مقدمـــــــــــــــة:
على إثر جدل قضية الدكتور محمد الفايد
نقول بداية، لسنا في موضع التنقيص من علوم على حساب أخرى، ولسنا في موضع دعم مقولات “الفصل الجامد” بين العلوم تحت شعار “التخصص العلمي”، وهو أمر قد نعود لنقاشه مستقبلا بإذن الله، كما أننا لسنا في خانة الاصطفاف مع التيارات الوظيفية الفاقدة للوعي في معركتها ضد الدكتور الفايد، بقدر ما أننا نريد “استغلال”/توظيف الهوجة التي أثارتها تصريحات الفايد لمناقشة قضية مهمة، إن لم تكن من أهم القضايا التي واجهت وتواجه العالم العربي والإسلامي، وهي قضية إهمال العلوم الإنسانية خصوصا من قبل الحركات الإسلامية، وهو إهمال كانت له نتائج فادحة على تلك الحركات ومعها الشعوب الإسلامية.
تجربة الحركة الإسلامية والنزعة العلموية في التعاطي مع العلوم الإنسانية
يبدو الفايد في تصريحاته المنتصرة للعلوم التجريبية –الكونية كما يسميها- والتنقيص من العلوم الإنسانية متأثرا بتجربتين تاريخيتين، أولا النزعة العلموية، وهي نزعة لا تعترف إلا بالعلم التجريبي، وترى بأنه هو العلم القادر على الإجابة على الواقع وتقديم الحقائق في كل المجالات بما فيها الدين والأخلاق، وهي نزعة شكلت مرتعا خصبا لانتشار المقولات الإلحادية، وبالرغم من الانتقادات القوية والتراجع الذي شهدته هذه النزعة إلا أنها ما تزال تحظى بالتأييد من قبل علماء كثر خصوصا في مجال العلوم التجريبية، وهي نزعة خطيرة على البشرية وفتحت الباب أمام كل الاختراعات المنفصلة عن القيمة والأخلاق، وبالتالي قادت وتقود البشرية نحو الكوارث والدمار.
أما التجربة الثانية التي أثرت في الفايد فهي تجربة الحركة الإسلامية، باعتباره “جزءا” منها ومتأثرا بمقولاتها “التأسيسية”، وقد كان من الملامح الأساسية لهذه التجربة هو إهمال العلوم الإنسانية والاجتماعية (الفلسفة، الاجتماع، الاقتصاد، السياسة، القانون…) لصالح الاهتمام لدرجة التضخم بالعلوم التجريبية (الطب، الصيدلة، الهندسة، البيولوجيا…)، وهو اهتمام يجد تفسيره في الاشتباك مع دعاة الإلحاد والمادية، ممن كانوا يوظفون العلوم التجريبية لمواجهة الأديان ونشر الإلحاد، لذلك فقد كان “التوجه الإسلامي الكبير” نحو العلوم التجريبية هو الرد من داخل التخصص على دعاة الإلحاد، وتوظيف العلم التجريبي لنشر التدين داخل المجتمعات، وهنا نسجل أن الحركة الإسلامية حققت نجاحا مبهرا في هذا المجال.
يضاف لذلك المقولات التنقيصية بل والتكفيرية لبعض التيارات السلفية تجاه العلوم الإنسانية خصوصا الفلسفة باعتبارها مدخلا لانتشار الإلحاد، وبطبيعة الحال فقد كان للأنظمة السياسية دور في إهمال العلوم الإنسانية وتوظيف بعض التيارات السلفية لمحاربة تلك العلوم.
ولهذا فليس مستغربا أن تهمين الحركات الإسلامية على كليات العلوم التجريبية، “كليات القمة” كما يسميها المصريون، وأن تهيمن على نقابات الأطباء والمهندسين وغيرها من النقابات التخصصية الدقيقة.
وليس مستغربا أن يكون جل –مع استثناءات قليلة جدا- قادة ورموز الحركة الإسلامية من خريجي الكليات العلمية المتخصصة من أطباء ومهندسين وتقنيين، وأن يغيب المفكرون والفلاسفة عن قيادة تلك الحركات، بل وعن وجود مفكرين وفلاسفة من إنتاج خالص لتلك الحركات، ولهذا وأمام أزمة غياب المفكر والفيلسوف الحركي فقد كان طبيعيا أن تلجأ تلك الحركات لآراء ومواقف مفكرين وفلاسفة من خارجها (بن نبي، المسيري، بيجوفيتش، البشري، هويدي، عمارة، طه عبد الرحمان…).
لقد كان لإهمال الحركات الإسلامية للعلوم الإنسانية أثر فادح على تلك الحركات وعلى شعوب المنطقة، وهو ما تجلى مع لحظة الربيع العربي، وسوء تعاطي عديد من تلك الحركات –مع بعض الاستثناءات- مع لحظة الربيع ومخرجاته، بحيث كان لغياب المفكرين والفلاسفة الحركيين أثر جد سلبي على تعاطي الحركة الإسلامية مع لحظة الربيع العربي.
لقد فطن الشيخ “علي عبد الرزاق” قبل ما يقارب قرنا من الزمن–حتى قبل ظهور الحركات الإسلامية- لمعضلة غياب الاهتمام بالعلوم السياسية عند المسلمين، بحيث سجل في كتابه الذي أحدث ضجة كبيرة “الإسلام وأصول الحكم” ومنع بسبب آراءه حول الخلافة الإسلامية –وهي آراء أصبح يتبناها قسم كبير من الحركة الإسلامية اليوم-، ما يلي “من الملاحظ البين في تاريخ الحركة العلمية عند المسلمين أن حظ العلوم السياسية فيهم كان بالنسبة لغيرها من العلوم الأخرى أسوء حظ، وأن وجودها بينهم كان أضعف وجود، فلسنا نعرف لهم مؤلفا في السياسة ولا مترجما، ولا نعرف لهم بحثا في شيء من أنظمة الحكم ولا أصول السياسة، إلا قليلا لا يقام له وزن إزاء حركتهم العلمية في غير السياسة من الفنون[1]“.
العلوم الإنسانية في التجربة التاريخية الغربية
إن مشكلة الفايد وغيره كثير انه يناقش بدون فهم واستحضار الرأسمالية وتطورها ودورها فيما يعيشه العالم ومنه الوطن العربي والإسلامي، بالرغم من الدور الكبير الذي يلعبه الفايد -حتى دون وعي منه- في مواجهة الظاهرة الاستهلاكية باعتبارها أحد ركائز الرأسمالية المتوحشة؛ ودون قراءة فهم للتجربة الغربية وسياق ميلاد الدولة الحديثة.
من مغالطات الفايد وأمثاله، القول بأن الغرب تقدم نتيجة الاهتمام بالعلوم التجريبية، وبأن الغرب مدين في تقدمه لتلك العلوم، وهو أمر صحيح، لكن العلوم التجريبية لم تكن هي السبب الأساس لتقدم الغرب بل كان الاهتمام بالعلوم الإنسانية هو الأساس والمنطلق للنهضة الغربية.
فأساس نهضة الغرب هي إنتاجات الفلاسفة والمفكرين التي كانت تسعى للإجابة عن أسئلة الطبيعة والدولة والإنسان والمجتمع…، في سياق هيمنة الكنيسة، فتوماس هوبز في السياق التاريخي الغربي أهم من نيوتن، لأن هوبز قدم الإجابة التاريخية في سياقها –بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها- عن سؤال العلاقات المجتمعية، والسؤال الأساس حول السلطة، في وقت كانت تعاني فيها أوروبا من تشرذم وتسيب وضعف بنيوي مزمن للسلطة إن لم يكن غيابها، وهيمنة الكنيسة.
إن أوروبا مدينة في نهضتها بالأساس للفلاسفة والمفكرين، فهؤلاء من انشغل بتقديم الأجوبة عن كيفية الخروج من التخلف، فهي مدينة لديكارت، وميكيافيلي، وسبينوزا، وهيغل، وميل، وفولتير، وروسو، ومونتيسكيو، وغروتيسو، وماركس وغيرهم. فالنهضة الأوروبية لم تتحقق إلا بعد نهضة فلسفية وفكرية عبر علاقة جدلية بالواقع تأثرا وتأثيرا.
كما أن اوروبا مدينة في نهضتها للتجربة الإسلامية العلمية المتقدمة، فعلى خلاف ما يعتقده الفايد وأمثاله فالذي لعب دورا محوريا في نهضة أوروبا هي الانتاجات الفكرية للفلاسفة والمفكرين المسلمين، الذين شكل بعضهم حلقة وصل بين الفلسفة اليونانية والفلسفة الأوروبية الحديثة، فالفلسفة اليونانية مدينة في انبعاثها للفلاسفة المسلمين، والدور الذي قام به ابن خلدون مثلا واستلهمه فلاسفة أوروبا أهم من أدوار العلماء المسلمين التجريبيين –نعتمد هذا التقسيم تجاوزا بحكم موسوعية العلماء المسلمين قديما بحيث كان العالم تقنيا ومفكرا وفيلسوفا في الوقت نفسه-.
وفي أمريكا فإن الذي قاد النهضة لم يكن العلماء التجريبيين، فقادة الثورة وواضعو الدستور (الآباء المؤسسين) لم يكونوا من علماء الطبيعة، بل هم مفكرون وسياسيون، وهم من وضع أساس التجربة الأمريكية التي تحولت بعد عقود من الثورة لقيادة العالم وما تزال، وهي قيادة تلعب فيها العلوم الإنسانية أهمية كبرى، ومراكز الأبحاث والانتاجات الفكرية الأمريكية دليل واضح على مدى الأهمية التي توليها أمريكا للعلوم الإنسانية، فهي العلوم التي تجعل أمريكا تفهم العالم وتجعل العالم يفهمها. فالمفكرون هم من وضع الأسس للتجربة الأمريكية وأنشأ التربة الخصبة للتطور العلمي والتكنولوجي الرهيب.
وفي روسيا فإن الذي قاد الثورة والتغيير هم الفلاسفة والمفكرون والسياسيون من أمثال لينين، وتروتسكي، وستالين، وبليخانوف،…، فهؤلاء من أسس لميلاد التجربة السوفياتية المتقدمة علميا واقتصاديا، وأوجد نظاما نقيضا للنظام الغربي بقيادة أمريكا، فالتقدم العلمي والتكنولوجي لم يتحقق في روسيا ابتداء نتيجة العلماء التجريبيين، بل بفضل الفلاسفة والمفكرين، لأنهم كانوا أصحاب نظرية في التغيير، وهي نظرية فتحت الباب أمام التطور العلمي الكبير، ونقل روسيا من دولة متخلفة إلى دولة متقدمة اقتصاديا وعلميا، وإرسال أول قمر اصطناعي في تاريخ البشرية.
والأمر نفسه يقال عن الصين وماليزيا وتايوان وتركيا وكل التجارب الدولية الرائدة التي أسست للتقدم العلمي والتكنولوجي، وهو تقدم كان يسبقه دائما الجواب على أسئلة: الدولة والإنسان والمجتمع، وتقديم نظريات في التغيير.
الاهتمام بالعلوم الإنسانية شرط لتحقيق نهضة علمية عربيا
يعتقد الفايد أن حل أزمة العالم العربي يكمن في الاهتمام بالعلوم “الكونية” والتخلي عن العلوم الإنسانية، وبتقديم المتخصصين في العلوم الكونية لاحتلال مواقع الخطابة والقيادة والتوجيه في الوطن العربي، وهو طرح ساذج وحالم ومفارق للواقع، طرح يبين أزمة الوعي لدى جزء كبير من النخبة، مع إعادة التأكيد على الدور الكبير الذي يقوم به الفايد في مواجهة الرأسمالية الاحتكارية القائمة على الاستهلاك الجشع المدمر للإنسان والطبيعة الذي يعتبر من الركائز التي تقوم عليها تلك الرأسمالية.
لقي نسي الفايد وهو يدعو لصعود “العلماء المتخصصين” لمنبر الخطابة بأن ظاهرة المتخصص/الداعية (الطبيب، المهندس،..) هي ظاهرة موجودة في المشرق العربي بكثرة، فباستثناء المغرب بحكم تجربته التاريخية، فوجود الطبيب والمهندس/الداعية أمر عاد في دول المشرق، بحيث انتشرت وبكثرة ظاهرة المتخصص/الداعية بشكل ملفت، فالآلاف من خطباء الجمعة وأئمة المساجد والدعاة هم من الأطباء والمهندسين والتقنيين، وهي ظاهرة أبانت عن سلبيات كثيرة حين يكون الزاد العلمي والفكري للمتخصص/الداعية ضعيفا وهزيلا، بل كانت لها نتائج كارثية خصوصا مع دعاة السلفية الوظيفية.
إن مشكلة الوطن العربي ليست في غياب العلماء “الكونيين”- فما أكثرهم- وضعف الاهتمام بالعلوم الكونية، بل في غياب المفكرين والفلاسفة وضعف الاهتمام بالعلوم الإنسانية. فالاهتمام بتخريج المتخصصين في العلوم التجريبية بدون خلفية فكرية ومعرفية هو مجرد تخريج أفواج من التقنيين في خدمة الرأسمالية الاحتكارية، ولهذا ليس مستغربا هجرة الآلاف من المتخصصين من أطباء ومهندسين وغيرهم سنويا، ممن يفضلون الهجرة للدول الغربية الرأسمالية لأسباب مختلفة من بينها توفر بنية تحتية قوية للبحث العلمي.
لكن البنية التحتية القوية للبحث العلمي في الغرب لا يمكن فصلها اليوم عن الرأسمالية الاحتكارية، وهذا سر تخبط الفايد وأمثاله وضُعف وعيهم. ذلك أنه في ظل الرأسمالية الاحتكارية، على خلاف الرأسمالية التنافسية في أواسط القرن 19، من المستحيل تقريبا في دول الجنوب ومنها الدول العربية تحقيق تقدم علمي في ميدان العلوم التجريبية/الكونية دون تدخل قوي من الدولة، بل وحتى تدخل دولة عربية منفردة وتوجهها نحو دعم قوي للبحث العلمي لن يقدر لوحده على اللحاق بالتقدم العلمي الغربي بحكم الأموال الباهظة التي تخصصها الشركات الاحتكارية للبحث والانتاج العلمي، وهي أموال تتجاوز ميزانيات دول عربية بأكملها.
فإذا كانت الصين بالرغم من ضخامة الأموال التي ترصدها للبحث العلمي ما تزال تعاني من فجوة علمية مع أمريكا، وإذا كانت أوروبا تعاني من فجوة كبيرة بالمقارنة مع أمريكا، واضطرت دولها للتوحد في مشاريع علمية كبيرة مثل صناعة الطيران والفضاء، فكيف يمكن لدولة عربية بميزانية ضعيفة أن تحقق نهضة علمية تضاهي الغرب !؟ إذن فلا بد من مشروع قومي عربي للبحث العلمي، فهو القادر على تحقيق طفرات علمية مهمة.
لم تكن الصين مثلا قادرة على تحقيق نهضتها العلمية دون تدخل قوي من الدولة، وهو تدخلٌ احتاج لفكرة وتخطيط ومشروع، أي انه قرار سياسي اتخذته الصين، بمعنى أنه عبارة عن نظرية سياسة في التغيير، وبالتالي فالأساس هو توجه قاده مفكرو وسياسيو الحزب الشيوعي الصيني.
هكذا نصل للخلاصة الأساسية والمحورية، وهي أن تحقيق نهضة في العلوم الكونية عربيا لا بد وأن يسبقها تحقيق نهضة فكرية وسياسية تجيب عن أسئلة الرأسمالية والديمقراطية والدولة الوطنية والقومية والمجتمع… فلابد إذن من نظرية، وهو أمر لن يقوم به العلماء التجريبيون، بل هو من مهام المفكرين والفلاسفة، وبالتالي فلا بد من الاهتمام بالعلوم الإنسانية ومنحها المكانة التي تستحقها، فلا نهضة علمية وتكنولوجية بدون نهضة فكرية.
[1]– علي عبد الرزاق-“الإسلام وأصول الحكم ص: 127