حين يصرّح بنيامين نتنياهو بلا مواربة: «أشعر أنني في مهمة تاريخية وروحانية… فأنا مرتبط جدًا برؤية إسرائيل الكبرى التي تشمل فلسطين وجزءًا من الأردن ومصر»، فإن الأمر يتجاوز حدود تصريح سياسي عابر أو خطاب موجَّه للاستهلاك الإعلامي. فهذا التصريح يفتح نافذة على البنية العميقة للمشروع الصهيوني، كاشفًا أن جوهر الصراع لم يكن يومًا مجرد تنافس على حدود جغرافية أو موارد اقتصادية، بل هو صراع على العقيدة والهوية والرواية والمشروع الحضاري.
القراءات الوضعية والبعد الحضاري المغيَّب
تكفي هذه الجملة الصريحة وحدها لنسف طيف واسع من التحليلات العلمانية–المادية والرؤى الواقعية–العقلانية التي حاولت، منذ عقود، اختزال الكيان الصهيوني في صورة “دولة علمانية حداثية” تتحرك وفق اعتبارات الأمن والمصلحة المادية، أو تفسير مشروعه في إطار منطق التوازنات الإقليمية والبراغماتية السياسية. إذ يتضح أننا أمام رئيس يقدّم نفسه زعيمًا دينيًا وقائدًا مُلهَمًا في مهمة تاريخية–إلهية لتحقيق الحلم الصهيوني الكبير.
إن تجاهل البعد الثقافي–الحضاري في قراءة المشروع الصهيوني يمثل شكلاً من أشكال التواطؤ المعرفي مع روايته أو الغفلة التأويلية عن جوهره؛ إذ يؤدي إلى إفراغ الصراع من عمقه الحقيقي وتحويله إلى نزاع حدودي وتهديد أمني يمكن “تدبيره” عبر تسويات تقنية أو مفاوضات محدودة الأفق.
يفرض تصريح نتنياهو على التحليلات الجادة أن تتجاوز أسر النماذج الوضعية الضيقة، وأن تتبنى مقاربة “جيوحضارية” مركبة تنظر إلى الصراع في شموليته بوصفه:
- صراعًا دينيًا–حضاريًا: يعيد صياغة الجغرافيا والتاريخ استنادًا إلى نصوص مقدسة وتأويلات دينية.
- مشروعًا استعماريًا–إحلاليًا: يهدف إلى محو الشعب الفلسطيني وإعادة تشكيل المجال السياسي والديموغرافي.
- رهانًا جيو–سياسيًا: يتقاطع مع مصالح القوى الكبرى ويعيد توزيع موازين الهيمنة في المنطقة.
إن المسكوت عنه في خطاب “إسرائيل الكبرى” هو تكريس التصفية النهائية لـمشروع “الدولة الفلسطينية“ وتعزيز خيار تغييب فلسطين، سواء التاريخية أو تلك التي تستند إلى حدود 1967. والأخطر من ذلك يكمن في السعي إلى إحداث اختراق قيمي وفكري عميق في المجتمعات العربية يجعل الكيان مقبولًا عند الشعوب، مما يخلق حالة نفسية–أخلاقية وحضارية من تقبّل الاحتلال والاستسلام لواقع تمدده وقوته، مع الإلغاء الشعوري والواقعي لفلسطين: فكرةً وعقيدةً وأرضًا وشعبًا وقضيةً جامعة.
الأهداف الاستراتيجية بعد 7 أكتوبر
تتجاوز الرؤية الاستراتيجية الإسرائيلية حدود الردع العسكري المباشر، لتتبلور في مشروع شامل يرمي إلى فرض التفوق والسيطرة وإعادة تشكيل المجال الجيوسياسي في المنطقة، وفق منطق يخدم مصالح المنظومة الإمبريالية الغربية ويعزز تحالفاتها مع “الصهيونية الغربية” و”الصهيونية–اليهودية” (ذات الطابع الديني–القومي). وهنا نستحضر تصريح ترامب حين قال:”مساحة إسرائيل تبدو صغيرة على الخريطة، ولطالما فكّرت كيف يمكن توسيعها”.
ويمكن رصد هذه الأهداف في مستويات أربعة:
- ترسيخ التفوق الأمني والتكنولوجي: صياغة البيئة الأمنية باستمرار عبر ترسيخ تفوق استخباراتي وتقني غير مسبوق.
- فرض الهيمنة الإقليمية: سحق أي محاولة لبناء قدرات علمية أو استراتيجية عربية–إسلامية مستقلة قد تهدد وجود المشروع الصهيوني.
- إجهاض أي نهوض حضاري عربي–إسلامي: عبر تفجير الصراعات الطائفية والهوياتية وتعميق التجزئة والتوترات الداخلية.
- تفكيك القوة الناعمة للشعوب: من خلال إعادة تشكيل الوعي الجمعي العربي–الإسلامي وتطبيع الوجود الصهيوني وتهميش أي سردية تحررية بديلة.
إن الأهداف المذكورة لا تعدو أن تكون خطوات تتكامل فيما بينها في اتجاه أوسع لتشكل بنية تدميرية موحدة، إذ إن التفوق الأمني والتكنولوجي والهيمنة الإقليمية وإجهاض أي نهوض حضاري، أدوات مترابطة في مشروع شامل للهيمنة الحضارية، وبذلك يصبح مشروع “إسرائيل الكبرى” هو الإطار الجامع الذي يوظّف هذه المستويات الأربعة لإعادة هندسة المنطقة وإخضاع شعوبها.
مشروع إسرائيل الكبرى وإسرائيل القطب
كل ذلك يقتضي وعيًا استراتيجيًا شاملًا بآليات الاشتباك مع مشروع إبادِي–إحلالي يسعى إلى الهيمنة وتقسيم المنطقة، والاستمرار في تنفيذ الإبادة والتهجير والمزيد من الاستيطان، في أفق بناء ما يُعرف في الأدبيات الصهيونية باسم “مشروع إسرائيل الكبرى“ أو “إسرائيل التوراتية”، وهذا يعني إعادة تأسيس ما يمكن تسميته بـ “إسرائيل القطب” التي ستسعى إلى التسيد الشامل للمنطقة وإخضاع جميع القوى الفاعلة فيها.
إن هذا الكيان لا يُخفي طبيعته الاستئصالية؛ فهو يمثل “الشر المطلق”، لأنه ينهل من منطق القوة المتوحشة والانتقام الديني–الحضاري، ويقوم على رفض شامل لكل منظومة قيمية أو أخلاقية أو إنسانية، باستثناء منطق التفوق العنصري وهيمنة المركز الاستعماري وتأليه الذات.
إن خطابات نتنياهو وممارساته، قبل السابع من أكتوبر وبعده، تمثل مدخلا رئيسا لقراءة المشروع الصهيوني من داخله، بعيدًا عن الأقنعة الدبلوماسية والتبريرات المراوغة. وعلى النخب الفكرية العربية أن تدرك أن مواجهة هذا المشروع ليست فقط عسكرية أو تفاوضية، بل معركة وعي حضاري-قيمية تهدف إلى إعادة بناء الذات وتحقيق المناعة الروحية والفكرية والرمزية للأمة.
لا يمكن فهم السياسات الإسرائيلية إلا ضمن مشروع حضاري مركب للهيمنة، يتغذى على التفكك العربي وغياب مشروع نهضوي جامع. إن مواجهة هذا المشروع عبر موازين القوى العسكرية وحدها تظلّ قاصرة مهما بلغت أهميتها، إذ يتطلب تفكيك بنيته الرمزية والوظيفية والقيمية وكشف مرتكزاته الفكرية المؤسسة له.
غزة: أيقونة الصمود الحضاري
في مواجهة مشروع إبادِي لا يعترف بحقوق الفلسطيني، بل ينكر وجوده كليا، تقف المقاومة الطوفانية بوصفها تعبيرًا عن إرادة الحياة وممانعة الظلم والاستكبار ورفض التهويد والاحتلال. في هذا السياق، لا يمكن الاقتصار في رؤية الصهيونية بوصفها قوة مادية فحسب، وإنما يتعين إدراكها بوصفها منظومة رمزية وسياسية وحضارية تعمل على التحكم في التحولات واحتكار السردية وتفكيك المعنى. وهنا تبرز غزة أيقونةً للعناد الإنساني والصمود الأخلاقي، أمام آلة تسعى إلى إنكار التاريخ وتدمير الذاكرة، وتزوير السردية، ومحو حقوق الشعب الفلسطيني واستئصاله من وجوده المادي والمعنوي. غزة وإن كانت رقعة جغرافية محاصَرة، فهي صارت رمزًا كونيا للعصيان الإنساني ضد الاحتلال والتجويع الإبادي والانكسار الأخلاقي، الذي يسعى إلى تشييء الإنسان المستعمَر وتجريده من إنسانيته، كما يشير فرانز فانون.
ومن ثم وجب التنبيه إلى أن الصهيونية لا تكتفي باغتصاب الأرض، بل تشن حربًا معرفية سردية عبر اختطاف اللغة وتزييف المعنى وإفراغ الروح، كما تهدف إلى إعادة تشكيل وعي الفلسطيني والعربي من جهة، والسعي إلى صهينة العالم رمزيا ومعرفيا من جهة أخرى، وذلك عبر التحكم في البنيات العميقة للسرديات الكبرى التي تأسست عليها الحداثة الغربية نفسها. وبالتالي، تقدم غزة فرصة تاريخية لتحرير الضمير الغربي من الصهيونية، وهو ما يمثل في جوهره تحريرًا للحداثة ذاتها من نزعتها الإبادية.
وهنا تصرخ غزة بكل ألم وبما يشبه اليقين: إن الصمود فعل روحي–حضاري قبل أن يكون ماديًا، وإن الفلسطيني ليس ضحية مستسلمة، بل ذات مقاومة تتحدى هندسة الإبادة والاستيطان. غير أن هذه الصرخة لا تخاطب العرب والمسلمين وحدهم، بل تضع الضمير الغربي أمام امتحان تحرره من الارتهان للصهيونية، بوصفه شرطًا لإنقاذ إنسانية الحداثة نفسها من السقوط الأخلاقي، وإعادة وصلها بقيم العدالة والكرامة والحرية.
خاتمة
إن فلسطين اليوم تعيد تصحيح البوصلة الأخلاقية والتحررية للأمة بأسرها، لتؤكد أن القضية معركة وجود وكرامة وهوية وعقيدة. فالمستعمِر لا يسعى إلى الانتصار العسكري فحسب، بل إلى إعادة تشكيل وعي المستعمَر وتحويل الخوف من بطش الاحتلال والندم على مقاومته إلى مادة وراثية في ذاكرة الأمة الجماعية. هنا يتجلى جوهر المشروع الصهيوني الاستراتيجي: إلحاق الهزيمة بالشعوب نفسيًا وحضاريًا قبل هزيمتها عسكريًا، بما يحقق له الردع الثقافي والنفسي وإحكام السيطرة الرمزية في المنطقة.
هكذا يظهر أن طرح مشروع “إسرائيل الكبرى” يتجاوز كونه خريطة جغرافية توسعية، إلى حلم توراتي وسردية لاهوتية تعبويّة، تنتعش بها الصهيونية روحيا ورمزيا وتتجدد فكريا وحضاريا، وتسهم في التعبئة الذاتية والتحريض الإيديولوجي لأتباعها، ضمن مشروع حضاري إبادي يستهدف إلى إعادة صياغة المنطقة وفق منطق استئصالي شامل للفلسطينيين أولا، ثم باقي المقاومين والممانعين في عالم المسلمين، ليمتد إلى جميع مكونات الأمة العربية والإسلامية.
ومواجهة هذا المشروع تقتضي وعيًا استراتيجيًا شاملاً بآليات الاشتباك، حيث المعركة في جوهرها معرفية-حضارية، تتطلب استعادة المشروع التحرري النهضوي في بعده الحضاري، وربط الوعي بالفعل، لمجابهة صناعة الخوف والندم ومنظومة التخويف باعتباره صناعة استعمارية منظمة، وتكريس أن المقاومة ليست خيارًا مؤقتا، بل قدرًا حضاريًا ونموذجا طوفانيا ممتدا للوقوف أمام موجة الشر المطلق. فالمعركة الحقيقية الحاسمة للأمة تتجلى في كسر سرديته قبل كسر قوته.







