لم تكن عملية طوفان الأقصى التي انطلقت في وقتٍ مبكر من صباح يوم السبت السابع من أكتوبر، مفاجأةً لإسرائيل بأجهزتها الأمنية ومخابراتها فقط ، و التي جاء أول ردودها على لسان رئيس وزرائها بعد ما يقرب ثلاث ساعات من دخول قوات المقاومة إلى منطقة غلاف غزة، بل كانت مفاجأة للدول الغربية بمكوناتها، والحليفة لها بأجهزتها الدبلوماسية والأمنية والاستخباراتية؛ لفشلها في توقع مثل هذه العملية، فهذه ليست المرة الأولى التي تظهر الدول الغربية وأجهزتها الاستخباراتية بمظهر المنكسر أمام الإرادة الصلبة للمقاومة والإنسان العربي، فما قبل طوفان الأقصى ليس كما بعده.
تعيش غزة اليوم أحداث مركبة، ومأساة إنسانية جراء التّهجم القذر للعنصرية الصهيونية، وسحقها لكرامة الإنسان الفلسطيني من قبل عصابة فاشية تؤمن بالقوة، وتكفر بكافة القيم الأخلاقية والإنسانية. لكن وبالرغم من كل هذه المشاهد الدامية والمنافية لأفعال الإنسان السّوي، إلا أننا نجد الصمت مطبق على أفواه الكثير من الدول الأوربية، تجاه ما يحدث للإنسانية بشكل عام، الإنسان الفلسطيني بشكل خاص. إذ أنه ومع أول مقاومة للإنسان الفسلطيني لما يحدثه له، والدفاع عن حقه في الحياة، فإن دموع الحَّزن والتّباكي والتعاطف الغربي لا تتوقف على وسائل الإعلام تضامناً مع الكيان المحتل بكل وقاحة وبجاحه، وكأنّ هؤلاء الفلسطينيين غزاة قادمون من أوروبا، احتلّوا أرضًا ليست لهم واستعمروها وجلبوا مجموعاتٍ من البشر المنتشرين في شتات العالم للاستيطان فيها، على حساب سكانها الذين هم هنا الإسرائيليون المسالمون المجني عليهم!. لقد بتنا نعيش أكبر سردية خرافية، وتاريخ مقلوب ومزيف في مسيرة البشرية كلّها.
لم تستطع المقاومة الفلسطينية، أمام هذه الأحداث اللإنسانية، والتهديد الصهيوني للوجود الفلسطيني أن تلتزم الصمت، وتشاهد الأعمال الإجرامية الفاشية للأرض المقدسة، وكرامة الإنسان الفلسطيني، بل انتظرت مغيب الشمس لتخيط منه لوحة أسطورية تجاه الباغي المحتل، وتعيد بذلك بعث روح المقاومة في الوجدان العَّربي والإسلامي من جديد. فهذا الحدث ليس مجرد تحقيق نجاح عسكري على أرض الواقع؛ بل هو استنهاض للذات العربية والإسلامية بعد ثلاث أعوام من ممارسة حكام العرب التطبيع مع الكيان الصهيوني جهارًا نهارًا ، والتّنصل عن قيم الرسالة في الدفاع عن الأرض المقدسة والوجود والفطرة. وقد تمكّن أبطال المقاومة أن يُقدّموا نموذجًا خلاقًا في كافة الميادين للعالم بأسره، وأعادوا بذلك تعريف قيمة الإرادة الحرة للشعوب العربية.
مع طوفان الأقصى انكشف الوجه الحقيقي للحضارة الغربية التي أثبتت فشلها في ضبط مسارها الأخلاقي تجاه ما يحدث للآخر-اللاغربي- وبدأ انحيازها التام للجوانب المادية ومصالحها البراغماتية على حساب القيم والمبادئ والحقوق والأخلاقيات الإنسانية التي ظلت تسمع الأصم بها. إنّ ما يجب أن نُقرّ به، هنا، أنّ الغرب أضحى لا إنسانياً إلى درجة أنّه لم يعد يلقي بالاً لحياة الأرواح من المدنيين الذين أصبحوا عرضة للقتل الصهيوني الممنهج بفعل القصف أو الحصار ومنع وصول المساعدات إليهم، وهي تطالب بالنّجدة وتقديم المساعدات الإنسانية التي لم تصل حتى بعد فوات الأوان. وعلى الجهة المقابلة، فإننا نجد تحرك الغرب ودعمه السريع للكيان الصهيوني بالعتاد العسكري منذ الساعات الأولى لطلب النجدة، وهو ما يثير أسئلة تبحث لها عن أجوبة، في عالم الإنسانية الزائفة.
إن فهمنا لموقف الدول الغربية تجاه الكيان الاسرائيلي، وأفعاله النازية في بلاد المقدس- متوقف بدرجة أساسية على فهم علاقة الكيان الصهيوني بالكلتة الغربية/ الحضارة الغربية، ورؤيتها للعالم فهذا الكيان الصهيوني ليس انحرافًا عن الحضارة الغربية الحديثة، وإنما هي إفراز عضويّ لهذه الحضارة ولحداثتها -الداروينية – التي تهدف إلى تحويل العالم إلى مادة استعمالية لصالح الطرف الأقوى، وهو الغَّرب. إذ أن البوصلة في تحريك دفّة السياسة الدوليّة للدول الغربية تجاه ما يحدث في الدول اللاغربية هي المصلحة والمكاسب المتغيّرة، والتحالفات المتحرّكة، وهذا ما نرأه مِن خلال تعاطي الكتلة الغَّربية -خاصّة الولايات المتّحدة- مع القضية الفلسطينية، وحق الفلسطيني في في العودة والدفاع عن أرضه وكرامته وقيمه، ومبادئه الأخلاقية والدينية والثقافية، والحد من الأعمال الإرهابية التي يقوم بها الكيان الصهيوني. بل على العكس من ذلك، فإن الغرب لايجد حرجاً في الافصاح عن دعمه للكيان الصهيوني والتغاضي عن سلوك إسرائيل الاستعماري الاستيطاني، وعن توسعها المستمر، وعن غزوها للبلاد المجاورة لها وعن قمعها المتوحش لثورة الشعب الفلسطيني، حتى لو كان ذلك على حساب القيم الكَّونية التي ينادي بها من حقوق للإنسان، وقيم التعايش والمشترك الإنساني، والمساواة والعدل وغيرها من المقولات المفرغة من فاعِليتها في الواقع العملي.
إن فهم وضع اليهود داخل الحضارة الغربية بتعبير – عبدالوهاب المسيري- لا يكون إلا باستحضار مفهوم “الجماعة الوظيفية”. فقد رأى الاستعمار الغربي أن الحل الوحيد لمسألة اليهودية في الغرب، والتخلص من عبئهم لن يكون إلا بتصديرهم -عودتهم بالمصطلح الديني- إلى آسيا وأفريقيا، وتحويلهم إلى مادة استعمالية يقومون بخدمة مصالح الغَّرب الإمبريالي، لأن ذلك يتسق تماماً مع الرؤية الغربية للكون التي حولت العالم إلى مسرح للعمل اللأخلاقي وتحقيق مصالحهم التوسعية، والسيطرة على الآخرين، وخلق حالات من الصراع الداخلي للبلدان اللاغربية، وسلب مقدراتهم وتفتيت وجودهم الثقافي والمعنوي والروحي، فالرؤية العلمانية الإمبريالية للحضارة الغربية مبنيه على تصدير المشكلات للخارج. فالصهيونية جزءًا من التاريخ الاقتصادي والسياسي والحضاري للغرب، والإمبريالية الغربية هي الآلية الأساسية لتحويل الصهيونية من مجرد فكرة إلى دولة استيطانية تعمل لصالح الغَّرب. كما أن الخط الناظم للعلاقة بين الجماعات اليهودية والمجتمع الغربي قائم على مبدأ المنفعة والتعاقد الصارم، الذي لا يتسم بالتراحم مع المجتمع الذي تعيش بين ظهرانيه.
بالعودة قليلاً إلى التاريخ الغربي، نجد أن الاستعمار الغربي لم يترك مستعمراته إلا بعد أن ثبت وجوده السياسي والاقتصادي، واحتفظ بقواعده العسكرية، وبالأخص قاعدته الكبرى في قلب العالم العربي (الكيان الصهيوني)، يدين لها ببقائها ويقوم على خدمتها، فهو دولة وظيفية تابعة للإمبريالية الغربية، تحفظ للغرب وجوده، وتدافع عن مصالحه الاستعمارية في العالمين العربي والإسلامي. لهذا فإن دور الصهيونية في العالم العربي لا ينفصل عن سياق الغزو الاستعماري الغربي للمنطقة العربية، وتحويل الجماعات اليهودية في العّالم العربي إلى مادة استيطانية، تدور في فلك خدمة مصالح المنظومة الإمبريالية الغربية. لذلك، كانت الصهيونية جزء من الرؤية الغربية الإمبريالية للعالم. والمشروع الصهيوني أصيل وجوهري داخل التشكيل الحضاري الغربي الحديث، فما كان بمقدوره أن يتحقق دون إمكانيات الإمبريالية الغربية ودون طموحاتها الاستعمارية وآلياتها. فالكيان الصهيوني يلعب دور كلب الحراسة لمصالح الغرب في العالمين العربي والإسلامي، وافساد ثرواته المادية والمعنوية.
مِن المؤكد أنّ الحركات الاستعمارية تسعى إلى تحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية عن طريق سلطتها كمرتكز أساسي، وهذا الأمر بطبيعة الحال يستوجب اللجوء إلى العنف والقهر وتسخير القوة قدر المستطاع في التعامل مع الطرف المقابل، لذلك كان السبب الرئيسي وراء اختيار الغّرب الصهاينة كجماعة وظيفية للتحكم في العالم هو مبدأ القوة والعنف الذي يعول عليه الصهاينة في حل مشكلاتهم التي يواجهونها، وتغليب مبدأ العنف واستباحته على منطق العقل، والدخول بحالة صدامية مع الآخر دون ادنى للاعتبارات والمعايير الأخلاقية والإنسانية، وذلك بسبب العلمنة والتحديث التي تعرضت لها العقيدة الصهيونية، وتجريدها من اللاهوت الأخلاقي الذي يحكم سيرورة فعلها. وبحسب نموذج المؤامرة الكبرى فإن العنصر اليهودي يتسم بالشر والرغبة في التدمير، فهذه الأمور مزروعة بالفطرة في طبيعتهم وتركيبتهم البشرية. والتاريخ اليهودي تعبير عن هذا النموذج وعن هذه المؤامرة الأزلية المستمرة، فهم المسئولون في كل الأزمنة والأمكنة عن كل الشرور والمنكرات، والافساد في النفوس والأخلاق، وعلى سبيل المثال فإن اليهود بحسب الرواية المسيحي فهم من أراقوا دم المسيح، وهم وراء مؤامرة عبد الله بن سبأ ثم أتباعه من بعده للقضاء على الإسلام.
إنّ التجمُّع الصهيوني ليس مجتمعاً أصيلاً قائم على الأصول العقدية الصهيونية الصحيحة، إنما تم غرسه وتثبيت أركانه في المنطقة ليقوم بدور عسكري لصالح الحضارة الغربية، ومن ثم فإنه لا يشكل تحديًّا عسكريًّا وحسب، بل تحديًّا ثقافيا ودينيا وأخلاقيا. لذلك لا يمكن القول بأن الصهيونية الحديثة المُعَلَّمَنة جزءاً من العقيدة الصهيونية، إنما هي تجلٍّ إمبريالي للعلمانية، وهي ليست القومية اليهودية، وليست القومية الإسرائيلية كما يدعي الصهاينة، بل ايديولوجية سياسية غربية ذات توجه استعماري إحلالي وديباجات يهودية، تمارس دور الجماعة الوظيفية القتالية لصالح الغّرب حيث تتم مقايضة المال بالقتال، فتأخذ بذلك دوراً حيوياً في حماية مصالح الاستعمار الغربي. لذا، فإن الحكومة الاسرائيلية هي في الحقيقة علمانيِّة ذات عقلية ميكافيليِّة عنصرية، ويهوديِّة متطرفة، تؤمن بالقوة واستباحة العنف كحق أساسي للعيش، وليست دينية بالمعنى المنشود لنا.
لقد ظَّل الغرب يحاول الظّهور بمظهر الحارس للفضيلة والقيم الإنسانية، والمبشر بحقوق الإنسان، وذلك بصياغة خطاب معياري أخلاقي إنساني، مضمونه الدّعوة إلى إعلاء كرامة الإنسان والحفاظ على حقوقه، إلا أنه وفي أول اختبار له أمام مصالحه الذاتية سقط في حب ذاته، مُحَّوِراً بذلك تلك الحقوق والشعارات البارقة التي تفنن بصياغتها إلى سلاح إيديولوجي لتحقيق مطامحه السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، وتغليب مصالحه على كلّ ما دونها من مصالح. ولنا أن نتحرَّى ما يبشر به الخطاب الإعلامي الليبرالي الإنسانوي لنبلغ هذه الحقيقة. ذلك أن الغوص عميقاً في البنية المعرفية للخطاب الغربي الإنسانوي، وتحليل المقولات الفلسفية لهذا الخطاب نجد أنه موجّه إلى الإنسان الأبيض الغربي، وليس إلى بقيّة من هم دون الغرب في الحقوق والكرامة، لأنّ هذا الخطاب مصمم بالأساس لصالح المُنتج لهذا الخطاب، فهو لا ينفصل عن تحيزاته المعرفية والنفسية، وآهوائه الذاتية.
في غزة اليوم سقط الغرب أمام ضميره الأخلاقي، فهو لم يلتزم الصمت جراء ما يحدث للفلسطينين، بل ذهب لمناصرة الكيان الصهيوني بكافة الوسائل غير المشروعة. تلكم هي حقوق الإنسان التي يعتبرها الغَّرب نفسه مشتركا إنسانياً، تشترك فيه جميع الأمم والأجناس العرقية، إلا أن الواقع العملي يكشف زيف تلك المواثيق والحقوق. هذه هي حقيقة الغَّرب وخطابه الإنسانوي الزائف، فالغّرب ينظر إلى الحقوق والمطالب المتعارضة مع ما يؤمن به ويعتقده، نقيض للمبادئ التي خَوَّل نفسها بصياغتها. هذا بالإضافة إلى أن الكثير من الحقوق التي تطالب بها الكثير من الشعوب والأمم تناقض عقلية الغرب ومطامعه الإمبريالية. لذلك كانت القاعدة التي توزن بها مواثيق حقوق الإنسان والشعوب هي: كل مطلب/حق سينتج عنه تقليص أو حد من تلك المراكمة التي يسعي رأس المال الغربي إلى توسيعها فإنه مطلب “إرهابي” يقوض أصول الإنسانية. وبالتالي لم يقيم الغرب وزناً لحقوق الشعوب المظلومة.
لقد استطاعت المقاومة بعملية “طوفان الأقصى” أن تُظهر الوجه الحقيقي للحضارة الغربية التي أثبتت انحيازها التام للجوانب المادية على حساب القيم والمبادئ والحقوق التي ظلت تنادي بها في الكثير من المحافل الدولية، وتقيم الندوات والمؤتمرات والبرامج لنشرها إلى أن بشرت المقاومة بطوفانها الذي هزّ الكيان الصهيوني والإمبريالية الغربية من ورائها. إن عمل المقاومة الفلسطينة لايمكن تضيقه في حماية الأرض من التوسع الاستيطاني، واستيلاء الكيان الصهيوني على ما فوقها وما تحتها، بل هي ممانعة لكافة القيم الغربية، والإحلال الاسرائيلي لهذه القيم في الوجدان العربي المسلم. بعبارة أخرى: إنَّ أكبر خطر تمثّله إسرائيل التي تمثل الغرب لا يكمن في السياسة واحتلال الأرض؛ وإنمَّا يكمن في نشر الرؤية الثقافية والإباحية، وافساد فطرة الإنسان قلباً وطمساً واستلابها من جوهرها الأصلي، فهذه الفطرة نازلة من الروح منزلة الجوهر، وهي التي تحفظ القيم والمعاني الأصيلة المبثوثة في روح الإنسان منذ خلقه، والمعول عليها في استدامة المقاومة لأي احتلال منافي لقيم الفطرة السليمة.
كما أنها – المقاومة- أعادت ضبط معيار الإنسانية وتعريفها، ووضع الأسس اللازمة لنجاحها، فالإنسانية الحقيقية ليست القدرة على صنع أجهزة الرفاهية والراحة، وصنوف الأسلحة الفتاكة التي تقتل وتفتك شعوباً بأكملها، وإنما المقياس الحقيقي للإنسانية السَّوية هو في أن يرتقي الإنسان بأفعاله وأخلاقه، ويعتلي بقيمه الروحية، ويهذب من سلوكه وتصرفاته الحياتية، ويجعلها أكثر سموًّا ورقيًّا وأخلاقاً واتساقاً مع مقتضيات الفطرة والعقل.
في الختام من الأهمية القول بأن الأحداث التي يعيشها الفلسطينين جراء العدوان الصهيوني، تَظَّل محط كشف زيف التوجّه الإنساني والحضاري للغرب تجاه مأساة إنسانية أخلاقية، ساهم في إيجادها بأكثر من وسيلة بمرجعية التّاريخ، والتعامل اللأخلاقي الذي حضيت به القضية الفلسطينية، وأدّى إلى ما نراه، اليوم، من مآسٍ إنسانية.
لقد سقطت الصورة التي رُسِمت بها، وسوِّقت من خلالها، الحضارة الغربية لنفسها عند أول اختبار حقيقي لمبادئ الحرية، والحَّق في تقرير حق المصير، والعدالة وحقوق الإنسان. كما أن الحداثة الغّربية لم تنجح في بناء نموذج إنساني عادل كما ادعّت وزعمت وذلك لخلل قائم في بنيتها المعرفيّة، أو رؤيتها الكونية التي تنبثق منها القيم الأخلاقية والإنسانية وترشد سلوكها العملي. بل أخفقت في ذلك، بعد أن استغلت مركزيتها لتأكيد تفوّقها، وترسيخ عقيدتها الاستعلائية، وعنصريتها المقيتة، وتمييزها بين الأعراق والأجناس البشرية بما يخدم مصالحها الامبريالية، والتسبب في الدمار والخراب الأخلاقي والروحي والمادّي في الوجود البشري.