الجزء الأول:
خلاصة التعريف المستخلص والمختار لوسائل القوة السياسية بمنظور مقاصد الشريعة الإسلامية: “الأسباب والآلات والأدوات والإمكانات والموارد “غير المقصودة لذاتها” (وسائل) والتي تشكل بمجموعها القدرة على التأثير والتحكم والطاقة “بمختلف أنواعها وتطورها مع الزمن” (القوة) في مجال الخلافة والحكم والسلطة (السياسية)؛ لتدبير الشؤون العامة للرعيَّة بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار (مقاصد) بما لا يتعدى حدود “الكتاب والسنة” أو أصولهما ويتفق مع روحهما وإن لم يرد حرفياً بهما (الشريعة الإسلامية).
الوسيلة في أصل الوضع اللغوي: كل أمر يُتوصل به إلى أمر آخر، سواء كان ذلك الأمر محسوساً أم معنوياً، وسواء كان مشروعاً أم غير مشروع. ([1])
والوسائل في اصطلاح علوم الشريعة: والمشهور التعبير عنها بالذرائع وهي الطرق المفضية إلى المقاصد([2]). ولها معنيان عام وخاص. أما بالمعنى العام، فهي الأفعال التي يُتوصل بها إلى تحقيق المقاصد.
أما الوسائل بالمعنى الخاص: فعلامتها الأصليَّة عدم تضمنها للمصالح والمفاسد في ذاتها وأما العلامة الفرعية فهي عدم القصد الذاتي. فالسَّفر وسيلة مرسلة لا يُقصد لذاته، ولا يكتسب حكماً مستقلاً إلا بإضافته لما يُتوصل إليه، فإن كان السفر للحج بات قربةً، وإن كان لارتكاب الرذيلة بات منهياً عنه، وإن كان للتجارة بقي مباحاً.([3])
ومع أنه يغلب استعمال الذريعة فيما هو منهي عنه “أمر غير ممنوع لنفسه، قويت التهمة في أدائه إلى فعل محظور”([4]) ويأتي ضمن هذا السياق العمل بقاعدة “سد الذرائع” التي ينبغي عدم المبالغة باستخدامها منعاً للتضييق، بل والتوسعة عبر “فتح الذرائع” الحسنة وما يتوصل بها إلى مقاصد حسنة، لا سيما في المعاملات والسياسة الشرعيَّة.
أما الوسائل في عصرنا فتضاف إلى المقصود منه،كوسائل الإعلام ووسائل التعليم وغيره. وهذه الوسائل بهذا المعنى لها دور عميق وأثر فعَّال في النفس البشريَّة والمجتمع الإنساني، ولهذا كان الاهتمام بها علامة وعي وأمارة فطنة. ولهذا تهتم بها الحكومات والدول كأدوات فعالة في بناء المجتمع وتطوره. وبالتالي نحن أمام مجال واسع وميدان منتشر؛ لكثرة الوسائل وتنوعها وتجددها عبر العصور، بحسب ما ترقى إليه الأمم من المدنية والعلم المادي. ولكن النظر الأصولي والاجتهاد الفقهي لا يتعلق بها من حيث هي آلات وأدوات، بل من مباشرة المكلف لهذه الوسائل واستخدامه لها. فهي بهذا راجعة إلى أفعال المكلفين وحكم الشارع فيها. فإذا قلنا هذه (وسيلة جائزة) فالمراد جواز مباشرة العبد لها، واستخدامه لها. ([5]) لهذا يأتي تأصيل “الوسائل” من الناحية الشرعية لاستثمارها بالجانب السياسي المعاصر. لتفادي (القطيعة) بين علوم الشرع الحنيف والعلوم الاجتماعية.([6]). تحقيقاً لمراد ربنا جلا وعلا ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ [الأنفال 60] وهل يكون الإعداد إلا بتوفير وسائل القوة!
الجزء الثاني
القوَّة في الاصطلاح: عرَّفها الإمام ابن عاشور رحمه الله بقوله: “حَقِيقَتُهَا كَمَالُ صَلَابَةِ الْأَعْضَاءِ لِأَدَاءِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُرَادُ مِنْهَا”.([7])
وفي يومنا المعاصر فمعظم التعاريف تقرِّر أن القوَّة هي القدرة على التأثير في سلوك الآخرين، أو التحكُّم في سلوكهم تجاه قضية معينة. والاستناد إلى العلاقة السلوكية التي تجبر طرفاً على الانصياع لرغبة الطَّرف الآخر في الاتجاهات والخيارات التي تحقق رغباته، أو تتوافق معها، وذلك في فترة محدَّدة([8]). وتُعتبر القوَّة بشكل عام، “وسيلة” لتحقيق غاية معينة بذاتها، ولذلك من الصعب تصوّر أن دولة ما تنفق الأموال والطاقات لامتلاك القوة لمجرد امتلاكها أو لاستعراض قوتها في مواجهة الآخرين. والقوَّة نسبيَّة ولها تعقيداتها بفعل التطورات العلمية والتكنولوجية المتسارعة. فالأمر الأساسي المرتبط بمفهوم القوَّة هو أن التأثير لا يحقق أي نتائج ذات أهمية إلا إذا استندت على إمكانات ماديَّة ومعنويَّة مختلفة، عبر تعبئة عناصر معيَّنة منها كأدوات للتأثير إما بالإقناع أو الإغراء أو التهديد أو المعاقبة، في مواجهة الأطراف المستهدف التأثير فيها. ومهما يكن من أمر، فقد وصلت أهمية توافر الإمكانات كعنصر من عناصر مفهوم القوة إلى حد تبلور تيَّار بين محلِّلي القوة يطرح تعريفًا آخر للقوة لا يستند إلى كونها عملية تأثير في الإيرادات، وإنما رمزًا لامتلاك القدرات([9]).
وقد وردت (القوة) في القرآن الكريم، وفق عدة معاني؛ منها([10]):
أولاً: المنعة الشدَّة والبطش كقوله تعالى: ﮋ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَﮊ [فصلت 15] ([11])
ثانياً: والأنصار والأعوان: ﮋ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍﮊ [النمل 33] بحيث يتم الاستقواء بأجسادهم وأعوانهم([12]).
ثالثاً: الجد والاجتهاد؛ ومنه قوله تعالى: ﮋ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍﮊ [البقرة 63/93] ([13]).
رابعاً: السلاح: ﮋ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ﮊ [الأنفال 60] وبهذا الاعتبار يُفسر ما روى مسلم في صحيحه: «ألاَ إنّ القوَّة الرَّمي»([14]) ، أي أكملُ أفرادِ القوّةِ آلةُ الرمي، أي في ذلك العصر. وليس المراد حصر القوة في آلة الرمي ([15]).
خامساً: القدرة والطَّاقة: ﮋ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍﮊ [هود 80] يٌقال: ما لي به قوة وما لي به طاقة. ويقولون: مَا لي بهذا الأمر يَدان، أي قدرة أو حيلة عليه . والمعنى: ليت لي قوة أدفعكم بها.([16])
ومعنى سادس وهو (الإحكام )كقوله تعالى: ﮋ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا ﮊ [النحل 92] أي: من بعد إبرامه وإحكامه. ([17])
وعليه فيكون للقوة التي يقابلها الوهن ستة معان: الشدة بخلاف الضعف، والبطش بمعنى الشجاعة عكس الجبن، والجد والاجتهاد ويقابله الفتور، والإحكام يقابله الخلل. والقدرة والطاقة يقابله العجز، القوة الوسيلية وهي الوسائل التي تستخدم في القوة. كالسلاح وغيره من وسائل القوة. ([18])
وللسياسة تعاريف عديدة ومنها ليس على سبيل الحصر :((القوة وتوزيعها بين الأطراف، فن إدارة الدولة، فنُّ الممكن .فنُّ التنازلات المتبادلة)).([19]) والسياسة قائمة على السلطة، والسلطة بداهةً تحتاج لقوة، فلا سياسة بلا قوة. فإذا كان الأجير لا بد أن يتَّصف بالقوة، فكيف بالحاكم ﴿يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ [القصص: 26]. فالسلطة ارتبطت بالقوة حتى في تعريفها اللغوي: (سَلُطَ) السِّينُ وَاللَّامُ وَالطَّاءُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْقُوَّةُ وَالْقَهْرُ. مِنْ ذَلِكَ السَّلَاطَةِ، مِنَ التَّسَلُّطِ وَهُوَ الْقَهْرُ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ السُّلْطَانُ سُلْطَانًا.([20]) والسلطة في الفكر الإسلامي وفي إطار النظام السياسي اتصفت بإعلاء قيمة القوة والتأكيد على ارتباط السلطة بالقوة. ([21]) ومن هنا فلا غنى للسُّلطة عن القوَّة، ولا غنى للقوة عن ضوابطها. وبهذين الجناحين تحقق سياسة دنيا المسلمين بدينهم أهدافها وغاياتها. ([22])
[1]– الإستراباذي، شرح شافية ابن الحاجب.
[2]– المالكي، محمد حسين. تهذيب الفروق.
[3]– المقري، أبو عبد الله محمد. القواعد.
[4]– الباجي، أبو الوليد. إحكام الفصول.
[5]– مخدوم. قواعد الوسائل في الشريعة الإسلامية.
[6]– راجع كتاب: حنفي، ساري. علوم الشرع وعلوم نحو تجاوز القطيعة. مركز نهوض.
[7]– ابن عاشور، محمد الطاهر. التحرير والتنوير.
[8]–Ralph E. Tarter, “Principles of Solid – State Power”, SAMS (1985), pp 23-24
[9]-Randall Schweller; “The Progressiveness of Neoclassical Realism”.
[10]– انظر: عمر، أحمد مختار. المعجم الموسوعي لألفاظ القرآن الكريم.
[11]– انظر: ابن كثير. تفسير القرآن العظيم
[12] – البيضاوي، ناصر الدين أبو سعيد. أنوار التنزيل وأسرار التأويل.
[13] – البغوي، أبو محمد الحسين. معالم التنزيل في تفسير القرآن = تفسير البغوي.
[14] – صحيح مسلم. رقم: 1917.
[15] – انظر: ابن عاشور. التحرير والتنوير. 10: 55.
[16] – انظر: المصدر نفسه. 12: 130.
[17] – انظر: البغوي. معالم التنزيل في تفسير القرآن.
[18] – الغيلي، عبد المجيد. من ألفاظ القوة ومقابلاتها في القرآن الكريم (دراسة معجميَّة).
[19] – سلطان، جاسم. قواعد في الممارسة السياسية.
[20] – انظر: ابن فارس. معجم مقاييس اللغة.
[21] – دوفرجيه، موريس. علم اجتماع السياسة – مبادئ علم السياسة. ترجمة سليم حدَّاد.
[22] – أبو زيد، وصفي عاشور. القوة في السياسة الشرعية. ورقة مقدمة إلى ندوة ندوة تطور العلوم الفقهية.
لمتابعة المقال الأول: وسائل القوة السياسية قراءة نسقية في آيات الذكر الحكيم (الجزء التمهيدي)