استكمالا لحوارنا مع الدكتور الفاضل إبراهيم رضا حول تراث مالك بن نبي الفكري، نقدم للقراء الجزء الثاني منه، وقد شمل قضايا متصلة بإنتاجات المفكر الكبير ونظراته في الفكر والمعرفة، قراءة وتحليلا واستشرافا مما ستتعرف عليه بمضامينه في متن الحوار:
س9: من الحقول المعرفية المهمة، البحث في نظرية المعرفة وأطرها المرجعية والنماذج المعرفية، وما أصبح يصطلح عليه اليوم بـ (البراديجم)، ما هي برأيكم الآفاق التي يتيحها مشروع بن نبي لحسن صياغة نظرية معرفية إسلامية تسهم في تقديم إجابات حقيقية عن الإشكالات الإنسانية المعاصرة، عوض الضياع في التفاصيل والجزئيات؟
هذا سؤال مهم وأساسي سواء تعلق الأمر بفكر مالك بن نبي أو بفكر غيره من مفكري عصر النهضة لأنه يتعلق بالمنطلقات المرجعية والمسلمات الكامنة التي يستمد منها هذا المفكر أو ذاك قيمه ورؤيته للوجود ولمختلف القضايا التي يبحثها؛ لهذا فإن أي عمل فكري أو مشروع ثقافي لا يمكن أن يقوم صرحه أو تتضح معالمه ومقاصده، مالم تكن المحددات المرجعية والمسلمات التي يقوم عليها وينطلق منها واضحة وجلية، وكل التباس أو غموض في هذه المنطلقات والأسس يؤدي لا محالة إلى غموض المشروع كله. فهذه الأسس المرجعية هي التي تبني ما أصبح يصطلح عليه اليوم بـ(البراديجم) كما ذكرتم، أو “الإطار المرجعي” الذي تنبثق عنه الرؤية ومن خلاله تتحدد الوجهة وترسم الهدف وتُعين الوسائل التي يتخذها الناس في الحياة، وتكيف سائر اختياراتهم الواعية وغير الواعية.
لهذا كانت دائرة الأسس المرجعية والمفاهيم المعبرة عنها، ولا تزال أهم ميادين الصراع الفكري والثقافي بين الثقافات والحضارات والفلسفات، وستظل كذلك ما دامت هي المكونة لتصورات وقناعات وعقائد الناس، وما دامت هي التي تشكل تصوراتهم ومذاهبهم في الحياة. لهذا تجد الفلسفة فلسفات من حيث أن المنطلقات ليست واحدة، ولهذا كذلك تجد أن نتائج منظومات التفكير ليست واحدة.
ومن المعلوم أن كل قراءة لتاريخ فكر ما، أو لثقافة ما، ما هي إلا تأويل يعكس بالدرجة الأولى مسلمات ومكونات ثقافة و تاريخ وتجرية الذي يقوم بتلك القراءة، حيث يكون هناك دائما إسقاط من نوع ما، لأن أية قراءة تظل محكومة شاءت أم أبت بمحددات “الإطار المرجعي” والحضاري الذي تنبثق منه، وتعكس تصوراته العامة وفلسفته للكون والحياة والإنسان؛ فالأسس المرجعية بمعناها العامّ هي الخلفية الثقافية والعلمية التي تؤطّر وضْع المصطلحات وتحديد القناعات وخلق التصورات.
وعودة البحث في الأسس المرجعية يرجع عند ابن نبي لإحساس نابع من كونه يعتقد أن من بدهيات قوانين الحضارات أن أي نهوض أو تجديد أو تغيير حضاري منشود لا يمكن أن يُدرك مراده وتتحقق غايته مالم يستمد قوته ومقوماته من مخزون الأمة العقدي والنفسي والثقافي والفلسفي؛ فهذا المخزون هو الذي يشكل باستمرار ذلك “الإطار المرجعي” الذي يحدد المنطلقات ويرسم التصورات ويحدد قيم الأمة، ويرسم ملامح تطلعاتها المستقبلية. وكل جماعة تحتاج كي تقوم وتستمر بالإضافة إلى العلم والتقنية إلى أطر مرجعية روحية ورمزية أخلاقية تكون مصدر تواصلها وإلهامها، توحد مشاعرها وتتحكم بردود أفعالها وتشترط رؤيتها العامة وتوجهاتها العميقة.
والأسس المرجعية في هذا المجال هي التي تنتظم في سلكها النُظم الفكرية المختلفة، كما تشكل الإطار المعرفي لمنهجية الفكر، وتحدد نظرته للكون وتفسيره للوقائع، وتمنح الحياة قيمتها ومعناها، وتبيّن للإنسان دوره في صنع الأحداث وغايته في الوجود، فيقع بذلك أثر تلك النظرة على الفرد والمجتمع في سعيهما لأداء رسالة التعمير والبناء الحضاري. ولكل مجتمع مُسلماته الثقافية الخاصة به من دون المجتمعات الأخرى، وتغييرها يؤدي بالتبع إلى تغيير ما انبنى عليها.
وكأن تركيز ابن نبي على ضرورة الاستمداد والارتباط بالأسس المرجعية للأمة يَرُد به على دعاة “المركزية الغربية” الذين لا يرون -كما يقول- بين تاريخ اليونان والغرب الحالي، محور هذه المركزية، إلا الفراغ، فيقدمون التاريخ والنهضة على أنهما “يبدئان من أثينا ويمران على روما ثم يختفيان، فجأة من الوجود لمدة ألف سنة، ثم يظهران من جديد بباريس في حركة النهضة، أما قبل أثينا فليس شيء يذكر في ذهن هذا الفرد المشحون بالكبرياء (الإنسان المنطلق من هذه المركزية) الذي لا يرى بين أرسطو وديكارت إلا الفراغ؛ وهذا هو ما سماه أستاذنا عبد الوهاب المسيري بـ”مشكلة التحيز” والتي تنشأ من زعم الإنسان الأوربي ان تاريخ وحضارة أوربا هي المحور الرئيس لتاريخ البشرية وأن جميع الحضارات البشرية تقع إنجازاتها على هامش انجازات الحضارة الأوربية. بل ويعمل من أجل أن تتحول هذه الرؤية إلى نماذج ونظريات “عالمية” و”صالحة لتفسير كل شيء وفي كل زمان ومكان”.
ومشكلة تحيز كثير من المفكرين والفلاسفة الغربيين لتراثهم الفكري الفلسفي والحضاري، تجعلهم ينظرون إلى تاريخ الحضارات الانسانية على أنها مجرد ظلال وانعكاس لحضارتهم التي بدأت مع اليونان وتقوت أكثر مع الرومان لتنتقل بعد ذلك لتشكل من جديد معالم حضارة الأنوار وتبني أسس النهضة الحديثة.
وبمناسبة هذا السؤال الهام حول البراديجم أو الإطار المرجعي، لا بد أن أشير هنا إلى جهود الدكتور عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- الذي كشف في عدد من كتاباته كيف يحصل التحيز للمركزية الغربية في العلوم الإنسانية الغربية حين تنبع من رؤية غربية للعالم ومن تجربة الإنسان الغربي التاريخية. وهذا ما يُطلق عليه التمركز حول الذات الغربية، وهذه هي الترجمة الدقيقة لعبارة Euro-centricity. والمركزية الأوربية هي: (الممارسة) الواعية أو غير الواعية، التي تركز على الاهتمامات الأوربية أو الغربية عموما في مجالات الثقافة والقيم على حساب باقي الثقافات.
وعلى الرغم من كون ابن نبي لم يشر مباشرة إلى مصطلح “التحيز” ولم يقف عنده كثيرا كما هو الأمر بالنسبة للدكتور عبد الوهاب المسيري مثلا، إلا أن كتاباته في هذا المجال تعتبر رائدة في التنبيه على هذا الموضوع الهام، خاصة على مستوى بناء الرؤية الكلية للتاريخ والحضارة التي من شأنها أن تتأسس عليها النهضة المنشودة، لأن من لم يُدرك أوجه الاستقلال، ويكتشف نواحي الاختلاف والتميز الذي يفصل بين تاريخ الأمم والحضارات، لا يمكن أن يُدرك المفاتيح التي من شأنها تحقيق التجديد المنشود، أو بناء النهضة المناسبة ولن ينحو إلى الإبداع في هذا المجال ، وإنما سيكتفي بالاتباع والانجذاب إلى ما قُدم له على أنه المحور والمركز الذي انبثقت منه كل القيم المشرقة والإبدعات المتعلقة بعالم الأشياء والأشخاص، وتقدم له كل إنجازات التاريخ البشري على أنها وليدة ذلك المحور الخلاق باستمرار دون غيره .
ومن هذا المنطلق لا يُحبذ ابن نبي الاكتفاء بنقل أو ترجمة المفاهيم المتعارف عليها في الغرب والمتعلقة “بالحضارة” أو “الثقافة” وغيرها إلى لغته، لأنه يعتقد أن هذه المفاهيم مرتبطة بالأصول الحضارية الغربية التي نشأت في ظلالها. ولهذا فمن الضروري التحرر من التقليد الحرفي والمعجمي في التعامل مع هذه المصطلحات. يقول : “ومن الواجب أن نفكر مليا في هذه المصطلحات، لا من طريق الاستعانة بقاموس تمسك به اليد، ولكن من طريق الاستعانة برأس مستقر بين اليدين. ومن الأدب الإنساني الذي اطلع عليه ابن نبي كذلك وكان له أثره الواضح في تكوين رؤيته وفلسفته المُستقلة والغير متحيزة للرؤية وللمركزية الغربية في الحضارة والتاريخ، قراءته للشاعر الهندي الكبير رابندارت طاغور، الذي فتح ضميره وفكره على الطاقات الروحية التي تختزنها آسيا، ومن خلال هذه القراءة وغيرها اكتشف كما قال أن “العبقرية لا تولد على ضفاف السين أو التاميز فحسب، أي مجور المركزية الغربية، بل قد تولد على ضفاف الغانج أيضا. فحررته هذه القراءة نسبيا من التمحور حول الرؤية التي تجعل الحضارة والتاريخ الغربي محورا للتاريخ البشري، واكتسب بطاغور ذلك اليقين المريح لإنسان مستعمَر. وكان إغراؤه يحرره كما ذكر ذلك في مذكراته شاهد القرن من العبودية التي كانت ثقيلة شديدة الوطأة -والتي ما تزال كذلك أحيانا- على روح المثقفين العرب تجاه عبقرية أوروبا وثقافتها.
كما تأثر ابن نبي أيضا بالمهاتما غاندي، وبمواقفه من ثقافة المستعمر الإنجليزي، ولعل هذا الاطلاع على مثل هذه التجارب الخارجة عن محور الغرب الأوربي هو الذي دفع ابن نبي إلى الإلحاح على ضرورة انفتاح المسلمين على القارة الآسيوية، قصد تكوين حلف يمتد من طنجة إلى جاكرتا، يقف في وجه الدول العظمى الذي يمتد نفوذها من واشنطن إلى موسكو. وهذا ما يعرف اليوم بتيار دول عدم الانحياز. وهذا ما نجده واضحا في كتابه “فكرة الإفريقية الأسيوية في ضوء مؤتمر باندونج”.
س 10: من الإشكالات العويصة التي سببت كثيرا من الصدام بين المشاريع الفكرية إشكال توفيد المفاهيم الحداثية وتحديات توطينها وما يرتبط بذلك من قضايا الانفتاح والتفاعل الحضاري والتراث والتجديد والأصالة والمعاصرة، فهل هناك إمكانات نجدها في مشروع بن نبي تفيدنا في فك هذا الاشتباك؟
هذا السؤال كذلك مهم جدا، خاصة ونحن نتناول فكر ومشروع مالك بن نبي المُتمحور حول دراسة مشكلات الحضارة والثقافة، ذلك لأن المصطلحات والمفاهيمفي هذا المجال، تعتبر دائما، وعبر التاريخ البشري مرايا تعكس ثقافات الأمم وتَعبر عن إنجازات حضاراتهم، كما أنها تُعتبر مفاتيح العلوم ولبنات تتأسس عليها مختلف المعارف وتتحدد بها مجالاتها؛ ويعرف المفهوم عادة بعدة تعريفات يمكن أن نعتمد منها أنه مجموعة من الصفات، والخصائص التي تحدد الموضوعات التي ينطبق عليها اللفظ تحديدا يكفي لتمييزها عن الموضوعات الأخرى. وكل الحضارات والثقافات القديمة والحديثة، رسخت وجودها الفكري حين حددت مفاهيمها ونحتت مصطلحاتها؛ ويمكن القول بأن تاريخ الثقافات، وتاريخ العلوم والمعرفة الانسانية عموما، ماهو إلا تجليات لتلك المصطلحات والمفاهيم المتداولة في تلك الثقافات والحضارات. ومن هنا يُعتبر تحديد المصطلحات وبناء المفاهيم ضرورة حضارية يكتسب بها الفكر صيرورته وتتحدد أهميته وأصالته في تاريخ الأفكار.
ولا يمكن أن يقام صرح أي عمل فكري، أو يتضح غرضه ومراده، إلا من خلال صياغة وبناء مجموعة من المفاهيم التي يستعملها الباحث، بناءا دقيقا وواضحا، وإلا كان الغموض والاضطراب نصيب ذلك العمل كله.
ويرى ابن نبي أنه كلما تعلق الأمر بالبحث في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية عامة، كلما كان تحديد المصطلح وضبطه ضروريا أكثر، معرفيا ومنهجيا، لأن هذا المجال -في نظره- لم يستطع بعد أن يضع لنفسه مصطلحات ثابتة ومستقلة، وبريئة من التسلط الإيديولوجي والمذهبي، كما هو الشأن بالنسبة لمجال العلوم التطبيقية: الرياضيات والفيزياء والكيمياء وغيرها، أما في العلوم الاجتماعية والانسانية فإن بعض المفاهيم تبدو أحيانا غير محددة في ذهن القارئ في البلاد الإسلامية، حيث نجد أن اللغات المحلية لم تتمثل تماما بعض المصطلحات الحديثة”.
ومن هنا تأتي دعوته إلى ضرورة الاستقلال الفكري في دراسة مشكلاتنا الحضارية والاجتماعية؛ لأنه كان يعتقد دائما أن هناك خصوصيات كثيرة تتميز بها كل حضارة عن غيرها، وأصول تنفرد بها ولن يمكن لمجتمع في عهد التشييد أن يتشيد بالأفكار المستوردة أو المسلطة عليه من الخارج … فعلينا أن نكتسب خبرتنا، أي أن نحدد موضوعات تأملنا وألا نسلم بأن تحدد لنا، وبكلمة، علينا أن نستعيد أصالتنا الفكرية، واستقلالنا في ميدان الأفكار حتى نحقق بذلك استقلالنا الاقتصادي والسياسي.
ويرى أن أهم ما يميز مفاهيم الحضارة العربية الإسلامية عن غيرها من الحضارات، أنها مفاهيم نشأت عن حضارة وعقيدة ايمانية مُلهمة هي عقيدة التوحيد، لهذا دعا في كتابه “المسلم في عالم الاقتصاد ” كما في جل كتبه الأخرى إلى ضرب من التحيز مثلما هو الشأن عند الدكتور إسماعيل راجي الفروقي والمسيري وغيرهما، وذلك من خلال دعوته إلى ضرورة إبداع بدائل فكرية، ومفاهيم ومناهج علمية مستقلة تتناسب مع البيئة الإسلامية بدل الاكتفاء باستيرادها كما هي من الغرب الأوربي. ويرى أن “لكل حضارة نمطها وأسلوبها وخيارها، وخيار العالم الغربي ذي الأصول الرومانية الوثنية قد جنح بصره إلى ما حوله مما يحيط به نحو الأشياء، بينما الحضارة الإسلامية عقيدة التوحيد المتصل بالرسل قبلها، سبح خيارها نحو التطلع الغيبي وما وراء الطبيعة.. نحو الأفكار”.
ويؤمن -رحمه الله- بأن من لا يصنع أفكاره الرئيسة، ويني مفاهيمه المعبرة عن كيانه وهويته لا يمكن له على أية حال أن يبني حضارته فضلا عن أن يصنع المنتجات الضرورية لنهوضه، وبعبارة ابن نبي كما بين ذلك في كتابه “إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث، “علينا أن نستعيد أصالتنا الفكرية، واستقلالنا في ميدان الأفكار حتى نحقق بذلك استقلالنا الاقتصادي والسياسي”. فالمفاهيم هي مرآة للحضارة، تعكس نظمها وقيمها الاجتماعية والاقتصادية، كما أنها تحدد مسارها. “ومن الواضح أن من أكثر البوادر دلالة على اتجاه مجتمع ما، هو اتجاه أفكاره، فإما أن تكون متجهة إلى الأمام، إلى المستقبل، أو إلى الخلف اتجاها متقهقرا، اتجاها ملتفتا إلى الماضي بصورة مرضية. وهكذا فالأفكار في الأخير ما هي في نظر مالك بن نبي إلا مرآة للحضارة، تعكس نظمها وقيم إنسانها الاجتماعية والروحية، كما أن مسار الحضارة بدوره إنما هو انعكاس للفكر الذي يحركه والفكرة الدينية التي توجهه. وأرى أن مفاتيح مالك، في هذا المجال أو غيره، لا تزال تملك قدرة توليدية في مجال المفاهيم والمنابع والعمارة الحضارية بكل امتداداتها وتنوعاتها.
س 11: من المفاهيم المركزية في مشروع مالك بن نبي مفهوم الحضارة والثقافة، كيف نظر ابن نبي إلى العلاقة بين المفهومين؟.
صحيح أن مفهوم الحضارة مفهوم مركزي في رؤية مالك ابن نبي لكل المشكلات الأخرى التي تناولها وتطرق إليها في مشروعه، ومفهوم الثقافة والزمن والنهضة وغيرها من المفاهيم تظل مفاهيم تابعة لهذا المفهوم المركزي، حيث تبقى تجليات مفهوم الحضارة لصيقة بكل مظاهر الفرد والمجتمع الذي ينتسب إليها، وشديدة الارتباط بحركة المجتمع سواء في صعوده في مدارج الرقي والازدهار، أو في انحطاطه وتخلفه، وبالتالي، فلا بد من فهم عميق، و”فقه حضاري” لكل من يريد دراسة المجتمعات دراسة واعية وشاملة؛ لأن حركة المجتمعات الحضارية ظاهرة تخضع كغيرها من الظواهر الإنسانية لـ “سنن” و”قوانين” اجتماعية وتاريخية ثابتة، لا بد من الإحاطة بها، وإدراك كنهها لكل من يريد أن يعيد لأمته مجدها الحضاري الغابر، ويحقق لها ازدهارها المنشود.
وانطلاقا من هذا الاعتقاد الراسخ عنده بأهمية مفهوم الحضارة وضرورة “فقه” حركتها منذ انطلاقتها الأولى إلى أفولها، يحاول مالك إعطاء تعريف واسع للحضارة يتحدد عنده في ضرورة توفر مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده، منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه، وعلى هذا فكل ما يوفره المجتمع لأبنائه من وسائل تثقيفية، وضمانات أمنية، وحقوق ضرورية تمثل جميعها أشكالا مختلفة للمساعدة التي يريد ويقدر المجتمع المتحضر على تقديمها للفرد الذي ينتمي إليه.
ولا يمكن لأي مجتمع أو شعب من الشعوب أن يحقق نهضته ويحل مشكلاته مالم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية للملحمة الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها.
ويرى أن أول ما يجب علينا أن نفكر فيه حينما نريد أن نبني حضارة، أن نفكر في عناصرها تفكير الكيماوي في عناصر الماء إذا ما أراد تكوينه، فهو يحلل الماء تحليلا علميا ويجد أنه يتكون من عنصرين (الهيدروجين والأكسجين)، ثم بعد ذلك يدرس القانون الذي يتركب به هذان العنصران ليعطينا الماء. وهذا بناء ليس بتكديس.
وتحليل مُركبات الحضارة وتتبع مكوناتها يؤول عنده إلى ثلاثة عناصر أساسية وهي: أولا عامل الإنسان، وثانيا عامل التراب أو الامكانات المادية والقدرات العلمية، وثالثا عامل: الزمن أي الإمكان والإطار الزماني اللازم لإنجاز متطلبات الحضارة؛ فإذا تحرك “الانسان” تحرك المجتمع، ونشطت حركته، وازدهرت فيه الحضارة، وإذا سكن سكن المجتمع وجمد، وساده الكساد وغمرته الظلمات، تبعا لما يسميه بمستوى انخفاض أو ارتفاع “فعالية الإنسان في التاريخ “. ويعتقد أن الفكر بغير فعالية إنما هو ترف لا يزن شيئا في موازين التاريخ، والفعالية بغير فكر طريق أعمى يدفع المجتمع عن سبيل التقدم.
غير أن هذه العناصر التلاثة تظل بغير جدوى ما لم يتم وضعها وتفعيلها ضمن مشروع متكامل وهذا هو دور ما سماه بـ” الفكرة الدينية” التي تجعل الانسان يتفاعل بـ”فعالية” مع باقي العناصر الأخرى لتحقيق ميلاد الحضارة أو قيام النهضة، ويرى ابن نبي أن العالم الإسلاميلم يعرف بعد مبدأ “الفاعلية” في استثماره للوقت، لهذا تذهب ساعاته هباء، تترك وراءها العدم، والأمة الإسلامية إذا أرادت لنفسها النهوض الفعلي لا بد أن تزيد معدل فعاليتها ونموها حتى تتدارك الفجوة القائمة بينها وبين غيرها من الأمم المتقدمة.
ويرى أن الحضارة لا تستقر في مكان واحد في الأرض، كما أنها لا تتمركز في رقعة جغرافية معينة، أو عند شعب معين، بل تسير وتتحرك من مكان لآخر، ومن شعب لآخر:(… لأن الحضارة تسير كما تسير الشمس، فكأنها تدور حول الأرض مشرقة في أفق هذا الشعب، ثم متحولة إلى أفق شعب آخر…).
وكل ما تقدم هو ما جعل رؤية بن نبي وفلسفته للتاريخ والحضارات تتجاوز تلك التصورات العرقية التي حكمت تصورات بعض الغربيين للحضارة؛ فنظر إلى أن الانجاز الحضاري هو وليد ملحمة إنسانية أسهمت الإنسانية جمعاء في إثرائه، ولا يحق لأي كيان أو عرق بشري أن يدعي لنفسه التميز أو التفوق على الآخرين، أو أن يسعى لاستغلالهم وفرض ثقافته ونهمه المادي والعنصري عليهم. وبهذا اكتسبت رؤية مالك بن نبي وفلسفته للتاريخ والحضارة بعدا إنسانيا وعادلا .
وهكذا ظهر “مالك بن نبي” وكأنه صدى لعلم ابن خلدون يهمس في وعي الأمة بلغة القرن العشرين، فأظهر أمراض الأمة، مع وصف أسباب نهضة المجتمعات، ووضع الاستعمار تحت المجهر، فحلل نفسيته ورصد أساليبه الخبيثة في السيطرة على الأمم المستضعفة -وبخاصة المسلمين- ووضع لهم معادلات وقوانين “الإقلاع الحضاري”.. ولكن الأمة لم تقلع حضاريا؛ وذلك إما لثقل حجم التخلف بين أفرادها ومؤسساتها، وإما لضعف المحرك المقرر أن يقلع بها، وإما لاجتماع السببين معا، ومع ذلك فقد بقيت هذه المعادلات والقوانين “نظريات” مفيدة للمحركين الذي يهتمون باستيناف انطلاق “المشروع الحضاري” للأمة..
لهذا لا غرابة أن نجد من الدارسين للفكر الإسلامي الحديث من يعتبر مالك بن نبي بمثابة ابن خلدون العصر الحديث، وأبرز مفكر عربي عني بالفكر الحضاري منذ ابن خلدون، ومع أنه قد تمثل فلسفات الحضارة الحديثة تمثلا عميقا، واستلهم في أحايين كثيرة أعمال بعض الفلاسفة الغربيين إلا أن ابن خلدون بالذات يظل أستاذه الأول وملهمه الأكبر.
ومالك بن نبي لا يخفي تأثره بفكر ابن خلدون والاستمداد من نظرياته حول العمران البشري، بل نجده يشير إلى اقتباسه لبعض “المفاهيم الخلدونية” وتحليله على ضوئها، لجوانب من “مشكلات الإنسان والحضارة”؛ وقد ذكر هذا في مذكرات حياته “شاهد القرن”. وقال عن ابن خلدون بأنه “قد تمكن من قبلُ من اكتشاف منطق التاريخ في مجرى أحداثه، فكان بهذا المؤرخ الأول -في نظره – الذي قام بالبحث من هذا المنطق، ويرى أنه من قام بصياغته لذلك القانون فعلا” .
س 12 : ما هي الإشكالات العلمية التي يمكن للباحثين أن يشتغلوا عليها في فكر مالك بن نبي، والتي ترونها لم تدرس الدراسة العلمية اللازمة، وتصلح أن تكون أطروحات وازنة؟.
واجه مالك بن نبي إشكالات معرفية وقضايا علمية عديدة، نظرا لتعدد الجوانب التي اهتم بها وخصص لها مؤلفاته العديدة، وكثير من القضايا التي أشار إليها تستحق في نظري أن تُعاد دراستها على ضوء المستجدات التي حدثت فى العالم العربي الإسلامي، وفي علاقاته مع بقية دول العالم، وأرى أن تُدرس إما توظيفا لما قدمه فيها، أو إكمالا لما بدأه، أو نقدا لما ذهب إليه، أوتوضيحا لما أشكل منها .
ولعل أهم ما نستفيده من دراسة هؤلاء الأعلام والمفكرين من أمثال بن نبي، بالإضافة إلى ما يقدمونه لنا من علوم ومعارف، هو الاستفادة من طرق تفكيرهم، ومناهج صياغتهم لنظرياتهم التي أقاموا عليها مشاريعهم وبنوا بها رُؤاهم وافكارهم، وحاولوا من خلال ذلك كله تقديم الأجوبة المناسبة لحاجة وواقع مجتمعاتهم ، والمناسبة لتحقيق الاستجابة الضرورية لتحديات عصورهم .
غير أنني أرى أن أهم ما ينبغي أن نهتم به عنده وعند غيره من المفكرين خاصة من قبل الشباب ميزة ومهارة التفكير النقدي، والرغبة في تجاوز المألوف والمعتاد، وهذه الميزة بارزة في مختلف مؤلفات مالك بن نبي وفي تناوله لكل القضايا المرتبطة بمشكلات النهوض الحضاري، وتبدأ من قدرته على الملاحظة الفاحصة الناقدة للظواهر الاجتماعية والتاريخية، وكذلك تحليلاته النقدية الدقيقة لواقع بلاده الجزائر ومن خلاله واقع سائر البلاد والمجتمعات العربية. ويرى أن بعض ما يحكم لواقع هذه البلدان والمجتمعات يتمثل فيما يسميه بسيادة: الأفكار الميتة والأفكار القاتلة.
و”الأفكار الميتة” تتمثل عنده في كثير من المسلمات والأفكار التي نتداوالها في تراثنا لمجرد انتسابها لبعض أعلام تراثنا حتى اكتسبت بحكم أقدميتها وتَعَوُد الناس على ذكرها قداسة يصعب دحضها أو نقدها على الرغم من كونها فاقدة لكل صلاحية في واقعنا الحالي، بعدما كانت صالحة في زمانها في الزمن الماضي، تماما كالدواء يُمكن أن يكون صالحا لمريض في زمن ما ويتحول إلى خطر حين تنتهي صلاحيته، أما الأفكار القاتلة فهي أفكار لم تنبت في بيئتنا ولا من تراثنا ولكنها افكار أريد لها أن تُفعل في بيئتنا على الرغم من عدم مناسبتها لفصيلة الدم التي تحملها حضارتنا وثقافتنا لذا لايُنتظر منها إلا أن تكون مميتة وقاتلة لنا.
وبما أن الاستقراء يثبت كما يرى ابن نبي أن النواحي التي يمارس الإنسان من خلالها تأثيره على بيئته لا تعدو أن تخرج عن ثلاث، هي: الناحية الفكرية، الناحية العملية، الناحية المالية، و التوجيه ينبغي أن يستهدف هذه النواحي بالذات: توجيه الثقافة، توجيه العمل، توجيه رأس المال”.
وأول خطوة يتطلبها هذا التوجيه للثقافة في البلاد الإسلامية هو ما سماه ابن نبي بضرورة “النقد الذاتي” أو “التصفية”. ويرى أن هذه التصفية لا تتأتى إلا بفكر جديد، يحطم ذلك الوضع الموروث عن فترة تدهور مجتمع أصبح يبحث عن وضع جديد، هو وضع “النهضة” ونخلص من ذلك إلى ضرورة تحديد الأوضاع بطريقتين:
- الأولى: سلبية تفصلنا عن رواسب الماضي.
- الثانية: إيجابية تصلنا بمقتضيات المستقبل”.
وهذه التصفية لم تتحقق بعد في العالم الإسلامي في نظر بن نبي، على الرغم من كل المحاولات التي قام بها جل أقطاب الحركة الإصلاحية الحديثة الذين قاموا بمحاولات إيجابية وهادفة للتخلص من مخلفات الانحطاط العام الذي شهده المسلمون في بعض مراحل تاريخهم المتأخرة، إلا أن الدوائر التقليديةلم تعبأ بتلك المحاولة … ولم تستطع أن تتصور النتائج التي تقتضيها الحركة الإصلاحية. ويرى أن هذا الأمر يعود بلا شك إلى ما بقي في أنفسنا من وطأة شديدة من مخلفات الانحطاط.
أما الخطوة الثانية التي ينبغي للثقافة أن تقوم بها لتصلنا بمقتضيات المستقبل، فيعتقد ابن نبي أن هذا الأمر يحتاج إلى عمل ضخم وبرنامج طموح لا يمكن القيام به من قبل الأفراد فقط، بل لا بد من تعاون وتكاثف كل الفعاليات السياسية والثقافية لتحقيق ذلك. ويجب أن يكون توجيها شاملا لكل العناصر الأربعة التي تكون الجانب الثقافي عنده وهي:
- عنصر الأخلاق والقيم الضروري لتكوين الصلات الاجتماعية.
- عنصر الجمال لتكوين الذوق العام.
- المنطق العملي لتحديد أشكال النشاط العام.
- الصناعة أو ما يسميه كذلك بالفن التطبيقي الموائم لكل نوع من أنواع المجتمع.
والتوجيه التربوي للثقافة لهذه العناصر الأربعة هوالذي سيحدث التوازن الحضاري المطلوب لحركة الإنسان والمجتمع. لأن كل عنصر من هذه العناصر يكمل باقي العناصر ويدعمها، مما يجعلها مجتمعة كفيلة بجمع شروط الفعالية التي هي الشيء الذي يريده ابن نبي من وراء كلمة ثقافة. ويرى أنه “قد كانت الانطلاقة الحديثة للمجتمع الإسلامي، كما يقول، معاصرة لانطلاقة أخرى في اليابان، فالمجتمعان قد تتلمذا سوية في مدرسة الحضارة الغربية، واليوم هاهي اليابان القوة الاقتصادية الثالثة في العالم. “فالأفكار الميتة” في الغرب لم تصرفها عن طريقها، فقد بقيت وفية لثقافتها، لتقاليدها، لماضيها”.
س 13: عرف عنكم الاهتمام الكبير بالمسألة المنهجية في البحث العلمي، ماهي توجيهاتكم في هذا الصدد للباحثين من أجل القراءة المثمرة لفكر مالك بن نبي؟
قبل الجواب عن هذا السؤال في علاقته بفكر مالك بن نبي، لا بد من الإقرار بأن البحث العلمي في العصر الحديث يعتبرأحد أهم شروط بقاء الأمم واستمرار وجودها وتحقيق رقيها؛ وكل ما يحقق هذا الشرط يكاد يوضع في مصاف الضروريات ومُقدمة العزائم، لأن أمن الأمم ورقيها مرتبط بنوع العلوم والمعارف التي تصنع خريطتها المعرفية والإدراكية، وتُحدد تصورات أبنائها نحو الإنسان والكون والحياة.كما أنك إذا أردت أن تعرف مستقبل أمة من الأمم، فانظر إلى ما يُدرس في مؤسساتها التربوية ومعاهدها التعليمة، وكذلك إلى الطرق والمناهج التي تُقدم بها تلك المعارف وتُدرس بها تلك العلوم.
ولا يُمكن لأي أمة اليوم أن تتبوأ مكانتها بين أمم ومجتمعات العصر الحاضر التي توصف بمجتمعات المعرفة من دون ان تمتلك رؤية واضحة لحاضر ومستقبل البحث العلمي بها.
وكلما كان البحث العلمي بهذه المجتمعات ينصب على قضايا وإشكالات الواقع ويسلط مختلف إمكانته وأدواته البحثية لإيجاد حلول واقعية وعلمية مناسبة لها،كلما تمكنت تلك المجتمعات من فهم عصرها واستيعاب قضاياه واشكالته المختلفة ، مما يؤهلها لإمتلاك قدرات الانخراط الإيجابي فيه، فضلا عن امتلاك سلطة التمكين والقدرة على تجاوز أمراضها ومختلف المشاكل التي تعترض طريقها، ومن ثمة الحفاظ على استقلال قراراتها وتوجهاتها الآنية والمستقبلية؛ كما أن العكس يصح كذلك لأن عدم امتلاك مجتمعات لرؤية واضحة في هذا المجال يحعل البحث فيها في أكثره منصب على قضايا الماضي مستجيرا بعلمائه من الأسلاف وبامجاده في هذا المجال لإيجاد حلول لمشكلاته وفك ألغاز حاضره وعصره .
فتنصرف الجهود لفك إشكالات الماضي هروبا من إشكالات الحاضر،كمن يسعى لجمع عملة فات زمانها وانتهت صلاحيتها، ويبذل عمره في ذلك وإذا احتاج صرف درهم واحد منها وجده لا يُغني شيئا، فلا تفيده الأطنان منها من الخروج من دائرة الفقر والحاجة إلى غيره ممن تُقبل عملته و تُصرف.
وقد يحتج مُحتج ويرى أن ربط البحث العلمي بالعملة هو ربط له بالسوق، والسوق تَطرد فيه العملة الردئية والعملة الجيدة، فأقول إذا كان هذا صحيحا بالنسبة للعملة فإن عالم الأفكار والبحث العلمي عموما وإن كان يقوم على عكس العملة في التداول إذ الأفكار والنظريات العلمية الجيدة والصحيحة هي التي تطرد دائما ما يُعاكسها من الأكاذيب والأراجيف وغيرها؛ غير أن هذا لا ينفي اشتراك هذه الأفكار والنظريات مع العملة في ضرورة تحقيق الانتفاع بها وهذا لا يتحقق لها من دون حفاظ هذه الأفكار ونظرياتها على صلاحيتها لمواجهة تحديات حقيقية، وفي إيجاد الحلول المناسبة لمشكلات وحاجات عصرها، بدل مواجهة أوهام أو إعادة الانخراط في إيجاد حلول لمشكلات انتهى آوانها وانصرم زمانها حتى لو تعلقت بمراحل من تاريخ أمجادنا، ولولا هذا التقدير لصلاحية الأفكار وضرورة ارتباطها بحل مشاكل وتحديات الواقع، ما تكرر لدى علمائنا تعوذهم من كل علم لا ينفع، وترك كل فقه لا طائل تحته. وكل ما ليس تحته عمل فالخوض فيه يُعد من ترف الفكر الذي لايُشتعل به، لأن عمل العقلاء منزه أبدا عن العبث، ولاشك أن صرف الجُهد وبذل أحسن ما يملكه الإنسان وهو عمره فيما لايتحقق به نفع، ولا تستمد منه فوائد يُعد من أكبر مظاهر العبث وعدم أداء امانة التعمير والتسخير والاستخلاف التي أوكل بها الحق سبحانه الانسان في هذه الدنيا .
غير أن الفوائد والنتائج في البحث العلمي تختلف من مجال لآخر، فهي في مجال العلوم التطبيقية الدقيقة تبدو جلية واضحة، يمكن لكل ناظر أوباحث أن يلحظها ويرى أثرها في الحياة بسهولة، كما أن حركتها تخطع للملاحظة الحسية، ويمكن إجراء التجارب والتطبيقات العملية عليها، و يمكن من خلال تتبع مسارتها وضبط قواعدها ونطرياتها من التنبؤ بمستقبلها كذلك؛ أما البحث العلمي في مجال العلوم الانسانية والاجتماعية، مجال اشتغال مالك بن نبي، فلا يمكن أن يخضع لنفس مناهج العلوم التطبيقية، لأن مجاله يتمحور حول الانسان، والثقافة، والحضارة، والقيم، وليس الأشياء والطبيعة كما هي العلوم الطبيعية، والإنسان عالم متعدد الأبعاد في خلفياته وفي تصوراته وكذلك في سلوكياته وأفعاله، فهو عالم لا يمثل جانبه الظاهري المتمثل في أفعاله وسلوكياته غير الجانب البارز من شخصيته وكل ما يحدد ملامحه وسلوكياته مدفون في أعماقه وتصنعه تصوراته كما تُحدده مشاعره المتقلبة حينا والمستقرة أحيانا أخرى .
واختلاف موضوع العلوم الطبيعية عن موضوع العلوم الإنسانية طرح عدة إشكالات يأتي في مقدمتها إشكال” موضوعية” البحث في الظاهرة الإنسانية من جهة، وإشكال المنهج أو المناهج المعتمد في دراستها من جهة أخرى..
فالظاهرة الإنسانية ظاهرة معقدة وواعية ومتعددة الأبعاد، كما أنها ظاهرة متغيرة باستمرار وتتداخل في حركتها ودراستها الذات مع الموضوع.
ولهذا نجد أن المناهج التي تحكم عالم الانسان فردا وجماعة مناهج لا تتدعي الوصول إلى حقائق ونتائج نهائية، يمكن أن تتسم بالإطلاقية والدقة والتباث والإطراد كتلك التي تتسم بها نتائج المناهج في عالم الأشياء والطبيعة، وأكثر المناهج في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية تقف عند حدود تقديم نتائج تقريبية تسعى إلى الكشف أكثر ما يمكن عن مكنونات الإنسان وفهم وتفسير مختلف سلوكيات الأفراد والظواهر الإجتماعية. غير أن هذا لا يعني انتفاء الصبغة العلمية الدقيقة على هذه المناهج التي تدرس قضايا واشكالات الانسان، فردا وجماعة، ذلك لأن أية معرفة سواء في المجال الطبيعي أو المجال الانساني لا يُمكن أن ترقى غلى مستوى “العلم” مالم تجتز قنوات المناهج العلمية الدقيقة التي تقوم بغربلتها والكشف عن صحيحها من سقيمها.
فالعمل بأسلوب البحث العلمي واحترام قواعده وضوابضه المنهجية لمعالجة المشكلات الحياتية في كل المجالات أصبح ضرورة لا بد منها؛ و تهدف البحوث التي تجرى في الجامعات وفي المؤسسات والمراكز البحثية المختلفة إلى إثراء العلم والمعرفة في جميع المجالات النافعة.
وإجمالا فالمنهج والمناهج بصيغة الجمع تعتبر دائما أداة العلم، وعدته، ولا سبيل لإحراز تقدم في مجال البحث العلمي بدون إعمال منهج صحيح، فبدون المنهج يتخبط الباحث في سيره، وقد يضل ولا يحقق ثمرة أو غاية من بحثه، ولذا فالإنسان –وهو ينشد الحق ويفتش عنه في أنحاء الوجود، وميادين العلم، ويتطلع إلى التقدم– في حاجة ماسة إلى منهج، ولا سبيل له إلى إدراك الحق، وإحراز تقدم حقيقي في مجال العلم بدونه؛ ويكتسب البحث العلمي المُمنهج في مجتمعات اليوم أهمية خاصة ومتزايدة ، وجل الدراسات المستقبلية تبين أن البشرية انتقلت في العقدين الأخيرين من العصر الصناعي الى موجة ثالثة ركيزتها الأساسية المعلومة التي أصبحت رهان الاقتصاد ومدار السلطة ومقوم التنمية.
وارتباطا لهذا الموضوع بمشروع المفكر مالك بن نبي كما ذكرت في السؤال، أقول: إن المفكر الحقيقي -في نظري- هو ذلك المفكر الذي يجعل القارئ لكتاباته أو المُستمع لمحاضراته، حتى لو نسي القارئ بعض التفاصيل، لا ينسى، القوالب المنهجية والرؤية الكلية التي قُدمت من خلالها تلك التفاصيل، ومالك بن ني من طينة هؤلاء المفكرين الذين لا يمكن للقارئ أن ينسى كثيرا من المصطلحات والمفاهيم والقواليب المنهجية التي قدم من خلالها رؤيته للتاريخ والحضارة ،فإذا ذُكرت مثلا علاقة المُستعمر بالمستَعمر تبادر إلى ذهن القارئ مباشرة مجتمع “القابلية للاستعمار” ومبدأ الفاعلية الاجتماعية، وهكذا بالنسبة لكل التي تناول بها مشكلات النهوض الحضاري.
ولم يقتصر بن نبي في بناء منظومته الحضارية على منهج واحد، وإنما لجأ إلى عدة أدوات ومناهج للنظر إلى “مشكلات الحضارة” وتحليل مختلف عناصرها وأطوارها. ويتعامل مع مختلف هذه المناهج بشكل متكامل، ووفق ما تفرضه عليه وحدة الموضوع المدروس، لأن مختلف فروع العلوم الاجتماعية والإنسانية “لا تغطي بصفة كاملة شاملة جميع عناصر الأوضاع الإنسانية، ولا يمكن أن يختص كل منها بعنصر دون غيره. ذلك أن العناصر تتداخل وتتشابك، مما يؤدي إلى اللجوء إلى عدة فروع من العلوم الاجتماعية لطرح قضية واحدة أولتحليلها ولتدارسها … فترابط مواضيع الحضارة والثقافة وهموم التغيير والنهوض جعلت بن نبي يلجأ إلى الاستمداد من حقول معرفية ومجالات علمية عديدة كما الزمته بالتوسل بمناهج عديدة يتداخل ويتكامل بعضها ببعض.
كما نجده يلجأ إلى استعمال الرسوم البيانية، وتوظيف منهج الرياضيات في صياغة المُعادلات التي تقوم عليها الحضارات، وهذا ما يتجلى في معادلته هذه التي تلخص مثلا عناصر الحضارة الضرورية :
الحضارة=ّ{الانسان +التراب +الوقت }× الفكرة الدينية .
كما نجده يلجأ كثيرا في هذا المجال إلى توظيف ما استفاده كذلك من دراسته للعلوم التطبيقية والتقنية بمدرسة اللاسلكي بفرنسا، حيث يوظف في كتاباته مفاهيم مستمدة من الفيزياء أو الميكانيك، أو من علم الحياة، أو الإحصائيات أو غير ذلك. حتى غدت كتاباته –كما يقول عنها الدكتور عبد السلام الهراس– “تكاد تكون محسوبة تخضع لعقل هندسي يدرك معنى التناسب والتوازن والأبعاد كأدق ما يكون الإدراك، ولولا أنها لغة، لقلنا إنها رموز رياضية، لأن مالكا يحاسب الكلمات حسابا عسيرا، ولا يسمح لأي كلمة أن تفرض نفسها عليه، أو أن تسيل من قلمه دون أن تحمل شحنة فكرية من صميم الموضوع ومن جوهر الفكرة، دون أن يكون لها إشعاعها الخاص الضروري للفكرة العامة”.
ونستخلص من هذا كله أن تحليلات بن نبي ومقارناته، واستنتاجاته المختلفة والمتباينة، لم تكن قط أسيرة منهج واحد، ولا وليدة مجال معرفي واحد، ولا وليدة انطباع طارئ متسرع، بل نجده قد استخدام مناهج مختلفة، واستفاد من مجالات وحقول علمية عديدة لأنه يرى أن هندسة الأفكار وتصميم بناء وعمارة الحضارات وتشييد طرق الإقلاع وتعبيد مسارات النهوض أشق واصعب من هندسة الكهرباء، أو تصميم الأجسام المادية؛ لهذا فضل بن نبي لما تخرج من مدرسة هندسة الكهرباء أن لا يشتغل مهندسا للكهرباء، و أن يشتغل بدل ذلك مهندسا للفكر وباحثا عن أفضل التصاميم لهندسة النهضة وتحقيق الإقلاع الحضاري المنشود.
وفي هذا الصدد لا بد من التأكيد عند الحديث عن الجانب المنهجي والمعرفي عموما عند بن نبي، وغيره من المفكرين المُبدعين، على أهمية إعمال النظر المنهجي النقدي عند تناولهم لأهم القضايا والاشكالات التي تطرقوا إليها، لأنهم يعلمون أن أي إبداع فكري أو فلسفي أو في أي مجال علمي آخر، لا يُمكن أن يتحقق إذا لم يُسبق بقدر ما من النقد المنهجي، لأنه عن طريق النقد فقط يتم تجاوز كثير من الأفكار المعتادة، والغير مؤسسة على براهين وادلة أو تلك الأفكار التي يسميها بن نبي بالأفكار “الميتة” التي فقدت صلاحيتها على الرغم من صلتها بتراثنا وحضارتنا، نظرا لتبدل السياقات الزمانية أو المكانية المُعاصرة عن تلك التي نشأت بها أو نبتت فيها تلك الأفكار؛ وكذلك الأفكار ” القاتلة ” التي لم تنشأ في بيئتنا والتي تغزونا من الخارج ويُراد لها أن تحكم توجهنا في مجالات الحياة الاقتصادية أو السياسية من دون أن تكون بالضرورة موافقة لفصيلة دم حضارتنا أو لمنطلقاتنا المرجعية ولأهدافنا المُستقبلية، ويمكن تحديد ما أقصده بالتفكير النقدي بأنه هو “إعمال الفحص والتمحيص الدقيق للأفكار والنظريات المعروضة علينا، وتقييم الحلول التي تُقدم لنا، والنظر في مدى قبولنا أورفضنا لها، وقياس درجة ثقتنا في قبولنا أو رفضنا لها.
وختاما فإن أهم ما ميز رؤية ابن نبي ونظرته ومشروعه الفكري والحضاري هو: سعيه لتجاوز أغلب تلك الدعوات التي كانت تكتفي بتمجيد تاريخنا إلى حد التقديس لبعض أحداثه، أو تلك التي تكتفي بإعادة ذكر سير أبطالها وملاحمهم، أو الانتقاص والاحتقار لمكتسبات هذا التاريخ وعدم إعطائه ما يتناسب وقدره ضمن التاريخ الانساني العام. ودعا إلى تجاوز هتين الرؤيتين وتأسيس رؤية نقدية عميقة للتاريخ والحضارة تتسم بالكلية وتعيد تركيب مساره وتكشف أهم مفاصله، هذه هي الرؤية الفلسفية والحضارية التي تميز بها مالك بن نبي عن غيره من المفكرين وفلاسفة التاريخ السابقين أو المعاصرين له، من المسلمين أو من الغربيين .
وعلى المهتمين بالفكر الإسلامي المعاصر أن يُسهموا في فك هذا الحصار، وأن يكشفوا القناع عن القيمة الحقيقية لأفكار هذا المفكر ومدرسته، وتوجيه ما قدمته رؤيته الفلسفية العميقة للتاريخ والحضارة لتحقيق التأثير المطلوب منها على الساحة الفكرية والاجتماعية والسياسية، ولتمارس تأثيرها المرتقب في إثراء واقع المسلمين الفكري والحضاري في عصرنا الحاضر.