تفجرت مع العدوان الإسرائيلي على لبنان موجة طائفية ومناطقية مقيتة، استثمرت فيها بعض المجموعات ضربات الجيش الصهيوني على حزب الله، لتعلن فشل المشروع الإيراني في المنطقة، وتصب جام انتقامها على المقاومة اللبنانية مستحضرة ممارسات حزب الله في سوريا والعراق، بل وممارسات كل الميليشيات الشيعية في هذين البلدين العربيين، فيما تصايحت مجموعات أخرى في عدد من الدول العربية، بما في ذلك لبنان نفسها، بمخاطر «تهور المقاومة» وأنها تقود إلى تدمير الدول العربية القطرية، وتسبب في تفككها وتحقيق الدمار!
المثير للانتباه، أن هذه المجموعات طالما كانت تنتقد على حزب الله تخاذله في دعم المقاومة في قطاع غزة، وتعتبر أن تحركاته كلها تأتي بوحي من الحفاظ على المصالح الإيرانية، وأنه أبدا لن يتورط في حرب من إسرائيل لعيون غزة، ويجهز بذلك على المصالح الإيرانية ومشروعها في المنطقة.
المشكلة أن خطأ هذه المجموعات التي يؤثث مشهدها مثقفون وفاعلون سياسيون، وتغذيها من تحت دول متوجسة من تمدد المشروع الإيراني إلى مجال نفوذها، أنها لم تستوعب أنه في لحظة سقوط العراق، أو لحظة تفكك الدولة السورية، تباينت الرؤية بين مكونات الأمة، وأنه في الوقت الذي اختارت فيه القوى السنية في العراق مقاومة الاحتلال الأمريكي بالسلاح، اتجهت القوى الشيعية إلى المشاركة في اللعبة السياسية التي فصلت خطوطها واشنطن، وأنه في اللحظة التي اختارت فيه القوى السنية، أو جلها، أن تستثمر الحراك الإقليمي (الربيع العربي) للحسم التاريخي مع استبداد النظام السوري، كانت القوى الشيعية ترى أن القضية هي أكبر من قضية مواجهة استبداد النظام، وأنها تتعلق بتصفية محور من محاور مقاومة المشروع الصهيوني والأمريكي في المنطقة، وأن واجب الوقت يقتضي الوقوف منع هذا السيناريو ومقاومته بكل الوسائل.
الطائفية أضحت اليوم ورقة مربحة للمشروع الصهيوني، يحاول بها كسر وحدة مقاومة بين فلسطين ولبنان كسرت النعرة الطائفية حين ربطت بين وقف إطلاق النار على شمال فلسطين المحتلة ووقف الحرب على غزة
هذا الخلاف المركزي، يصعب فكه في العقل السياسي السني والشيعي، ويصعب أيضا إعمال منطق التخوين والعمالة لتحقيق غلبة هذا المكون على الآخر.
هذه المعادلات مفهومة، وتفاصليها جد مؤلمة، لاسيما على المستوى الميداني، لما تحول الفعل السياسي في سوريا إلى عمل عسكري من الطرفين: الذين يريدون إسقاط النظام، والذين يريدون دعمه، وتطلب تعميق النفوذ الشيعي في العراق ضدا على المصالح والأجندات الأمريكية ضرب المصالح السنية.
هذا التاريخ القريب مؤلم دون شك، لكن معادلاته مفهومة، وليس فيها إلا تباين التقدير السياسي في سوريا، بين مصالح إقليمية (مواجهة التمدد الأمريكي والصهيوني في المنطقة) ومصالح سياسية (إسقاط النظام المستبد) وفي العراق بين مشروع يريد اجتثاث الوجود الأمريكي بالمقاومة المسلحة (السنة) ومشروع ناور معه داخل نفس اللعبة التي أنشأها لأنه يعتقد أن العملية السياسية الأمريكية، في غياب السنة الذين اختاروا المقاومة، تعدم فيها أمريكا وجود لاعب سياسي محلي يخدم مصالحها، فتجمعت قوى الشيعة كلها لملء كل الفراغ الذي أحدثه غباء الاحتلال الأمريكي.
معارك السنة والشيعة في كل من العراق وسوريا، لها مبرراتها ومعادلاتها، ولا تزال بصماتها دون شك مؤثرة في مخيلة أصحابها، لكن، مع ذلك، لا ينبغي أن تصير موجهة لمعادلات أخرى مختلفة في معالمها، واضحة في جوهر صراعها، ولا يمكن أن يكون الاختلاف في التقدير السياسي بشأنها مبررا.
الخطير في الأمر، أن البعض بدأ يبشر بسقوط المشروع الإيراني في المنطقة، وبدلا من توجيه البوصلة إلى الأجندة الصهيونية والأمريكية في المنطقة، يتم تبرير ما يحدث بكونه من آثار المشروع الإيراني، الذي «قاد المنطقة العربية إلى الدمار والفوضى وتفكيك الدولة» على حد زعمهم، لكنهم في المقابل لا يطرحون أي سؤال على المشروع الذي تحمله الدول العربية في وجه المشروع الصهيوني المتمدد الذي اختار بدعم أمريكي أن يجعل من «صفقة القرن» رهانا لتيسير «اندماج إسرائيل في محيطها» بل ولابتلاعها لهذا المحيط برمته.
لقد انتهى هذا المشروع بالمبادرة العربية، ووضع الشروط النهائية التي لا يتصور تطبيع إسرائيلي دونها، وهي «حل الدولتين» و»دولة فلسطينية على حدود 1967، عاصمتها القدس الشرقية» واليوم، لم تعد هذه الشروط في أحسن أحوالها سوى قشة يتم التمسك بها للتحلل من ضغوط قاهرة تدفع للتطبيع، في حين لم تعد تعني شيئا بالنسبة لدول أخرى، أضحت تفكر بمنطق مصلحتها القومية الخاصة بعيدا عن قضية فلسطين والتزامات الوطن العربي اتجاهها.
مشكلة العقل العربي اليوم أنه لا يستطيع أن يميز بين المعادلات والسياقات، ولا يشبه في شيء عقلانية وبراغماتية العقل الغربي، الذي يتوحد في القضايا الاستراتيجية الجامعة، ويتعارك في القضايا الثنائية بأدوات السياسة أو حتى بالسلاح.
ما الذي يمنع العقل السياسي العربي، أن يميز بين السياقات، سياق سوريا، أو سياق العراق، وسياق تمدد المشروع الصهيوني إقليميا وكشط القضية الفلسطينية، فيتحدد بناء على هذا التمييز، إعطاء الأولوية للمعركة الاستراتيجية، ويتم التداعي بعد نهايتها للمعارك التكتيكية المحلية؟
المثير في الموقف، أن السذاجة السياسية بلغت ببعض هذه المجموعات إلى التصور بأن إيران تخلت عن محاورها الإقليمية، وأنها قالت لحزب الله كما قال أصحاب موسى له «اذهب أنت وربك قاتلا إنا ها هنا قاعدون» هذا في الوقت الذي لم تنتبه إلى أن مصر التي كان مسؤولوها على خلاف دائم مع حماس، ويسايرون السياسة الصهيونية في اتهامها بالتطرف والتسبب في الأزمات، أضحت بعد تكشف جزء من استراتيجية التهجير الصهيوني للفلسطينيين إلى سيناء أو الأردن، تعتبرها جزءا من جدار أمنها القومي، فكيف يمكن لإيران اليوم، وهي تواجه تحديات متعاظمة أن تتخلى عن الوحدات الأساسية التي ترص جداراتها البعيدة للأمن القومي؟
نتفهم أن يكون لدى بعض المجموعات السورية موقف من ممارسات حزب الله، ونتفهم أيضا أن يكون للقوى السنية مظالم كثيرة في العراق بسبب ممارسات الميلشيات الشيعية، لكن الظرفية ليست للنكاية والانتقام، لأن الطائفية أضحت اليوم ورقة مربحة للمشروع الصهيوني، يحاول بها كسر وحدة مقاومة بين فلسطين ولبنان كسرت النعرة الطائفية حين ربطت بين وقف إطلاق النار على شمال فلسطين المحتلة ووقف الحرب على غزة.