات الكربونية التي يتسبب بها كل فرد وذلك عن طريق فرض ضرائب جد عالية على الانبعاثات التي تتعدى معدلا معينا، ثم السماح لمن ينتمون إلى مستويات الانبعاث الأقل من التمتع بالحاجيات الأساسية.
إن الفئات المختلفة، إذا لم تعامل بحسب مستويات عيشها، وبالتالي مستويات انبعاثات الكربون التي تتسبب بها، لن تتمكن من التوصل إلى توافق في الآراء، ومن تطوير معيار للعدالة يجعل الجميع يتقبلون الانخراط في هذا المستقبل المشترك.
وفيما يتعلق بالمديونية الحكومية، يمكننا القول إننا مررنا بالكثير من الحلقات التاريخية التي عرفنا فيها ديونا عامة كبرى، ففي القرنين التاسع عشر والعشرين، وبعد كل من الحربين العالميتين بشكل خاص، كنا نعاني من مستوى مديونية تجاوز 200% أو 300% من الناتج الداخلي الخام، وهو وضع عانت منه كذلك الاقتصاديات الكبرى في ألمانيا، واليابان، والمملكة المتحدة، وفرنسا… وإذا ما تأملنا هذه الحلقات، فإننا سنصل إلى فكرة مفادها أنه من غير الصحيح الاعتقاد بأننا لن نملك خيارا سوى تسديد الديون إلى الأبد عن طريق فوائض الميزانية كل سنة، لأن التاريخ علمنا أن هناك الكثير من الطرق التي استخدمت من أجل تسريع عملية التخلص من هذه الديون.
فما هي هذه الطرق؟ إن الطريقة الأكثر إثارة للاهتمام والتي أثبتت نجاعتها تاريخيا، هي تلك التي اتبعتها ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال القيام باقتطاع استثنائي هَمَّ الأملاك الخاصة الكُبرى والذي كان من شأنه تقليص الديون العامة بشكل سريع جدا.
هناك طريقة أخرى هي التضخم، فهي تمكن من التخلص من الدين العمومي، لكنها غير عادلة من ناحية تقسيم الجهد. فالتضخم عادة يمس المدخرين الصغار ذوي الحسابات البنكية الهزيلة، في الوقت الذي لا يلحق ضرره الفئة الميسورة التي تستثمر أموالها في العقار أو البورصة، لأن الأثمنة في هذه الأخيرة سترتفع اضطرادا مع ارتفاع نسبة التضخم.
إن الحكومة الألمانية لم تكن لديها الرغبة أبدا بين 1948 و1952 في إعادة تضخم سنوات العشرينات من القرن الماضي، لذلك فرضوا اقتطاعا استثنائيا على الأملاك العقارية الكبرى، وهذا الإجراء مخالف تماما للتضخم، فهو يحمي المدخرات الصغرى. أما نسبة الضريبة على الممتلكات الصغرى فقد كانت ضعيفة جدا، في المقابل ارتفعت هذه النسبة إلى أكثر من 50% من مخزون الممتلكات بالنسبة للحوافظ المالية الأضخم. وفي اليابان ارتفعت هذه النسب حتى 80 أو 90%.
يمكنني القول بأنه في ذلك الوقت لم تكن هذه الإجراءات تروق للذين عانوا من ذلك الوضع، لكنهم تبنوها في النهاية. وبأثر رجعي، إذا ما قمنا بإجراء تقييم، فإن هذا الحل يعتبر من أنجح الأمثلة عن كيفية التخلص من دين ضخم بشكل سريع. لقد مكن هذا الأمر الدولتين المذكورتين، منذ بداية الخمسينات من القرن الماضي، من إيجاد نفسيهما دون ديون عامة. فالدين العمومي الذي كان يشكل 200% من الناتج الداخلي الخام انخفض إلى أقل من 20 % خلال سنوات قليلة، وهذا مكنهما من إيجاد هامش مناورة أكبر من أجل الاستثمار في إعادة التعمير، والبنى التحتية، والتعليم. وأخيرا، فقد خدم هذا الأمر النمو الاقتصادي بشكل كبير خلال “الثلاثينية المجيدة”.
لا أقول إن الأمر بسيط، ففي الكواليس، تقبع المصالح العظمى، فالأمر دائما ما كان معقدا. لكن يجب أن نضع في الحسبان دائما وعلى كل حال، أن أحدا ما عليه أن يؤدي الثمن.
عندما نقول: “إنها الأبناك”، حسنا، إنها الأبناك، لكن خلف الأبناك، يوجد إما مودعون صغار، وإما مساهمون متوسطون، وإما مساهمون كبار. وفي الخلف، هناك أشخاص من لحم ودم يتوفرون على مستويات مختلفة من الممتلكات. وما هي المنهجية التي يمكن أن نتّبع إذا لم نحاول تقسيم الجهود بأكبر قدر ممكن من الشفافية والعدل؟ إننا لم نجد بعد المعادلة الرياضية التي تخول لنا تحقيق هذه العدالة، ولكن يمكننا على الأقل استدعاء هذه الأمثلة من التاريخ في محاولة لإيجاد طريقة للاشتغال. يمكننا أيضا تأجيل سداد الدين للبنك المركزي الأوروبي، ويمكن أن نعتبر هذا حلا من الحلول، لكنه يبقى غير كاف على المدى البعيد.
- فعلا، بالحديث عن مسألة الدّين، هناك البنك الأوروبي المركزي عندما نكون في منطقة الأورو، كما هو الشأن بالنسبة لفرنسا. لقد أشرتم إلى إمكانية توحيد سعر الفائدة على الديون بالنسبة للدول التي تنتمي إلى هذه المنطقة. هل يمكنكم أن تشرحوا لنا بدقة أكبر كيف يعمل هذا الأمر؟ نحن نعلم سلفا أن بعض الدول كألمانيا وهولاندا غير متحمسين لهذه الفكرة، إذن كيف يمكن تطبيقها؟
أعتقد أنه من الواجب تجاوز أجواء عدم الثقة التي تخيم حاليا بين مختلف الدول الأوروبية، فأود أن أذكركم أن دول الاتحاد الأوروبي التي تنتمي إلى منطقة الأورو تتعامل بنسب فائدة مختلفة على الديون العمومية بالرغم من أن العملة موحدة. ولهذا، فكل بلد منها يقترض بسعر فائدة مختلف اضطرارا كلما مر بأزمة كالتي نعيشها اليوم، وهذا أمر غير طبيعي بالنسبة لاتحاد مالي، لذلك أعتقد بأن منطقة الأورو تبقى هشة على مستوى بنيوي طالما لم توحد نسبة فائدتها.
وما دام لدينا أسعار فائدة مختلفة، فيكفي أن تبدأ الأسواق المالية في لحظة ما في الشك في بلد ما، إلا وتصبح حركات المضاربة هذه ذاتية التحقق فحالما تبدأ نسبة الفائدة في بلد معين في الارتفاع، فإن هذا الأمر يزيد من تعقيد وضعيته المديونية، مما يصعب عليه تسديد ديونه. وأمامكم هذه المضاربات المالية التي تضعنا في موقف هش للغاية. تصوروا معي لو أن البنك المركزي الفدرالي في الولايات المتحدة، يختار كل صباح ما بين سعر فائدة كاليفورنيا، أو لويزيانا، أو ولاية نيويورك… سيكون الأمر شبيها بأوروبا. لحسن حظهم أنهم وحدوا نسبة الفائدة، ولذلك سيكون من السهل على البنك المركزي الفدرالي إعادة إنعاش النشاط الاقتصادي في ظروف كهذه.
في أوروبا، يجب أن نعد لأمر كهذا، ولذلك وجب علينا تجاوز عدد من حالات سوء التفاهم. فعلى عكس ما يحاول البعض الترويج له، لا يتعلق الأمر بتسديد ديون دول الجوار، ولا يتعلق بتقاسُم الديون في مجملها، وإنما يتعلق بتوحيد أسعار الفائدة. ولكن في حالة ما إذا كنت بلدا عليه دين بنسبة 130 % من ناتجه الداخلي الخام كإيطاليا، فلا يمكن أن يتدخل بلد عليه دين بنسبة 60 % من أجل سداد دينك. الأمر وما فيه بكل بساطة هو القدرة على الحصول على تمويلات مرة أخرى بسعر فائدة مستقر وقابل للتوقع من طرف الجميع. وبعد ذلك، يمكن للبنك المركزي الأوروبي أن يساهم في عملية الاستقرار عن طريق شراء جزء من الدين.
المشكلة هي أننا إذا لم نفعل هذا فسنجد أنفسنا في وضع نطلب فيه من البنك المركزي الأوروبي القيام بكل العمل مكاننا. وكما هو الشأن بالنسبة للحكومات، فإن البرلمانات لم تضع نصب عينيها مسألة الدين المشترك كخطة للإنعاش المشترك، وهكذا بقينا نطلب من البنك المركزي كل صباح شراء حصة من ديون مختلف الدول الأعضاء في حالة ما إذا كانت حركة عمليات المضاربة المالية تتفاعل بشكل أقوى من اللازم. إنها وضعية هشة على المستوى الهيكلي وهي سبب لخلق التوتر الدائم، لأن كل هذا يتم خلف الأبواب المغلقة.
إن العيب الأكبر للمؤسسات الأوروبية في الوقت الحالي هو أنه على مستوى كل ما يتعلق بالدين، أو بالميزانية، أو بالضرائب فإنه يخضع لقاعدة الإجماع. فمجلس زعماء الدول أو مجلس وزراء المالية لدول منطقة الأورو يجب أن يتخذ هذه القرارات بالإجماع، وهذا يعني طبعا العرقلة الدائمة، وعدم تقرير أي شيء. في المقابل، يتخذ البنك المركزي الأوروبي قراراته بالأغلبية، ولذلك ننتظر منه حل هذه المشاكل بدل الحكومات. لقد استمر البنك المركزي خلال هذه الأزمة في طباعة العملات وخلق الأموال، لكن الذي أخشاه هو أن تساهم هذه العملية في تحفيز أسعار سوق الأسهم وأسعار الأصول العقارية. وفي بعض الحالات، يساهم هذا الأمر في زيادة ثروة الفئات الأكثر غنى، وهذا في حد ذاته لا يخدم القيام بثورة اقتصادية ذات بعد إيكولوجي واجتماعي، والتي تحتاج إشرافا ديمقراطيا.
أريد فقط أن أذكر، من أجل إعطاء نغمة تفاؤلية لهذه المحادثة، أن فرنسا وألمانيا قد أسستا جمعية فرنسية-ألمانية خلال العام الماضي، تتكون من خمسين نائبا عن الجمعية الوطنية [الفرنسية]، وخمسين نائبا من بونديستاغ [البرلمان الألماني]، يمثلون كل الأطياف السياسية. لقد اجتمعوا في ستراسبورغ خلال شهر فبراير. لكن دور هذه الجمعية حاليا يظل محصورا في حدود الأدوار الاستشارية. لكن لا شيء يمنع من فتح الباب أمام الدول الأخرى التي ترغب في الانضمام إليها، ولا شيء يمنع من إعطائها سلطات حقيقية، مثلا: الإشراف على مخطط إنعاش اقتصادي أخضر واجتماعي. ما لاحظناه مع هذا الاتفاق الفرنسي-الألماني هو أن لا شيء يمنع دولتين من توقيع اتفاق ثنائي من أجل التقدم، لأننا لا نحتمل انتظار تحقق الإجماع بين 27 دولة، وأرى أنه من الواجب الآن على الدول القادرة على الإقدام على تحقيق مشاريع اندماجية أن تبادر إلى القيام بهذا، ثم تحاول إقناع الدول الأخرى بالالتحاق بها في أسرع وقت ممكن.
إن الخطر الحقيقي اليوم، هو أن يتكرر ما وقع بعد أزمة 2008، حيث كانت تجتمع المجالس الأوروبية بشكل متكرر، وفي بعض الأحيان يجتمعون ليلا ليعلنوا في الصباح أنهم قد أنقذوا أوروبا للمرة الخمسين، لكننا نفطن في اليوم الموالي أنهم هم بأنفسهم ليست لديهم أي فكرة عما قرروه، ففي البرلمان تتم المناقشة بشكل علني على الأقل، حيث يتم عرض مجموعة من وجهات النظر، وفي النهاية يتم التصويت، فهناك مسطرة الأغلبية، وندري لماذا وكيف يتم تقرير الأمور. إنهم يحاولون حكم أوروبا عن طريق المجالس المغلقة، المؤسسةِ على قاعدة الإجماع. إننا هنا نحاول تخمين الحجج المتبادلة داخل هذه المجالس، ولكن هذه الآلية أضحت آلية تدفع إل كراهية أوروبا، وبالأخص تدفعنا إلى الخسارة أمام أزمات خطيرة كهذه التي نمر بها اليوم.
- هذه الأزمة الصحية قد أبرزت إلى الواجهة نقاشا حول سلم القيم داخل المجتمع، خصوصا ما يتعلق بالاعتبار الضئيل والتقييم الاقتصادي لبعض المهن التي هي أساسية بالنسبة للسير الجيد للمجتمع: كموظفي القطاع الصحي، والأساتذة، وعمال النظافة… فكيف يمكن التوصل إلى مكافأة عادلة لأصحاب هذه المهن؟ وما السبيل إلى إدماج منفعتهم الاجتماعية؟
إن السؤال المطروح هو: ما المقصود بالصالح العام؟ هل من الصالح العام وجود فوارق ضخمة على مستوى الدخول، قد تصل إلى مئة ضعف؟ أعتقد أن الإجابة الصحيحة هي لا. إذا حلّلنا مختلف مستويات التفاوت الطبقي تاريخيا في مجتمعات مختلفة، فسنجد أن الحصول على مزيد من الرفاهية والرقي ليس مقترنا بوجود مزيد من التفاوتات. وما نستنتجه هو أن هناك مجتمعات حيث فوارق الدخل ضئيلة، تتراوح بين الضعف إلى خمسة أضعاف على حد أقصى، والتي أصبحت خلال القرن العشرين من بين المجتمعات الأكثر رفاهية وتقدما على الكوكب، ومثال ذلك: السويد، وأوروبا الشمالية…بالرغم من أنهم تخلوا قليلا عن طموحاتهم في المساواة الاجتماعية والديمقراطية منذ التسعينات، ولكنها، بالرغم من ذلك تبقى من الدول التي نجحت في الحفاظ على مستويات ضئيلة من الفوارق مع مستويات مرتفعة من الرفاه الاجتماعي خلال أطول فترة من الزمن.
عمليا، علينا بذل قصارى الجهد في سبيل رفع مستوى الدخل إلى ضعف مقدار الحد الأدنى للأجور، والحفاظ على مستوى الدخل بالنسبة لمن يتقاضون ضعفيه أو ثلاثة أضعافه، وأعتقد أنه يجب التفكير في تخفيض مستوى الدخل تدريجيا بالنسبة لمن يتقاضون أجورا تبتدئ من أربعة أضعاف الحد الأدنى للأجور. لقد أضحى من الضروري السير على هذا النهج، لأن التاريخ قد علمنا أن التقدم الاقتصادي، شأنه شأن التقدم الاجتماعي، يتغذى على تقليل الفوارق الاجتماعية، حتى وإن عُرقِل هذا الأمر خلال الفترة 1980-1990 فإنه قد اشتغل بشكل جيد.
إن الولايات المتحدة قد حاولت من عهد ريغان أن تبرهن على أن تكريس الفوارق الاجتماعية، وتركيز السلطات الاقتصادية في القمة هو السبيل الوحيد لتحقيق الحركية الاقتصادية… لكن التاريخ بين لنا خطأ هذا الادعاء، فالسبب الذي جعل الولايات المتحدة رائدة اقتصاديا هو أنها كانت تحتوي على قدر من الفوارق الاجتماعية أقل من أوروبا، ولأنها أيضا كانت أكثر تقدما على مستوى التعليم، ففي أواسط القرن العشرين، كان 80% من فئة الناشئين تستفيد من التعليم الثانوي، في الوقت الذي كانت 20 % أو 30% فقط تستفيد منه في فرنسا، وألمانيا، واليابان. لقد فقدت الولايات المتحدة القيادة على مستوى التعليم بدءا من الثمانينات، وكانوا يعتقدون بأنهم وجدوا وصفة جديدة للتقدم الاقتصادي، والتي هي: تكريس مزيد من الفوارق الاجتماعية. لكن في الحقيقة، فقد انخفض النمو إلى النصف منذ ثمانينيات القرن العشرين في الولايات المتحدة، والآن، نرى أن الدول الآسيوية التي استثمرت جيدا في التعليم هي التي تسير في الاتجاه الصحيح.
إن السير الحثيث نحو المساواة على مستوى التعليم والرواتب هي حركة طويلة الأجل تسمح بالتقدم الاقتصادي والاجتماعي. ويجب أن نعاود اليوم السير على هذا المنوال.
- لقد تحدثنا عن مسألة تفاوتات الأجور، ونحن ندرك أن التفاوت في الثروة أكبر وأهم، تتحدثون عن شكل من أشكال الميراث المشترك المحدد بسقف 120000 يورو، والذي سيستلمه الفرد في سن الخامسة والعشرين. كيف سيتم هذا الأمر؟ هل سنقوم بحد ميراث أشخاص آخرين من أجل تمويل هذه العملية؟
إن هذا المقترح الذي وضعته يجب أن يضاف إلى أنظمة عمومية جيدة للصحة، والتعليم، والحد الأدنى للدخل، والتأمين على البطالة… لا يتعلق الأمر هنا بتسوية شاملة. في بعض الأحيان، كل هذه المناقشات حول الدخل العام يتم توظيفها من طرف مجموعة من الأشخاص الذين يريدون تعويض النظام الاجتماعي بأكمله بدفعة واحدة ثم ينتهي الأمر. أعتقد أن النفقات العمومية الأساسية يحب أن تتمحور حول الصحة، والتعليم، والتأمين عن البطالة، والتقاعد…
وتبقى الإشارة إلى أن القدرة على التملك مسألة مهمة جدا. حاليا، الثروة موزعة بشكل غير عادل تماما. بل موزعة بشكل أكثر جورا من الأجور. فالدخل هو ما تربحه خلال سنة، أما الثروة فهو ما تتملكه. فخمسون في المئة من الفقراء من ناحية الملك الثروة في فرنسا بالكاد يملكون خمسة في المئة من مجموع الثروة الخاصة. فلو كانت لدينا مساواة كاملة فمن المفترض أن يملكوا خمسين في المئة من مجموع الثروة. أنا لا أقول أنه يجب أن نصل إلى هذا، ولكن إذا استطعنا فقط تحقيق نسبة عشرين في المئة، والتي هي نصيب هذه الفئة من المداخيل، لكانت الأوضاع مختلفة.
ومن بين وسائل تحقيق هذه الغاية: فكرة الميراث للجميع. إنه مقترح ليس فيه شيء جذري، ففي الحقيقة يمكننا أن نمشي إلى أبعد من هذا. فالمقترح الذي أتيت به يقتضي أن ترث الفئة التي ليس لديها أي ميراث 120000 يورو، وهذه الفئة تشكل نصف الساكنة، أما الفئة التي ترث مليون يورو فيجب أن يتبقى لها 600000 يورو بعد اقتطاع الضرائب على الميراث، وهذا يبقى أعلى بكثير من 120000 يورو. ومع ذلك يبقى هناك تفاوت كبير مناقض للمساواة المثالية في الفرص والتي ندعي أننا بنينا عليها مجتمعاتنا.
عندما يكون رصيدك من الثروة صفرا، أو عندما تكون عليك ديون، فهذا يعني أنه عليك القبول بكل شيء، فلن تستطيع المفاوضة على أي شيء. عليك القبول بأي عمل يتاح لك، ومهما كانت ظروفه، وبأي أجرة، لأنك يجب أن تؤدي فواتيرك. فتجد أن سلطتك على حياتك الشخصية محدودة جدا.
لكن عندما ستتوفر على مائة ألف يورو فإن الأمر سيختلف كثيرا، فعندها سيكون لديك الوقت للتفكير قبل القبول بأي شيء، كما سيمكنك من شراء مسكن، وستكون لديك مشاريع مهنية أكثر تنوعا، كما سيمكنك إنشاء مقاولة. سيعطيك هذا تحكما أكبر في حياتك، كما سيساهم في تحريك المجتمع. فليس أبناء الأغنياء فقط من لديهم أفكار في الحياة. ولكل هذه الأسباب، يجب أن نستأنف هذا التحرك نحو المساواة والمشاركة الأكبر للجميع.
- إن كل الأفكار الجديدة التي تطرحونها بهدف تقليص هذه التفاوتات، وكذلك بصمة الكربون الخاصة بالاقتصاد ستواجَه بمقاومة شديدة. هل ترون أنه من الممكن أن تفوز أفكاركم في هذا الصرع المحتدم؟ وكيف ستكون عملية التغيير من نظام لآخر؟
إن النظام الاشتراكي التشاركي الذي أدافع عنه في كتابي هو تطور حصل بشكل جزئي خلال القرن العشرين، والذي عرف نجاحا جيدا. وخصوصا في دول شمال أوروبا والجرمانية، التي أدخلت حقوق تصويت مهمة للأجراء. ففي ألمانيا والسويد، يتمتع الأجراء بحقوق تصويت في المجالس الإدارية للشركات تصل إلى 50%، يعني أن ممثلي الأجراء يشكلون نصف الأصوات دون أي مشاركة في رأس المال. أما إذا كان لديهم عشرة في المئة فقط من رأس المال، فهذا يعني أن بإمكانهم تشكيل الأغلبية أمام مساهم يملك 80 في المئة من رأس المال.
إنه نظام ملكية مختلف تماما عن الشكل الكلاسيكي الذي يعمل بقاعدة “سهم = صوت”. ومع ذلك فهذا نظام معتمد على الأقل في الشركات الكبرى في ألمانيا والسويد منذ الخمسينات من القرن الماضي. وكما هو واضح، فهذا النظام لم يقد هذه الدول إلى الإفلاس. طبعا، من الصعب دائما قبول أصحاب الأسهم بهذا الأمر. ففي الدول التي ذكرنا لم يقبلوا في البداية بهذا الأمر، لكن ميزان القوى الاجتماعي والفكري هو الذي جعلهم يقبلونه.
إن ما نتعلمه من تاريخ التفاوتات، هو أن للأزمات أدوارها، لكن هناك أيضا بعد فكري يطرح التساؤلات حول طبيعة المنافذ التي نرغب فيها والكيفية التي نريد وفقها بناء عالم جديد. لكن الأزمات يمكن أيضا أن تؤدي إلى الانحدار والتراجع، ثم هناك ثورات قادت إلى خلق أنظمة أكثر قمعية من تلك التي أردنا تغييرها.
والأمر الأهم، هو أنه يجب ألا نترك دراسة القضايا الاقتصادية للآخرين، فكل مواطن يجب أن تكون لديه وجهة نظره الخاصة. إنها ليست أسئلة معقدة، وهذا ما سعيت إلى بيانه في كتابي “رأس المال والإيديولوجيا”، الذي هو طويل نوعا ما، لكنه يسير القراءة. ففهمه لا يتطلب رصيدا معرفيا معينا. فالاقتصاد ليس كالفيزياء الكمية، فلسنا هنا بصدد إرسال صاروخ إلى القمر. إنها أشياء بسيطة، تحليلات تاريخية، واجتماعية. وكل شخص يمكنه بناء وجهة نظر بعد ذلك. أعتقد أن التغيير التاريخي يحصل في المقام الأول بهذه الطريقة.
ما رأيناه في التاريخ، هو أن مجتمعات كانت تعاني من الكثير من التفاوتات استطاعت أن تصبح أكثر مساواة بعد حراكات اجتماعية ناجحة. ومن الأمثلة القوية على هذا الأمر حالة السويد، لأن البعض قد يعتقد أن السويد كانت تتميز بثقافة المساواة منذ قرون وقرون، بينما الحال أن الأمر لم يكن هكذا أبدا. فالسويد في بداية القرن العشرين، كانت من بين الدول الأوروبية الأكثر تأخرا من حيث المساواة. فماذا حدث؟ لقد كان هناك حراك للطبقة العاملة التي حصلت على حق الاقتراع العام، والتي تولت السلطة بعد أن فازت بانتخابات 1932، وحافظت عليها إلى حدود الثمانينات، حيث وضعت نظاما مكن من الحصول على مستوى جيد من المساواة، والتي جعلت قوة الدولة السويدية في خدمة مشروع سياسي مختلف تماما عن المشروع السياسي السابق.
لقد ذكرت سلسلة من الأمثلة على هذا الأمر في كتابي، فقد بينت مثلا أن الهند ليس البلد المحب للتفاوت الاجتماعي منذ قرون كما أراد المحتل البريطاني وصفه، بينما نجد أنه هو من ساهم في تكريس النظام الطبقي الذي لم يكن متجذرا بشكل واضح كما نتخيل قبل دخول الاحتلال. والهند اليوم تسعى إلى تطوير أنظمة تساعدها على تقليص اللامساواة. هناك الكثير مما يمكن ان نتعلمه من كل هذه الاختلافات.
شخصيا أنا أركز كثيرا على دور الحراكات الاجتماعية، والسياسية، والفكرية التي تمكِّن من تحقيق التحولات على مستوى النظام الاقتصادي والنماذج السياسية بشكل أسرع مما تحاول الخطابات المسيطرة عبر العصور إقناع الناس به، حيث تقول: “لا شيء سيتغير، لا شيء أبدا يمكنه أن يتغير”، فالتاريخ يثبت عكس هذا. أعتقد أن نفس هذا الأمر سيقع في المستقبل، وأعتقد أن إحدى الطرق الأقل سخافة للتحضير للتغيير هي أيضا دراسة كل مسارات الماضي التاريخية واستخدامها كذخيرة للأفكار التي يمكننا أن نستخلص منها موارد الخيال والتعبئة للمستقبل.
نشر هذا الحوار مع الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي بموقع فرانس أنفو: