في مؤلف[1] كان له صدى كبير في ألمانيا، يقترح شاب نابغة في الفلسفة نسقا جديدًا. إن الادعاء الحالي للعلماء بإدراك الواقع بأكمله ينكر بشكل خطير البعد الروحي للإنسان.
لحظة قراءتك، يبدو أن سبينوزا كان مخطئًا، وديكارت كان يهذي، وليبنز لم يواصل عمله إلى نهايته … مثل هذه الأحكام القطعية غير عادية هذه الأيام في عمل فلسفي. ما خطبك؟
إن تقديس المفكرين الموتى العظماء، كما هو الحال في العديد من الجامعات الأوروبية، أمر سخيف. هذا ما يسميه الفيلسوف الأمريكي لويس جوردون[2] “تيوديسيا النص”: نعتبر أن المؤلفين الكلاسيكيين لا يمكن أن يخطئوا. ذلك أنه عندما تكون كتاباتهم لا تحمل أي معنى، فإن الخطأ يقع على عاتقنا الآخرين، البشر الفقراء، غير القادرين على فهمهم … الفلسفة لا يمكن اختزالها في تاريخها.
لذا فأنت ببساطة تقترح نسقا جديدًا!
في الواقع، أقوم بتطوير نسق فلسفي جديد، بالمعنى التقليدي للكلمة. أرى عملي كمحاولة لتحسين صورة الفلسفة. أنا لست الوحيد الذي يفعل ذلك، بالطبع. نحن نعيش في وقت من التجديد، مع مفكرين مثل مارثا نوسبوم (Martha Nussbaum)، وروبرت بيبين (Robert Pippin)، جوديث بتلر (Judith Butler)، جون سيرل (John Searle)، جوناثان لير (Jonathan Lear)، توماس ناجيل (Thomas Nagel)، آلان باديو (Alain Badiou)، كوينتين ميلاسو (Quentin Meillassoux) أو سلافوج جيجيك (Slavoj Žižek).
على عكس العديد منهم، يمكن فهم تفكيرك بشكل كبير، كما يتضح من نجاح كتابك. هل الوضوح ميزة أساسية للفيلسوف؟
الوضوح والحقيقة هما الركنان الأساسيان لفلسفة تستحق اسمها، كما لاحظ بالفعل ديكارت (الذي لم يكتب فقط السخافات، بعيدًا عن ذلك …). يجب أن يدعم كل منهما الآخر عند تطوير تفكير ما. إن المُنظِّر الذي لا يعبر بوضوح عن فكرة ما، فإنه لا يقول في الواقع شيئًا على الإطلاق، حتى لو كان يرغب دون شك أن يعامل كمفكر عميق. فالفلسفة ليست معرفة تقنية وباطنية، ولكنها توضيح للمفاهيم الأساسية التي تستخدم للأسف في كثير من الأحيان بنوع من الخلط، ليس فقط من قبل الفلاسفة، ولكن من قبل الجميع. على سبيل المثال مفاهيم “الروح” و”الضمير”، أو “الحقيقة”، و”المعرفة”، و”الواقع” …
أو مفهوم “العالم” أيضا، لأن العنوان الخاص بمؤلفك يعرض على الفور مقصدك: “العالم” غير موجود؟
في الواقع، أعني بكلمة “العالم” إطارا يشمل الكل، أكبر إطار ممكن إذن. السؤال المطروح أولاً ماذا نعني عندما نقول أن هناك شيئا ما موجود. هناك على سبيل المثال العديد من الأعداد الطبيعية الصحيحة بين 3 و123، وهناك أيضًا رئيس وزراء في بريطانيا، والبراكين على سطح الأرض وحتى السحرة في بعض القصص. ولكن هل هناك حيز يظهر فيها كل ما ذكرته للتو؟ لا. إذا كان موجودًا، فيجب أن يظهر في مكان ما. ما أقصده بــ”الوجود” هو في الواقع ظهور في مجال -ما أسميه “حقل المعنى” (“champ de signification”). تظهر البراكين في حيز الكواكب والأرقام في سلسلة الرياضيات والانتخابات في النظم السياسية. ولكن لا يوجد حيز يمكن أن يجتمع فيه الجميع. بتعبير أدق: إذا كان موجودًا، إذا ظهر كل شيء في “العالم”، فأين سيظهر العالم نفسه؟ في ذاته؟ هذا مستحيل. أو في شيء آخر. وإذن فهذا الشيء الآخر سيكون أكبر، وهو ما يجب أن يطلق عليه “العالم”، وهذا سوف يعيدنا إلى طرح السؤال السابق نفسه مرة أخرى.
ماذا تقصد بمصطلح “حقل المعنى” الذي ذكرته للتو؟
مرة أخرى، أعرّف الوجود على أنه الظهور في حيز ما. تكمن مشكلة هذا المصطلح “الحيز” (domaine) في أنه ينطبق في المنطق الحديث على ما يمكن تكميمه رياضيا. ولكن ليس كل شيء على هذا النحو: لا الحب ولا جمال أفلام الموجة الجديدة، على سبيل المثال … لذلك أفضل الحديث عن “حقول المعنى”. أذكر أن هذه الحقول حقيقية. إنها ليست إسقاطات إنسانية على واقع مادي لا معنى له.
إنك ترفض اتجاهين متعارضين، كلتاهما خاطئين في نظرك: الميتافيزيقيا والبنائية. لماذا؟
يمكن تعريف “الميتافيزيقيا” بأنها محاولة لتطوير نظرية للكلية (totalité). إنها تدعي وصف حقيقة العالم. ليس كما يبدو لنا، ولكن كما هو في حد ذاته، بشكل مستقل عنا. البنائية (constructivisme) هي رد الفعل (المفرط) على هذا النهج: فهي تؤكد، كما يوحي اسمها، أننا “نبني” الواقع، وأن ما هو موجود فقط هو هذه المنتجات من فكرنا، وأن العالم له صلة بافتراضاتنا الاجتماعية والعلمية، والفكرية … ما بعد الحداثة هي شكل من أشكال البنائية. إنها محاولة، بعد فشل الأيديولوجيات المهدوية الكبرى، لفتح صفحة جديدة، لكسر التقاليد بشكل جذري. لكنها من خلال ادعائها بإنقاذنا من كل أوهامنا القديمة، فإنها تغمرنا في وهم جديد: وهو أن كل شيء مجرد وهم.
أين ترتب العلماء الكبار مثل الفيزيائي ستيفن هوكينج (Stephen Hawking) أو عالم الأحياء ريتشارد دوكينز (Richard Dawkins)، الذين لست لطيفا معهم؟
بالأحرى بين الميتافيزيقيين، حتى لو كان دوكينز بنائيا عندما يؤكد أن الإنسان قد ابتكر الله أثناء تطوره. يحدد كل من هوكينج ودوكينز وجود العالم – أي، تلك الكلية الأسمى التي أقول شخصيا أنه لا وجود لها- مع الكون، وبكلمات أخرى مع الواقع المادي. بالنسبة لهم، لا يوجد سوى ما يمكن فهمه من قبل العلوم الطبيعية، باستخدام ماسح ضوئي للمخ، أو مشرط أو مجهر. ومع ذلك، هناك العديد من الأشياء التي لا وجود لها في “الكون”: المستقبل، والأرقام، وجمهورية ألمانيا الاتحادية، وأحلامي … لا نفهم “بروست” (Proust) بشكل أفضل عندما نتعرف على منطقة الدماغ التي يتم إثارتها عند قراءته. لفهم بروست أو ماتيس (Matisse) أو المسلسل التلفزيوني Les Sopranos، عليك الغطس في العمل الفني أو الأدبي وتاريخه وتاريخ مؤلفه وعصره. الفن هو مثال جيد على اختزالية بعض العلميين. يستخدم العمل [الفني، الأدبي] مادة (حجر، قماش، ورق، إلخ) ويحوله: إنه يعطي معنى لم يكن موجودًا. يرفض العديد من العلماء التفريق بين كتلة من الرخام (مجموعة غير متمايزة من الذرات بالذات) وتمثال الشفقة لمايكل أنجلو.
لذلك تقترح ما أسميته “واقعية جديدة” …
في اعتقادي أن كلا من الميتافيزيقيا والبنائية مخطئتان تمامًا. في رأيي: الحقائق أو “حقول المعنى” التي نواجهها هي دائمًا في الوقت نفسه مستقلة عنا و(جزئيًا) نساهم في تشكلها. العالم ليس حصريًا كيان دون متفرج حسب الميتافيزيقيا، ولا هو حصريًا كيان المتفرج العزيز على البنائية. “الواقعية الجديدة” هي عقيدة تؤكد حقيقة قناعاتنا وعقولنا وأفكارنا، الموجودة تمامًا مثل حرائق الغابات أو زجاجات الخمر أو الفوتونات. إنها تفترض أن أفكارنا حول الوقائع موجودة بنفس طريقة وجود الوقائع نفسها.
هل يمكننا القول أنك بذلك تعيد الاعتبار للامادي، الخيال؟
تماما! يجب علينا أن نحلل ونصف من جديد اللامادي والخيال، تلك الدوائر التي نعتبرها اليوم أوهام.
لكن حتى لو افترضنا أن الحلم موجود بنفس طريقة وجود الكون المادي (شجرة، على سبيل المثال)، فهل وجوده هو بنفس وجود درجة الواقع؟ أليست هذه الحقيقة المادية التي ترفض أن تختزل العالم إليها على الرغم من ذلك هي أكثر واقعية من كل الحقائق الممكنة؟
في نظري، إن هذا الخطاب حول درجات الواقع غير مؤسس. لنأخذ مثالاً بسيطًا: لنفترض أن يسوع الناصري لم يعش أبدًا، لكنه اخترع لاحقًا. سيكون إذن مجرد فكرة. ومع ذلك فهي فكرة أكثر عظمة من مجرة بعيدة. فكرة أكثر واقعية. إذن درجات الواقع هي نسبية فقط. مثال آخر: كان لدي كابوس والتحليل النفسي يكشف لي القوى التي أثارتني وحركتني لأسابيع. فهي تماما واقعية. الأفكار حقيقية وعلى الأقل بنفس أهمية الجسد.
للعودة إلى أطروحتك التي تقول إن العالم غير موجود، فإنك توضح أنها ليست سلبية بشكل بحت. فهي أيضا خصبة. في ماذا؟
كان يُعتقد أنه إذا لم يكن العالم موجودًا، فلا يوجد شيء. هذا غير صحيح. لذلك علينا أن نعيد التفكير في أشياء كثيرة، ونرى ما الذي جعل قبولنا الأعمى لوجود العالم يطمس مفاهيمنا. أعتقد على سبيل المثال أنه يمكن للمرء أن يتجاوز مشكلة التعارض بين الروح والجسد (وبالتالي الثنائية الديكارتية) أو مشكلة العدمية، لأن كلاهما يفترض ضمنيًا كلية عليا. ما أقترحه هو التعددية الأنطولوجية، أي القول بأن هناك عددًا لا حصر له من حقول المعنى، وبالتالي، طرق مختلفة للظهور بالنسبة للكائنات، مثل اليد أو تكتل الذرات، … أذكر أن هذه التعددية لم ينتجها الناس، ولكن هذا العدد اللانهائي لحقول المعنى كانت موجودة دائمًا وقد تم إثراؤها ببساطة بواسطة حقول جديدة من المعنى مثل تلك التي أنشأها الناس.
إذا كان “كل شيء موجودًا” إلى حد ما، ألا تخشى أن تتهم بــ ” النسبوية”؟
يجب أن نميز هنا بين الوجود والحقيقة والقيمة. كانت الديكتاتوريات الشمولية موجودة وما زالت قائمة، لكن يجب ألا تكون موجودة. كما توجد أفكار خاطئة وأوهام وهذا لا يجعلها مع ذلك حقيقية. يجب وضع كل عنصر في حقل المعنى الصحيح.
توفر نظريتك حول “حقول المعنى” إطارًا لمقاربة العالم، لكن، أليس هذا الإطار فارغًا؟ أليس هو خطاب بحت؟ ما هو الجديد الذي تتيحه نظريتك؟
كما قلت، فهو يسمح بالتخلي عن فكرة العالم، عن كلية أعلى. في الحياة اليومية، كما هو الحال في العلوم، غالبًا ما نكون أحاديين ونؤمن بكلية شاملة أو إجابة مطلقة لأسئلتنا واحتياجاتنا. بتخلينا عن هذا الموقف، نسمح لإمكانيات غير مسبوقة أن تتكشف، بما في ذلك في المجال العلمي. لدينا أداة جديدة لنقد الإيديولوجيات والبدء في تجديد التنوير في المشهد الديموقراطي لما بعد الحداثة.
يجب علينا، على سبيل المثال، التخلي عن هذه الفكرة التي يقوم عليها تدريس الطب وعلم النفس، ولكن أيضًا جزء من حياتنا السياسية: تحت بشرتنا، نحن في الواقع مجرد شبكة عصبية. هذا ما أسميه “خيال الأخطبوط العصبي”: كما لو كان هناك عصب-حيواني (neuro-animal) أو عصب-فضائي (neuro-alien) قد اختبأ في جمجمتنا ويستخدمنا للتكاثر! هذه سخافة. يبقى الإنسان دائمًا جزءًا من روح، ولديه تجربة غريزية للواقع، وهي حقيقية. علينا أن ندرك ذلك مرة أخرى. أرى شكلاً جديدًا من الاغتراب. تسمح لنا الفلسفة بتحليله وتحاول علاجه.
أنت تعطي مكانًا مهما للدين في مؤلفك. كيف تتصور تعايشه مع الفلسفة؟
يجب أن تعيد الفلسفة التفكير في الدين بعقلانية. أسوأ الانتقادات للاعتقاد التي أعرفها، بل أسوأ من تلك التي صيغت في العصور القديمة، تنبع من دوكينز (Dawkins) أو دينيت (Dennett). تلك الفكرة التي تعتبر الدين مجرد خرافات غير عقلانية ولا يمكن الدفاع عنها. وهذا تجاهل تام للاهوت أو للجودة العالية للنصوص المقدسة. حتى لو كان بوسع المرء ومن واجبه أحيانًا، أن ينتقد المؤسسات الدينية، وحتى لو سعينا لتحقيق العلمانية، فإنه يجب على المرء أن يأخذ الدين على محمل الجد لفهمه.
ما هو على المحك هو الإنسان وموقفه من فكرة أن كل ما هو موجود لم يتشكل من طرفه. لم يتم تشكيل العديد من الوقائع، مثل البراكين أو المناخ على الكواكب البعيدة، من قبل البشرية. هذا هو السبب في أنه يمكن أن يكون لدينا انطباع بأننا منغمسين في بيئة خالية من المعنى. الدين يفترض أنه رغم ذلك، هناك شعور حقيقي موضوعي، أن الإنسان ليس غريباً في كل مكان. بمعنى آخر، إن الدين هو ذلك الشعور بأن الإنسان يتوافق مع بيئته، وأنها دائمًا في جزء منها أيضا تتأثر به.
ترجم الحوار حسن مصباح : أستاذ جامعي كاتب ومترجم مغربي
===============================================
[1] المقصود هنا هو كتاب: ” لماذا العالم غير موجود”
[2] لويس جوردون خبير في الفلسفة الإفريقية وفي قضايا العرق والعنصرية.