مقدمة:
وصل عبد الوهاب المسيري إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1963، ودام استقراره بها حوالي ست سنوات حيث غادرها لسنتين قبل أن يعود إليها سنة 1971، استطاع خلالها أن يسجل كل ما كانت تلاحظه عيناه، بل وعكف على تحليله ووضعه في سياقه، رغبة منه في تفسيره وربما مواجهته. وكان مما أثار انتباهه في المجتمع الأمريكي؛ جنوح مواطنيه إلى اللذة والمتعة والسعادة اللحظية، تحققها لهم وسائل الإنتاج بالزيادة في الإنتاج، وتصنعها لهم الآلات والمصانع، وتجملها لهم وسائل الإعلام والإعلانات..واستغرب من قدرة هذه الوسائل مجتمعة على إدخال المواطن الأمريكي في دوامة من المادية والاستهلاكية، وفي سلسلة لا تنتهي من الرغبات. فقرر تحليل تلك المعطيات تحليلا واقعيا دقيقا، لتفسيرها فكريا وفلسفيا.
ومع تزايد الحالات والأمثلة التي أصبحت جزءا من مشاهداته اليومية، بدأ يقف على أجوبة لمجموعة من الأسئلة التي رافقت استقراره في المجتمع الأمريكي، خاصة تلك التي يكون فيها طرفا في بعض الأحيان. أدرك المسيري بعد استقراء طويل، أن الإنسان الأمريكي والمجتمع الأمريكي بصفة عامة يخضع دون شعور منه لمنظومة فكرية براجماتية رأسمالية مادية ممنهجة، جعلته ينطلق من مبدأ واحد ووحيد في الحياة، يقوم على الحلم بتحقيق السعادة الآنية أو اللحظية أو الدنيوية من خلال إشباع رغباته وتلبية حاجاته الجسدية، وهو الأمر الذي سماه المسيري “الفردوس الأرضي” باعتباره تلك السعادة والمتعة التي تستحق أن يجتهد ويعمل الأمريكي اليوم كله من أجل الوصول إليها،وهذا أمر قد يبدو طبيعيا وعاديا، لكن غير العادي هو أن الأمريكي في طريقه لتلبية حاجياته وإشباع رغباته… لا يــــهمه أن يكون ذلك على حساب الآخرين، ولو يصل الأمر عنده إلى قتلهم وإبادتهم والقضاء عليهم…إذ لا يوجد عنده أي وازع داخلي يمنعه من ذلك، ولا أي وازع أخلاقي أو ديني يجرم فعله ذاك، ولا حتى ضمير إنساني يؤنبه..بما جعل المسيري يدرك أن التقدم الذي حققه الإنسان والمجتمع الأمريكي على السواء، كان بيطن مفاجآت بنيوية من العيار الثقيل، ويخفي وراءه أزمات فكرية من ذوات الخلل القيمي والأخلاقي…وقد دفعته هذه الملاجظات إلى التساؤل حول موقع التاريخ في المنظومة الفكرية والإيديولوجية للرأسمالية والبراجماتية الماديتين،
أولا: سياق وظروف الإنتاج: من الصراعات الإيديولوجية إلى المعايير الأخلاقية
يبدأ المسيري كتابه الموسوم ب”الفردوس الأرضي” بالإشارة إلى السياق الذي دفعه إلى كتابته، وهو العلاقة بين الطبيعة والتاريخ في تصور الإنسان والتعامل معه؛ الأولى باعتبارها البيئة الطبيعية الأصلية التي سبقت وجود الإنسان، والثاني باعتياره تلك البيئة التاريخية التي أنشأها الإنسان بالموازاة مع عالم الطبيعة وقوانينها، رغبة منه في تجاوز تلك القوانين من خلال قوانين أخرى من إنشائه وهذا ما يسميه المسيري بالتاريخ. وعليه فالتاريخ حسبه هو وعي الإنسان ومعرفته بوجوده، الذي يتحقق بفعل تراكم خبراته في مجابهة الطبيعة،ولعله هنا يشير إلى الصراع معها، الذي أفضى بالإنسان إلى ما يسمى عند المسيري ب” الوجود الإنساني” حيث يقول مفسرا ذلك “أن يعيش الإنسان داخل جسده الطبيعي يحمل وعيه التاريخي”[1].
هكذا يمكن أن نفهم أن سياق كتابة المسيري هذا الكتاب؛ جاء في ظروف تاريخية تميزت بالصراع الإيديولوجي بين الفكر الاشتراكي والشيوعي الشرقي من جهة، والفكر الرأسمالي الغربي من جهة ثانية، وما رافق ذلك من اصطفافات إيديولوجية وانقسامات فكرية وفلسفية. ولعلنا نشير إلى أن هذا هو السياق العام على العموم، لكن بالمقابل من ذلك فإن الكتاب جاء كرد على تزايد انتشار وطغيان الفكر المادي على حساب إنسانية الإنسان. وبالتالي فإن السياق والظروف الخاصة التي تولد عنها هذا العمل، ترتبط أساسا بمواجهة المد الرأسمالي، والانتشار السريع للفكر البورجوازي والبراجماتي الذي يلغي -في تعامله مع الذات الإنسانية، من أجل تحقيق السعادة الإنسانية- القيم والأخلاق الإيجابية والروح الإنسانية..وذلك عبر انتقادها من داخل الفكر القيمي كما هو مبثوث في منظومة الإسلام الفكرية، ثم من خلال المعايير الأخلاقية والتاريخية كما هي في الفلسفة الأخلاقية والتاريخية.
يوضح المسيري هذا السياق أكثر؛ عندما يضع الطبيعة باعتبارها جسدا حيوانيا يعيش فيه الإنسان، مقابل التاريخ غير الحيواني الذي يبنيه الإنسان بالموازاة مع الطبيعة ليتحكم فيها، ويتجاوز قوانينها من خلال قوانين التاريخ الذي يمكن مرادفته بالوعي والمعرفة التي تفضي بالإنسان إلى الوعي بوجوده الإنساني من خلال إدراكه صعوبة العيش بينهما في شد وجذب تم تفسيره بالجدلية المادية عند الماركسيين مثلا، وبكونه مصدر جدلية الوجود الإنساني عند غيرهم كما هو الحال بالنسبة للمسيري.
ثانيا: أطروحة الكتاب: الحضارتان الأمريكية والصهيونية وجهان لعملة الرأسمالية الغربية
يعرض المسيري في كتابه “الفردوس الأرضي” التجاذبات التي يعيشها الإنسان الأمريكي بسبب سيطرة الفكر الرأسالي في المجتمع الأمريكي، وهيمنة النمط البراجماتي على أسلوب العيش، وتأثير ذلك على تكوينه الروحي. ينطلق المسيري في البداية من استقراء ذاتي يؤكد عدم نجاح الرأسمالية؛ وما يترتب عنها من براجماتية، ومادية، وبورجوازية في تحقيق السعادة، والحلم، والكمال الإنساني أو ما سماه المسيري “الفردوس الأرضي”، واتخذه عنوانا لكتابه هذا. ويتجاوز المسيري ذلك إلى القول؛ بأن هذا الفكر الرأسمالي يوصل الإنسان إلى الجحيم،لأنه يقوم على إغفال الجانب القيمي والتاريخي والروحي للإنسان، ويكتفي بإشباع رغباته المادية وتلبية حاجياته الغريزية والشهوانية المرتبط بجسده وحسب.
لكي يؤكد المسيري هذا الطرح، ويبرز صحة أطروحته هذه، ويسفه فكرة الرأسمالية المادية في تحقيق الفردوس الأرضي، وبالمقابل من ذلك؛ لكي يقترح تصورا متوازنا، وفلسفة توفيقية، ونظرية وسطية؛ احتاج إلى صفحات لا تتجاوز المائتين (160 صفحة فقط) وزعها على أربعة أبواب دقيقة عرض فيها نتيجة استقراءاته ودراساته وانطباعاته حول تأثير أو أثر الفكر المادي والرأسمالي والبورجوازي والبراجماتي في إخراج المواطن الأمريكي من سياقه التاريخي، والتعامل معه على أنه عنصر طبيعي معزول عن التاريخ والقيم والأخلاق، وحول دور الصهيونية اليهودية في الوصول به إلى هذه النتيجة، وتوجيه المجتمع الأمريكي إليها.. وقد بدأ المسيري هذه الأبواب بالإشارة إلى علاقة البراجماتية الأمريكية والبراجماتية التلمودية، واعتبرها علاقة وطيدة ومترابطة، حيث أبرز كيف أن وجدانَــــيْ الحضارتين الأمريكية والصهيونية متشابهان، رغم قصر عمر الأولى مقارنة بالتاريخ الطويل والقديم للحضارة اليهودية، وأعطى أمثلة عديدة لهذا التشابه، لكنه ركز على أبرزها مثل التقائهما في رفض “التاريخ بعناد وإصرار” أو على الأقل في تحويله إلى “أسطورة متناهية البساطة”. على أنه قدم توضيحات وافية حول بدايات التاريخ الأمريكي، وبَـــــــيّــــــــنَ دور البيوريتانين[2]/ التطهيرين في تبرير “الفتوحات” التوسعية الأمريكية بسبب رفضهم لأي رؤية تاريخية، وتأثيرهم ومفعولهم في المجتمع والوجدان الأمريكي، وهو الرفض نفسه الذي يتبناه الوجود والوجدان الصهيوني في أمريكا، ليصل التشابه بين الحضارتين عند المسيري حد الالتقاء في فكرة الاستيطان التي بنتا عليها حضارتيهما، وتحويل التاريخ إلى أسطورة متناهية البساطة بررتا من خلالهما “الفتوحات” التوسعية الأمريكية والصهيونية. فالحضارة الأمريكية أبادت الهنود الحمر واستوطنت وطنهم الذي تحول بفعل البراجماتية إلى وطن للأمريكان، والحضارة اليهودية احتلت واستوطنت أرض فلسطين وتلوك تراهات العهد القديم، والتلمود حول أرض الميعاد لطرد الفلسطينين بحق القوة الذي يميل لصالحهم في هذه المرحلة التاريخية، ومتغافلة قوة الحق التاريخي الذي يقف لصالح الشعب والأرض الفلسطينيين. ولعل هذه الاتفاقات والتشابهات بين الحضارتين-وإن كانت تؤكد على مسألة البحث عن الهوية القومية الأمريكية والصهيونية وما رافقها من إشكالات- لم تمنع من المسيري من الإشارة إلى بعض الفروقات بينهما كتلك التي يشير فيها إلى كون البراجماتية الأمريكية متسقة مع نفسها لأنها غير مثقلة بالتاريخ والأساطير فهي غير مبرمجة، {بينما الثانية الصهيونية} مبرمجة ومثقلة بالأساطير والتواريخ المقدسة”[3].
هذه المعطيات كلها تلخص الأطروحة التي أراد المسيري مناقشتها في هذا الكتاب، ويمكن إجمالها في أن فكرة الفردوس الأرضي الذي تبناه الفكر الغربي؛ مجسدا في الرأسمالية والبراجماتية والبورجوازية، إنما هي خرافة/أسطورة مادية في الفكر الأمريكي والصهيوني على السواء، تقوم على رفض التاريخ وما يستلزمه من قيم إنسانية وأخلاقية تضع الحضارتين معا في حجمهما الطبيعي والحقيقي، وهو أنهما حضارتان ساكنتان بسيطتان عنيفتان عنصريتان: اقتصاديا وحضاريا، تحلمان بعالم جديد بريئ بسيط لا يمكن تشييده إلا بالعنف والإبادة: تتبنيان مقولة “أرض بلا شعب، وشعب بلا أرض”.
ثالثا: أهداف الكتاب: البحث عن صيغة حضارية توفيقية بَـــيْـــــــنِـــــيَّـــــــــــة تتحقق في فضاء ثالث يُــكسب هويات جديدة ولا يفقد الهوية الأصلانية
تمكننا قراءة كتاب “الفردوس الأرضي” للمسيري من الوقوف بالرؤية الحضارية والفكرية التي يمكن أن نزعم أن المسيري يتبناها، ويروم ترويجها في الفكر العربي لكي تصبح أسلوبا مقاوما ومتفاعلا (في الوقت ذاته) في التعاطي مع تأبيد نمط الحضارة الغربية، وخاصة الأمريكية والصهيونية. لم يحتج المسيري في هذه الإطار، إلى ترسانة قوية من البحث الأكاديمي والعلمي فقط، بقدر حاجته إلى عنصر المعاينة والتدوين، ومهارة التحليل والتفسير، وأسلوب الرد والمقاومة الفكرية…فهو رغم قراءاته الكثيرة حول الفكر الرأسمالي الغربي والأمريكي، لم يكتف به مرجعا ومصدرا في فهم الحضارة الأمريكية في سياقها الغربي، بل زاد على ذلك عنصر المعاينة والمعاصرة والمعايشة وهي أرقى درجات التوثيق والمرجع؛ إذ مكنته إقامته في الولايات المتحدة –والتي اشرنا إليها في المقدمة- من الوقوف بأهم الدعائم الفكرية والأسس الإيديولوجية، والركائز المعرفية التي يقوم عليها بناء الحضارة الأمريكية، ومن ثم قدرته على فهم أهدافها، واستيعاب غاياتها الفكرية والاقتصادية والدينية والإيديولوجية، والأهم من هذا، تمكنه من فضح أسلحتها الحقيقية واستراتيجياتها الامبريالية –بالمفهوم الفكري لا الجغرافي- ومهماتها الكولونيالية بتعبير الناقد البريطاني ذي الأصول الهندية هومي بابا، والتي استطاعت بموجبها تطويع العالم تحت نظام عالمي واحد، ومن ثم نجاحها في تأبيد النمط الحضاري الأمريكي، والهوية الرأسمالية في المجتمعات العالمية خاصة الثالثية. وهنا يمكن أن نتساءل عن السر وراء هذا “النجاح”، الذي يبدو أن الحضارة الغربية والأمريكية استطاعت تحقيقه في تعميم نمطها وأسلوبها، وهويتها على مجتمعات ذات حضارات عربقة وقديمة وطويلة بمنطق العمر،مع العلم أنها حضارة قصيرة العمر وليست قديمة ولا حتى قوية؟
لا يجد المسيري صعوبة تذكر في الجواب عن هذا السؤال، والتأكيد على أن الحضارة الأمريكية لا تملك مقوماتها الحضارية في ذاتها، ولكنها اكتسبتها أو سرقتها أو بنتـــــها أو طورتها من خلال علاقتها بالصهيونية واليهودية. إذ إنهما عنده متلازمتان ومتشابهتان في نقاط كثيرة لعل أهمها ما أشرنا إليه سلفا من توافقهما الوجداني المتمثل في رفض التاريخ والحدود، والتقائهما في تبني الفكر الامبريالي التوسعي؛ فالأولى(الحضارة الأمريكية) قامت على إبادة شعب آخر(الهنود الحمر) وسلبت أرضه، وانتهت قضيتهما معا إلى الأبد، والثانية (الحضارة الصهيونية) قامت على أنقاض حضارة أخرى (الفلسطينية)، تحت أسطورة “أرض الميعاد” الدينية التي تزاوج بين الأحلام الدينية والأحلام القومية التوسعية…وقد استشهد المسيري في هذا السياق ب”والت ويتمان” و”أوسوليفان” اللذين كانا يؤمنان بالفتوحات التوسعية الأمريكية تحت الغطاء الديني المسيحي، كما هو الحال بالنسبة للكاردينال “سليمان” الذي “كان يسمي الجنود الأمريكيين في فيتنام ب”جنود المسيح”[4]. لكن أهم ما يتفقان فيه؛ هو التشابه في عقلية الريادة من خلال الإحساس بأنهم أصحاب رسالة خاصة، لذلك فهم يقتلون ويخربون و..وهم مرتاحون”، وهي الرسالة التي تذكرنا بفكرة “المهمة الحضارية” التي تبنتها الإمبراطوريات الغربية الامبريالية في خطابها الكولونيالي الموجِّـــــــــــه للحركة الاستعمارية في شرق الكرة الأرضية. كما تذكرنا هذه الرسالة بأسطورة “الرجل الأبيض”[5] في الخطاب الكولونيالي الغربي الذي يتولى تنفيذ تلك المهمة التحضيرية للشعوب المتخلفة، غير أن من يقوم بها هذه المرة (في الحضارتين الأمريكية والصهيونية ) هو ما سماه المسيري “الكاوبوي” [6]و”الحالوتس”.
توضح هذه المعطيات أن الحضارتين الأمريكية والصهيونية؛ متقاطعتان ومغلفتان بفكرة الدين أو الأساطير الدينية؛ الأمريكية بتأثير من الفكر البيوريتاني/التطهيري كما يؤكد ذلك “بيير ميللر” عميد الحضارة الأمريكية، والصهيونية بتأثير من الفكر اليهودي (العهد القديم)؛ لذلك يفسر المسيري التعاطف الحاصل من الأمريكيين مع العقلية والنسق الفكري الإسرائيلي بهذا التشابة بين وجداني الشعبين، وهذا ما جعل المسيري يحذر من توقعات حرب حضارية وعسكرية طويلة بسبب تأثير الأفكار الأسطورية على الوجدان الإنساني وعلى سلوك البشر.
بناء عليه، نفهم بأن الحضارة الأمريكية وكذلك الصهيونية لم تحققا أي نجاح يذكر في مسألة تحقيق التميز المنشود، ولا الهوية العالمية ذات المرجعية الأمريكية والصهيونية المستهدفة، ولا حتى النجاح في الوصول بالمجتمعين الأمريكي والصهيوني إلى مفهوم الاندماج والانصهار والهوية الموحدة..التي تجعل العالم والإسرائيليين والأمريكيين على السوء؛ ينسون التاريخ المضطرب والملييء بالمخازي للحضارتين معا. بما يعني أن ذلك “الكل الأمريكي المتجانس لا وجود له، {وأن} البوتقة المتحدث عنها {لم تستطع} أن تخرج من ذلك الإنسان الجديد البريئ من الشر والتاريخ والمعرفة”[7]. كما نفهم أيضا أن الحضارتين معا لا تزالان متأثرتين بالأوهام والأساطير الرؤى الدينية؛ التي تظهر في فكرة الرأسمالية، وفكرة العولمة، وفكرة البراجماتية، وفكرة البورجوازية باعتبارها الترجمة الفعلية لتلك الأوهام والأساطير، وباعتبارها من جهة ثانية تلك الاستراتيجيات والأساليب الكولونيالية التي تهدف الحضارتان من خلال تبنيــــها إلى هوية إنسانية عالمية موحدة وبسيطة وسهلة قابلة للسيطرة والتحكم والتوجيه، وتقبل كل ما يعرض عليها. ويرجع السبب في ذلك إلى كونهما حضارتان/ مجتمعان استيطانيان من جهة، ولأنهما من جهة ثانية، تقومان على فكرة الفبركة، أو كما يسميها المسيري الفابريكة: فابريكة الإنسان الجدي، وفابريكة أسطورة “الكاوبوي” في الحضارة الأمريكية، و”الحالوتس” في الحضارة الصهيونية. ولأن الوعي بالذات القومية عتد السود والصهاينة ازداد بشكل كبير من جهة ثالثة، حيث أدى إلى تصدع تلك البوتقة الحضارية والهوية الأمريكية الموحدة، خاصة بعد أن سيطر “الواسب” (بروتستانتي أبيض أنكلوساكسوني) على الاقتصاد، وظهور أفلام تترجم عنصريته وقوميته.
لقد دفع هذا الفشل -الذي سجلته الحضارتان- المسيري إلى عقد مقارنة بين الثقافة/الحضارة/الإنسان/المرأة المصرية ونظيراتها الأمريكية على مستوى الأكل وعلاقة الرجل بالمرأة، ودور الأسرة في المجتمعين معا، مقارنة انتهت به إلى الاعتراف “بأن الأسرة الأمريكية والمجتمع الأمريكي حقق الفردوس الأرضي الذي هو في صميمه جهنم السوداء”[8] بما يؤكد رفض الوجدان الأمريكي للتاريخ والتراث وأي فكر منشق عن الواقع، وبالتالي فهو وجدان تسيطر عليه الفلسفة البراجماتية أو الذرائعية. كما دفعه ذلك إلى اتخاذه(الفشل) تبريرا للدفاع عن تصوره للهوية الإنسانية والاقتصادية والثقافية والسياسية…
رابعا: المنهج المعتمد: من التفكيك إلى البناء
استطاع المسيري في كتابه “الفردوس الأرضي” أن يقدم قراءة دقيقة وعميقة للتجربة الحضارية الأمريكية والصهيونية، وللفكر الرأسمالي والنمط البورجوازي، وللصيغة البراجماتية التي تتسم بها الحضارتان الأمريكية والصهيونية معا. قراءة استشرافية تقوم على التفكيك و الهدم بغرض البناء؛ تفكيك البنية الفكرية والتمثلات الذهنية للحضارة الغربية(الأمريكية والصهيونية) في تمثلها وتصورها للإنسان، وكيف يجب أن تكون هويته المادية التي ترفض التاريخ، وذلك من أجل بناء هوية إنسانية تمزج بين الجسد والروح، وبين المادة والقيم وتستحضر التاريخ دون مغالاة وإغراق في الماضوية. وهي الهوية التي سميتُـــها بالهوية الـــبَـــــيْـــــنِــــــيَّـــــة أو الخِــــــلالـــية والتي لا تتحقق إلا في ذلك الفضاء الثالث/ الموقع الثقافي الذي نادى به هومي بابا.
تبنى المسيري لإبراز هذه الهوية الإنسانية المتوازنة (البينية/ الخلالية…) منهجا تاريخيا تحليليا يقوم على وصف وتحليل ظاهرة الحضارة الأمريكية (والصهيونية) القائمة على الإعلاء والرفع من الجانب/العناصر المادية والجسدية في الإنسان، وذلك بناء على عنصر التجربة والملاحظة والمعاينة والمشاهدة، بالإضافة إلى شاهدات حية، وحوارات مباشرة أجراها بنفسه. وقد تمكن المسيري بفضل هذا المنهج التاريخي التحليلي من استعراض أعطاب الحضارة الأمريكية المرتبطة بالقيم، بدءا من رفضها للتاريخ وحدوده من خلال مؤشرات واقعية توضح طبيعة العلاقة بين الإنسان والطبيعة والتاريخ من جهة، وتُـــــبْــــــرِزُ “التناقض الموجود بين العلمانية والديمقراطية والرجعية والمحافظة”[9] من جهة ثانية، وتفسر من جهة ثالثة سيطرة البراجماتية وإلغاءها التاريخ والتراث. كما مكنه المنهج ذاته من إرجاع سبب انتفاء منطق التناقض، والمنطق الجدلي بين الأشياء في الحضارة الأمريكية والصهيونية إلى هيمنة الفكر البراجماتي الذي عمل على تصفية “الفكر الجدلي المتناقض {واستبداله}بالجدل الدائري(يعتمد على التقدم الأفقي الذي لا تختلف فيه الباية عن النهاية) الزائف {الذي} تسيطر فيه الأشياء والماديات”[10]، كما ينتقد في ذلك الفكر البراجماتي فكرة تعامل الإنسان فيه بنجاح مع الواقع، بما يجعلها(الفكرة) “رؤية مادية لا روح فيها ولا حياة” تُـــــــــــخْـــــضِـــــعُ عقل الإنسان للمادة والأشياء وحدودها ولا تسمح له بتخطيها، وتفترض “عدم وجود ذات إنسانية مركبة تحمل عبء وعيها التاريخي في مقابل موضوع يكتسب فحواه ودلالته من الإدراك الإنساني المركب له”. وهنا نشير إلى أن المسيري يتقاطع في هذه الفكرة؛ فكرة أن هوية الإنسان هوية مركبة، أو لنقل تكوينه تكوين مركب معقد وغير بسيط، مع علي عزت بيغوفيتش الذي يتبنى النموذج المركب في نظرته للإنسان كما عرفه المسيري في كتابه “العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة”[11].
خامسا: نقد وتقويم
يشكل هذا العمل الفكري الهام، وهذا المجهود الكتابي الرصين جزءا ولبنة مهمة من مشروع فكري متكامل ميز حياة المفكر المصري عبد الوهاب المسيري. مشروع يقوم على فكرة المقاومة والرد بالكتابة على حد تعبير بيل أشكروفت وآخرون في كتاب بهذا العنون، حيث اشتغل فيه المسيري على نقد المفاهيم الكبرى التي ميزت العصر الحديث، وشغلت الكتاب والمفكرين، وشكلت عنوانا للصراعات السياسية والفكرية والاقتصادية والإيديولوجية والدينية والعرقية….تلكم هي مفاهيم: العولمة والرأسمالية والعلمانية،والصهيونية، واليهودية… وهي المفاهيم التي ينبني عليها النظام العالمي الجديد، ويقوم عليها الفكر الغربي المهيمن، بل إن المسيري يؤكد في هذا المشروع أن المنظومة الفكرية الغربية اتخذت هذه المفاهيم لإخضاع العالم في عملية كولونيالية جديدة تقوم على الامبريالية الفكرية والاقتصادية والدينية..بدل الامبريالية الجغرافية المباشرة.
بناء عليه، لا ينفصل عمل المسيري هذا “الفردوس الأرضي”، عن تلك الحركة الفكرية المناهضة للاستعمار والاستعمار الجديد التي انطلقت على يد كوكبة من المفكرين والكتاب والنقاد…الذين ينتمون(في أغلبهم) إلى دول العالم الثالث التي وجهت ضدها تلك المفاهيم للسيطرة والهيمنة عليها. وهي الحركة التي بدأت مع المفكر الأمريكي الفلسطيني الأصل إدوارد سعيد بعد إصداره كتابه “الاستشراق” سنة 1978م، ينتقد فيه فكرة السيطرة والهيمنة الغربية، وقد سمى النقاد هذه الحركة ب”نظرية ما بعد الاستعمار/الكولونيالية”، وتهدف إلى تفكيك الأنساق الفكرية والبنية الذهنية لفكرة الكولونيالية الغربية، وتروم فضح المقولات الفكرية والمعرفية التي تختفي وراءها الفكرة الاستعمارية الغربية. والمسيري في هذا العمل، وغيره من الأعمال المشكلة لمشروعه الفكري الذي ندب عمره كله لإنجازه، يستهدف كشف العلاقة بين الرأسمالية والبراجماتية والبورجوازية من جهة ودورها الخفي في وصول الإنسان الأمريكي إلى هذه الحالة من الإغراق في المادية وإلغاء كل ما هو فيمي روحي في التركيبة الإنسانية، كما يروم تسفيه هذه النظرة القاصرة والبسيطة والتبسيطية التي تنظر بها الحضارة الغربية وخاصة الأمريكية والصهيونية إلى الإنسان في علاقته بالتاريخ وبالطبيعة من جهة، على أنه يرم أيضا إبراز الأثر السلبي لهذا الفصل الذي تفعله الحضارة الأمريكية والصهيونية والغربية عامة بين الإنسان والتاريخ، بحيث يشكل السبب الأول والأخير في جعله سلعة كباقي السلع في السوق تتحكم فيه قاعدة العرض والطلب، وفي تحويله إلى إنسان مستهلك بنهم وهستيريا يتصور من خلالها مفهوم النجاح بوصفه ماديا وفقط.
يعزو المسيري ما وقع في بلاد العم سام من بناء لحضارة جديدة على أنقاض حضارة أصلية وما يستتبع ذلك من إبادة وقتل وتصفية للهنود الحمر السكان الأصليين، ويعزو ما يقع الآن في أرض فلسطين من احتلال واغتصاب للأرض والإنسان وممارسة للعنف في أوضح تجلياته، وانتهاك لكرامة وحقوق الإنسان..يعزو كل هذا إلى تلك المنظومة الفكرية التي تتبنى الرأسمالية والبراجماتية والبورجوازية التجارية والاقتصادية والمادية السفيهة..وإلى عملها على تجاهل الوجود التاريخي للإنسان (ولفلسطين مثلا)، حتى تتمكن من تغييره كما يرى “كالن” عندما يصرح بعدم “وجود شعب عربي وإنما شعوب متحدثة باللغة العربية…وأن الفلسطيني لا وجود له…ويصف العرب بأوصاف قذرة”[12] توضح كيف تشتعل المنظومة الغربية على ما سماه “إدوارد سعيد” بالصورة النمطية التي يتم ترويجها عن العرب وبلادهم ومقدساتهم…في صورة فاضحة توضح “العنف البراجماتي” الذي يسيطر على “كالن” وعلى “جيمس” وغيرهم.
خاتمة:
ختاما لا يملك قارئ كتاب “الفردوس الأرضي” لعبد الوهاب المسيري، إلا أن يجد فيه محفزا على قراءة مشروعه الفكري كاملا، ومشجعا على اكتشاف مجهوداته الكبيرة في الدفاع عن فيمة الإنسان وقيمة الحياة، وعن أهمية الأخلاق، ودور الوازع الخلقي والديني في الرقي بالإنسان، كما يجد فيه القارئ ذلك المنظار الذي يكشف عورات الحضارة الأمريكية وعلاقتها بالصهيونية وتفسير ذلك التعالق بينهما تفسيرا واقعيا وتاريخيا بقوم على التكامل بين حضارة، قصيرة العمر بلا تاريخ في أرض جديدة، وحضارة “قديمة” العمر نعم؛ لكنها قائمة على الأساطير والخرافات، ناهيك عن كونها بلا أرض فوقع بينهما ما وقع من الالتقاء في المصالح والغايات لعل أبرزها إخراج الإنسان من سياقه التاريخي واستغفاله بهذه المفاهيم(الرأسمالية والبراجماتية والمادية والبورجوازية..ز) وتفعيلها للسيطرة عليه وعلى مدخراته…ويحسب للمسير أنه ندب نفسه وحياته في وجههما لبيان بطلان دعواهما بالقوة والعظمة والمجد.
____________________________________________________________
المصادر والمراجع
- الفردوس الأرضي:دراسات وانطباعات عن الحضارة الأمريكية، عبد الوهاب المسيري، تنوير للنشر والإعلام، الطبعة الأولى، 1978.
- الاسلام بين الشرق والغرب. علي عزت بيجوفيتش، ترجمة يوسف عدس، مؤسسة العلم الحديث بيروت لبنان. ط 1994..
- رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر سيرة غير ذاتية غير موضوعية، عبد الوهاب المسيري. شركة الأمل للطباعة والنشر، ط1،
- العلمانية الجزئية والشاملة، عبد الوهاب المسيري، القاهرة دار الشروق، ط1 2002.
- موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، عبد الوهاب المسيري ج.1.
[1] – ص.13.
[2] – لفيف من البروتيستانت المتطرفين الذين وجدوا من العسير عليهم البقاء داخل الكنيسة البريطانية، فهاجروا إلى أمريكا. وتتمثل أهدافهم في العودة إلى البساطة الأولى ومحاولة تأسيس مدينتهم الفاضلة (صهيون الجديدة) حسب المثل والقواعد التي وضعها وطبقها المسيحيون الأول.
[3] – عبد الوهاب المسيري، الفردوس الأرضي:دراسات وانطباعات عن الحضارة الأمريكية، تنوير للنشر والإعلام، الطبعة الأولى، 1978، ص.21.
[4] – نفسه، ص.24.
[5] – ورد هذا المصطلح واشتهر مع الكاتب البريطاني روبيرت يونغ في كتابه “ميثولوجيا بيضاء” أي أسطورة بيضاء؛ انتقد من خلال فكرة النقاء في العرق الأبيض واعتبرها أسطورة وخدعة تم استعلالها لاستعمار الآخر والسيطرة عليه.
[6] – شخصية تعشقها الجماهير الإسرائيلية التي تدمن على الأفلام السينمائية من جميع الأنواع، والتي تقوم على فكرة القدرة الخارقة، والأفعال العظيمة والناجحة سواء كانت أخلاقية أو غير ذلك.
[7] -نفسه، ص.32.
[8] – نفسه، ص.36-37.
[9] – الفردوس الأرضي، ص.41.
[10] – نفسه، ص.42
[11] – هو النموذج الذي يحوي داخله عناصر متداخلة مركبة أهمها الفاعل الإنساني ودوافعه بحيث يعطي الدارس صورة مركبة عن الواقع، ولا يختزل أيا من عناصره أو مستوياته المتعددة أو تناقضاته أو ثنائياته أو العوامل المادية والروحية التي تعمل فيه. وهو نموذج تفسيري منفتح اجتهادي وليس نموذجا موضوعيا ماديا متلقيا، يرفض الواحدية السببية، ولا يطمح للوصول إلى اليقين الكامل والتفسير النهائي.
[12] – الفردوس الأرضي.ص.60.